عفرين: خمس سنين حاجة ظلم !
جهة النشر: Syrians for Truth and Justice سوريون من أجل الحقيقة والعدالة
1. ملخص تنفيذي:
يستند هذا التقرير المشترك إلى تحليل 40 إفادة وشهادة جُمِعَت خلال أشهر آذار/مارس ونيسان/أبريل وأيار/مايو من عام 2023، حول انتهاكات جسمية لحقوق الإنسان وقعت في منطقة عفرين في أقصى شمال غربي البلاد.
تزامنت عمليات جمع الإفادات والشهادات من ضحايا وناجين/ات ومتضررين/ات من زلزال شباط/فبراير 2023، مع مرور خمس سنوات على خضوع المنطقة لسيطرة عسكرية مباشرة من قبل الجيش التركي إلى جانب فصائل سوريّة معارضة، وحدوث زلزال مدمّر، شهدت الاستجابة له انتهاكات واسعة ومتكررة أثناء وعقب تلك التدخلات.
بحسب الإفادات التي تمّ الحصول عليها لغرض هذا التقرير الموسع، فقد تورطت عدد من فصائل “الجيش الوطني السوري” التي تدعمها تركيا، في الانتهاكات التي تم توثيقها، لكن أسماء فصائل معينة تكررت بشكل أكبر عن بقية الفصائل، منها؛ “فرقة الحمزة/الحمزات” و”فرقة السلطان مراد” و”فيلق الشام” و”الجبهة الشامية” و”جيش الشرقية” و”أحرار الشرقية” و”جيش النخبة – قطاع الشمال” و”فصيل نورالدين الزنكي” وجهاز “الشرطة العسكرية”. بالإضافة إلى جهاز “الاستخبارات التركية” المسؤول عن حالات تعذيب وسوء معاملة وإهانة.
وكشفت الإفادات والشهادات التي ينحدر أصحابها من معظم نواحي عفرين،[1] أن تهمة العمل مع مؤسسات “الإدارة الذاتية” التي كانت مسيطرة على المنطقة حتى عام 2018، والانتماء لـ”حزب العمال الكردستاني”، كانتا ذريعتان أساسيتان لاعتقال وتعذيب العديد من السكان الكرد في المنطقة، إضافة إلى استخدامها حجّة للاستيلاء على ممتلكات بعضهم الآخر ومنعهم من العودة إلى منازلهم وأراضيهم.
من الأهمية بمكان الإشارة هنا، إلى أن تهمة العمل ضمن مؤسسات “الإدارة الذاتية”، أثناء فترة سيطرتها على المنطقة، قد تنسحب على نسبة كبيرة من سكان عفرين، ذلك أن الإدارة السابقة وعلى مدى سنوات سيطرتها، كانت سلطة أمر واقع، وكانت الخيار الوحيد للسكان للتعامل معها لتسيير مناحي وأمور حياتهم اليومية، سواء من أجل استحصال تراخيص أو أوراق ثبوتية أو الحصول على طبابة أو الدراسة والتدريس في المدارس والجامعات التي كانت موجودة في المنطقة أو الحصول على فرصة عمل ضمن مؤسساتها.
كما بينت إفادات أخرى، أن الاستيلاء على ممتلكات السكان الكرد إضافة إلى الاعتقال والتعذيب، لم ينحصر في الأشخاص الذين تمّ اتهامهم بالارتباط أو العمل مع الإدارة الذاتية، بل طال آخرين، كان بعضهم من المعارضين السياسيين للإدارة الذاتية نفسها. وبدا أن فصائل من “الجيش الوطني السوري” المعارض استخدمت أساليب تعذيب لإجبار المعتقلين على الإدلاء باعترافات عن أنفسهم أو أقاربهم وجيرانهم، وفق إفادات ضحايا اعتقال ومتضررين من الاستيلاء.
كان من جملة الشهادات التي تمّ جمعها لغرض إعداد هذا التقرير: 10 إفادات عن عمليات استيلاء فصائل من “الجيش الوطني” على مساكن وعقاراتٍ تعود ملكيتها لمدنيين في مدينة جنديرس وريفها، من بينها حالات تمّ فيها إسكان عوائل مقاتلين من الفصائل، أو تأجيرها لنازحين سوريين من مناطق أخرى، لكن زلزال الـ6 من شباط/فبراير 2023 ألحق خسائر فادحة بالمدينة، وتسبب بأضرار لبعض هذه المساكن، إمّا بشكل كلي أو جزئي، لتتحول المتضررة جزئياً منها إلى مساكن شاغرة، بعد خمس سنوات من الاستيلاء عليها، فيما أزيل ركام المساكن المهدمة كلياً ولم يتبق منها غير محاضرها السكنية، وقد عبّر مهجرون قسراً من أصحاب هذه المساكن في إفاداتهم، عن خشيتهم من عملية إعادة استيلاء، قد تحدث هذه المرة، على محاضر عقاراتهم المتبقية بعد الزلزال بحجة التعافي المبكّر أو إعادة الإعمار، ما قد يفقدهم حقوق الملكية فيها إلى الأبد.
من جانب آخر، يوثق التقرير، عمليات استيلاء واسعة على ممتلكات من أتباع الديانة الايزيدية في المنطقة، شملت استيلاء على منازل وبساتين زيتون ومحال تجارية، جرى تحويل بعضها إلى مقار أو قواعد عسكرية، فيما تمّ إسكان بعضها بعوائل مقاتلين من الفصائل إلى جانب عوائل نازحة من مناطق سورية أخرى.
فعلى سبيل المثال، استولى فصيل “الجبهة الشامية” على كامل قرية بافليون في ناحية شران، وهي قرية جميع سكانها من الايزيديين، الذين منعوا من العودة إليها، وجرى توطين نازحين سوريين من مناطق أخرى مع عائلات عناصر الفصيل في منازل القرية، وفق إفادات نازحين من سكانها.
وتوضح الإفادات أن عمليات الاستيلاء على الممتلكات والمساكن والأراضي والعقارات، تمت لأغراض عديدة، منها لإسكان عوائل مقاتلي فصائل من “الجيش الوطني”، أو لغرض تأجيرها وإسكان نازحين من مناطق سورية مختلفة فيها، أو لتحويلها إلى مقرات للفصائل أو لقواعد عسكرية تركية، كما تم تحويل مبنى سكني واحد على الأقل إلى مرفق خدمي من جانب منظمة مقرّبة من تركيا، فضلاً عن تحويل عائدات حقول وبساتين ومنازل تم الاستيلاء عليها، إلى مصادر دخل للفصائل، وهي ممارسات اتبعها أكثر من فصيل في مناطق متفرقة من منطقة عفرين.
وتؤكّد الإفادات أيضاً، حدوث حالات تعذيب بعد عمليات اعتقال أو خطف من جانب فصائل “الجيش الوطني”، من بينها إفادتين لناجيين ايزيديين، هما رجل مسن وامرأة، تعرض المسن للخطف والتعذيب، قبل أن يطلق سراحه مقابل فدية مالية، فيما تعرضت المرأة إلى اعتقال وتعذيب، قبل أن يحكم عليها بالسجن عدة سنوات، بالإضافة إلى حالة تعذيب أخرى، شهد فيها الضحية وقوع حالات اغتصاب متكررة داخل مركز احتجاز يقع في إعزاز سُجّل فيه تواجد عناصر من جهاز الاستخبارات التركية.
وتشترك عدد من الإفادات في أن أصحابها تعرضوا لأكثر من انتهاك من جانب فصائل “الجيش الوطني”، كحالة امرأة أخفيت قسرياً، لعامين ونصف على يد فصيل “الحمزة/الحمزات”، فيما توفي زوجها داخل سجون الفصائل، كما استولى فصيل “صقور الشام” على ممتلكاتهم في القرية، كذلك تشمل الإفادات حالة مدني كردي تعرض للتعذيب على يد مجموعة من فصيل “جيش الشرقية” في جنديرس، لدى عودته ومطالبته باستعادة بيته من الفصيل عام 2018، ليعود عناصر من ذات الفصيل ويقوموا بقتله مع عدد من أشقائه، على خلفية إيقادهم لشعلة نوروز في 20 آذار/مارس 2023.
إن توزع الانتهاكات التي تم توثيقها في هذا التقرير وتقارير محلية ودولية عديدة على معظم مناطق عفرين، وفي مناطق نفوذ أكثر عدد من فصائل الجيش الوطني التي تتحكم بها تركيا، وفي ظل تجاهل تركي لمعظم النداءات التي أطلقتها المنظمات الحقوقية الدولية والمستقلة إضافة إلى الأمم المتحدة، لوضع حد لهذه الانتهاكات الجسيمة، خلال السنوات الماضية، يقدم مؤشراً إضافياً، على احتمالية قويّة بأن تكون أنقرة هي التي أطلقت يدّ هذه الفصائل لارتكاب تلك الانتهاكات.
من الجدير بالذكر، أن منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية سابقاً، باتت ساحةً لانتهاكات حقوق إنسان لا حصر لها، حيث تواصل فصائل “الجيش الوطني السوري” ارتكاب أنماط متكررة وممنهجة من الانتهاكات، ومنذ احتلال المنطقة عام 2018، وثقت العديد من المنظمات الدولية والمحلّية المستقلة واللجان الأممية انتهاكات واسعة تضمنت القتل، والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، وسوء المعاملة والتعذيب والنهب ومصادرة الممتلكات، إضافة إلى إجبار السكان الكُرد على ترك منازلهم، وعرقلة عودة السكان الأصليين، وممارسات التتريك والتغيير الديمغرافي.
2. منهجية التقرير:
يستند هذا التقرير في منهجية الإثبات على تحليل 40 إفادة وشهادة جُمِعَت من قبل “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بالاشتراك مع منظمات “رابطة تآزر للضحايا” و“بيل- الأمواج المدنية” و “جمعية ليلون للضحايا“، إما عبر اللقاء المباشر/الفيزيائي أو عبر الإنترنت، مع شهود وناجين/ات ومتضررين/ات مقيمين/ات في منطقة عفرين أو نازحين/ات منها، أو مقيمين/ات في مخيمات وقرى بريف حلب الشمالي، أو مقيمين/ات في محافظة الحسكة.
وشملت الإفادات والشهادات التي تم جمعها ستة مناطق من أصل سبعة من عفرين، من بينها 10 إفادات تركزت في مدينة جنديرس وريفها، على اعتبار أنها كانت من أكثر المناطق التي تضررت جراء زلزال السادس من شباط/فبراير 2023.
وتضمن التقرير 10 إفادات لناجين ومتضررين ايزيديين من مجموعة قرى، منها قرية بافليون التي تم الاستيلاء عليها بشكل كامل من جانب فصيل “الجبهة الشامية”. كما شمل التقرير على ست إفادات عن حالات تعذيب تضمنت كبار سن ونساء ورجال، مسلمين وايزيديين ومسيحي، تعرض بعضهم لأكثر من انتهاك.
تم التحقق من الوثائق والصور والمعلومات التي وردت في أغلب الإفادات من خلال مقاطعتها مع المصادر المفتوحة عبر شبكة الإنترنت، إضافة إلى ربطها بصور الأقمار الصناعية، كما استند التقرير على توضيح السياق العام الذي جرت فيه الانتهاكات في السنوات الخمسة بالاعتماد على المقاطع والصور التي وفرتها المصادر المفتوحة، فضلاً عن تقاطعها مع تقارير أعدتها “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” خلال نفس الفترة، إضافة إلى العديد من التقارير التي أصدرتها المنظمات الحقوقية السورية والدولية المستقلة.
إن استخدام أسماء مستعارة لجميع من تمت مقابلتهم في هذا التقرير، مع إخفاء أجزاء بعض الإفادات، وعدم إيراد بعض الإفادات الأخرى بأكملها والاكتفاء بإحصاء الانتهاك وذكر القصة، جاء أمّا بناءً على طلب من أصحابها، أو/و بهدف تجنيب الشهود وذوي الضحايا والناجين من أية أعمالٍ انتقامية، خاصة وأن الإفادات أوضحت تعرض عائلات بعض الضحايا للتهديد من جانب فصائل “الجيش الوطني”.
وكان من بين هذه الحالات التي تم إغفال الإفادات فيها بشكل كامل، حالة مدني قتل تحت التعذيب في سجون فصائل “الجيش الوطني”، وقالت عائلته إنه اعتقل بداية من جانب الاستخبارات التركية. وحالة معتقلة قالت عائلتها إنها تعرضت للتعذيب وفقدت ذاكرتها، قبل أن يجري الحكم عليها بالسجن عدة سنوات. إضافة إلى حالة استولت فيها منظمة مدنية على عقار تعود ملكيته لنازح، وحولته إلى مرفق عام.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن منطقة عفرين شهدت تدخلاً لـ”هيئة تحرير الشام” المدرجة على لوائح الإرهاب العالمي، في مناسبتين على الأقل خلال العام 2022، وذلك على خلفية دعمها لفصائل من “الجيش الوطني” ضد فصائل أخرى، ما أسفر في المرة الأخيرة عن تغيراً لخارطة النفوذ في منطقة عفرين، لصالح فصيلي: فرقة “الحمزة/الحمزات” وفرقة “السلطان سليمان شاه/العمشات”، على حساب فصائل الفيلق الثالث، التي يشكل فصيل “الجبهة الشامية” عمودها الفقري.
وقد بدا تأثير ذلك واضحاً في إفادات بعض الضحايا والمتضررين من عمليات الاستيلاء ممن تمت مقابلتهم، حيث كان يختلط عليهم أسماء الفصائل وترتيب سيطرتها على منازلهم، بحكم انتقال قراهم من سيطرة فصيل إلى سيطرة آخر، نتيجة المواجهات المشارة إليها آنفاً، وبحكم صعوبة التواصل مع قراهم خشية أن تكون أجهزة وخطوط الهواتف مراقبة، وفق ما عبر العديد منهم.
3. استيلاء على الممتلكات واسع النطاق:
تدعم جملة الإفادات التي تم الحصول عليها لغرض إعداد هذا التقرير، حقيقة أن عمليات الاستيلاء على ممتلكات المدنيين شملت غالبية نواحي منطقة عفرين، كما أن تهمة العمل ضمن مؤسسات الإدارة الذاتية الكردية السابقة أو “الانتماء إلى حزب العمال الكردستاني” ، كانت الذريعة التي تمّ بموجبها الاستيلاء على العديد من ممتلكات مواطنين كرد في المنطقة.
وبالنظر إلى أن مؤسسات الإدارة الذاتية وعلى مدى سنوات، كان الخيار الوحيد للكثير من السكان للحصول على فرصة عمل، لذا يمكن لهذه الذريعة أن تنسحب على نسبة كبيرة من سكان عفرين.
وبحسب العديد من الإفادات الأخرى، جرى الاستيلاء حتى على مساكن مدنيين كرد ممن لم يثبت عملهم مع مؤسسات الإدارة الذاتية المدنية أو العسكرية، لا بل أن عمليات الاستيلاء وصلت في بعض الحالات إلى درجة الاستيلاء على قرى بأكملها أو على أجزاء واسعة منها، بما فيها من ممتلكات ومساكن وأراضٍ، فيما منع سكانها الأصليون من العودة إليها، رغم مرور خمس سنوات على سيطرة الفصائل على المنطقة.
يعتقد العديد ممن تمّت مقابلتهم لغرض إعداد هذا التقرير، بأنّ السبب الاساسي وراء استيلاء فصائل المعارضة المسلّحة المدعومة من تركيا على ممتلكاتهم وممتلكات الأهالي في منطقة عفرين، يعود إلى كونهم كرداً فقط. |
في ناحية بلبل التي تقع شمال عفرين، تشير إفادات نازحين متضررين إلى سيطرة “فرقة الحمزة” على البلدة (مركز المنطقة)، فيما نفذ عناصرها عمليات نهب واسعة. عن ذلك تحدث نازح من بلبل، اختار اسم “هارون محمد” عن كيفية حصوله على صور وثقت عملية استيلاء فصيل “الحمزة” على ممتلكاته، قائلاً في إفادته:
“بعد نزوحنا من عفرين، تواصل معي نازح عربي قال إنّه ينحدر من محافظة حمص، وإنّه (فاعل خير)، وأرسل لي صورتين لجرافتي، وقد كتب عليها اسم قيادي من الفصيل المستولي على ممتلكاتي في عفرين، وأخبرني أن رقم الهاتفٍ المدون على الآلية (الجرافة)، مكّنه من الاتصال وأرسال الصور.”
وأضاف “هارون” المقيم حالياً مع عائلته في ريف حلب الشمالي:
“نهب عناصر فرقة الحمزة، كل شيء في البيت، بما فيه من أثاث وأدوات كهربائية، مع 100 تنكة زيت، وقاموا بفك أربعة ألواح للطاقة الشمسية مع ثلاث بطاريات، إضافة إلى مصادرة سيارتي (من نوع مازدا بيك آب) التي حولوها إلى سيارة لأمنية الحمزات، وجرافتي (الباكر).”
وقد زوّد المصدر “سوريون” بصورتين للجرافة التي تعّرضت للاستيلاء من قبل فصل الحمزات. وقد كتب عليها اسم القيادي العسكري على الجرافة: وأشار “هارون” في إفادته حول مصير بيته قائلاً:
“حول قيادي من الحمزة، بيتي إلى مقر له، نظراً لمساحته الكبيرة، كما استولى الفصيل على 6 بساتين من أراضينا المزروعة بالزيتون والكرم والخضار، والحجة هي عمل اثنين من أبنائي مع مؤسسات الإدارة الذاتية.”
في ناحية بلبل أيضاً، خسر المدني الكردي الذي اختار الاسم المستعار “أسعد يوسف” كل ممتلكاته بعد سيطرة فصائل من “الجيش الوطني” على قريته شيخ روز/شيخورز. حيث قال في إفادته:
“خَسِرتُ بيتي ومعصرة زيتونٍ، كان قد حولها مستثمر في العام 2013 إلى معمل لصناعة الأقمشة، إضافة إلى أرض تضم نحو 500 شجرة زيتون تقع على طريق قرية عبودان/آبودان، المجاورة لقريتنا.”
وأضاف النازح المقيم حالياً في إحدى قرى ريف حلب الشمالي، عن سبب عدم السماح لهم بالعودة إلى منازلهم، ما يلي:
“سيطر الجيش التركي وفصيلي جيش النخبة (قطاع الشمال)، وصقور الشمال على قريتنا التي تتكون من ثلاثة أجزاء؛ فوقاني ووسطاني وتحتاني، ولم يكن من المسموح لسكان قريتنا، العودة إليها، إلا أنهم سمحوا لسكان الجزأين الأوسط والأسفل بالعودة قبل عام، فيما لا يزال الحظر مستمراً علينا في الجزء الفوقاني، والسبب يعود إلى انتشار الجنود الأتراك في قريتنا، بينما يقوم الفصيلان المذكوران بحمايتهم من خلال حواجز تنتشر في محيط القرية”.
وحول ما تعرض له من خسائر، أضاف النازح في إفادته ما يلي:
“تعرض بيتي ومعصرتي للقصف خلال الهجوم على ناحيتنا، وقد تم سرقة واقتلاع تمديدات الكهرباء من الجدران، كما تم الاستيلاء على جميع ممتلكاتنا في البيت وفي المعصرة، وذلك بحجة انتمائي لحزب العمال الكردستاني، كما قام عناصر الفصيل المسيطر، باستخراج الحديد من سقف المعصرة”.
وفي إفادة نازح كردي آخر، عن استيلاء فصيل جيش النخبة- قطاع الشمال، على ممتلكات عائلته في قرية بناحية شران، قال النازح الشاب، الذي استعار اسم “أحمد عمران” ما يلي:
“أكثر موقف مؤلم لا زلت اتذكره، ونحن على وشك النزوح من قريتنا، حين قام فيه والدي بوضع نسخة من القرآن الكريم في مكان بارز على التلفاز، وأجابني عندما سألته عن سبب فعله لذلك: إن حدث لا سمح الله، ودخلوا بيتنا، قد تمنعهم معرفة أننا مسلمون مثلهم، من إحراق بيتنا أو نهبه وسرقة محتوياته”.
وأضاف الشاب، الذي تقيم عائلته منذ خمس سنوات مع نازحين من منطقة عفرين في قرية بريف حلب الشمالي، في إفادته:
“كان أبي مدرساً متقاعداً ويعتمد على ما لديه من أرضِ زيتون وكرم كمورد دخل، وأنا أكبر أخوتي وكنت أدرس الشهادة الثانوية عندما حدث الهجوم على منطقة عفرين، وقد استولى فصيل جيش النخبة – قطاع الشمال على بيتنا وبيت مجاور كان والدي قد اشتراه من عمي قبل ذلك بعام، وبعد فترة من سيطرة الفصيل على القرية أدخل عناصره الشاحنات وبدأوا بنهب الأدوات والأجهزة الكهربائية من المنازل، كما تعرض بيتنا لسرقة الأبواب والشبابيك وانتزاع التمديدات الكهربائية من الجدران، وبقي البيتان فارغين لفترة من الوقت، قبل أن يُسّكِنوا فيهما عائلتين من عوائل مقاتليه، أعادتا تركيب الأبواب والشبابيك والتمديدات الكهربائية في البيتين”.
وأشار الشاب في إفادته إلى عدم توفر ذريعة للاستيلاء على ممتلكاتهم، قائلاَ:
“على الرغم من أن أفراد عائلتي جميعاً لم يعملوا مع مؤسسات الإدارة الذاتية، لكن ذلك لم يمنع الفصائل من الاستيلاء على ممتلكاتنا، كما أن التعذيب الذي تعرض له أحد جيراننا، بعد عودته، على يد الفصيل المسيطر، ألغى لدينا أي تفكير بإمكانية العودة إلى القرية”.
3.1. استيلاء على ممتلكات عامة:
في الحي السفلي (التحتاني) من مدينة جنديرس والذي يعتبر من أقدم أحياء المدينة، كانت ذات التهم حاضرة أيضاً لتبرير عمليات الاستيلاء على ممتلكات المدنيين. حيث قال مدني كردي، عرَّفَ عن نفسه باسم “سوار شيخو”، في إفادته ما يلي:
“تمّ الحجز على ممتلكات أبي، بعد تصنيفها من أملاك الإدارة الذاتية، على اعتبار أن ثلاثة أشخاص من عائلتنا كانوا يعملون في مؤسسات تابعة للإدارة الذاتية، وقد استولى فصيل فيلق الشام على قطعتين من أصل ثلاثة من أراضينا، وقام بتسليمها إلى وكلاء من قرية قريبة من جنديرس، فيما استولى فصيل (آخر) على قطعة الأرض المتبقية، ولا أعلم تحديداً إن كان هذا الفصيل هو أحرار الشرقية أم جيش الشرقية”.
ذكر “سوار” أسماء عدة فصائل، تناوبوا في الاستيلاء على منزلين لعائلته خلال خمسة أعوام، قائلاً:
“في البداية، سيطر فصيل نور الدين الزنكي على بيتنا، وقام عناصره بنهب جميع محتوياته من أثاث ومقتنيات، وبعد ثلاثة أشهر تغيرت خارطة السيطرة على جنديرس، وأصبح بيتنا تحت سيطرة فصيل فيلق الشام، الذي أسكن فيه عائلات ثلاثة من مقاتليه المنحدرين من الغوطة الشرقية، ومنذ ذلك الوقت بدأت تتغير معالم البيت، إذ بُنيت أربعة مباني جديدة في باحة بيتنا. وحالياً تسكن فيه عوائل عناصر من الشرطة العسكرية، لكننا لا نعلم عدد هذه العائلات”.
اللافت أن المصدر أشار أيضاً، إلى أن عملية الاستيلاء على منزليّ عائلته، تبعتها عملية استيلاء على مدرسة ثانوية مجاورة لهم، كانت قد تعرضت لأضرار كبيرة، إبان الهجوم التركي على منطقة عفرين. حيث قال:
“في الطرف الآخر من الشارع، قبالة بيتنا، كانت ثانوية الشهداء (التي تحول اسمها إلى مدرسة الشهيدة روناهي في عهد الإدارة الذاتية)، لكنها تعرضت للقصف خلال الهجوم، وسويت بالأرض، من ثم بنيت مساكن للشرطة العسكرية مكانها.”
لكن لا تبدو عملية الاستيلاء على مدرسة الشهداء في جنديرس، وبناء مساكن للشرطة العسكرية على أنقاضها، هي الحالة الوحيدة التي جرى فيها الاعتداء على مرافق عام في المدينة، بحسب ما أضافه “سوار” في إفادته:
“أزالت الفصائل الأنقاض التي خلفها القصف التركي على مدينة جنديرس بسرعة، بعد السيطرة عليها، حيث أزيلت معصرة حكومية بشكل كلي، كما أزالوا معها ركام بيت لأحد أبناء عمومة أبي، كان قد تهدم بشكل كامل، فيما تهدم نصف بيت ابنه، في الجوار، وحولوا تلك المنطقة إلى ساحة.”
3.2. الاستيلاء في ريف جنديرس:
بالانتقال إلى ريف جنديرس لا يبدو الحال مختلفاً عن المدينة، حيث ترتكب الفصائل المسيطرة انتهاكات مشابهة من حيث الاستيلاء على ممتلكات النازحين من سكان القرى.
وتبين أحد الإفادات التي جمعها باحث لمنظمة “بيل – الأمواج المدنية” أن فصيل من فصائل المعارضة السورية التي تتحكم بها تركيا قد استولى على عدة هكتارات من الأراضي التي تعود ملكيتها لمدنيين اثنين في إحدى القرى التابعة لجنديرس، ومن ثم حوّل الفصيل هذه الأراضي إلى نقطة عسكرية رغم رفض أصحاب الأرض عروضاً زهيدة قدمها الفصيل من أجل شرائها أو استئجارها.
وفي قرية كفر صفرة، القريبة من مدينة جنديرس أيضاً، استولى فصيل “سمرقند” على العديد من منازل سكانها النازحين، وبحسب المعلومات التي حصل عليها الباحث ميداني لـ”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” فإن قيادي عسكري واحد من “الجيش الوطني”، استولى على ستة منازل تعود ملكيتها لمدنيين كرد نزحوا من المدينة بعد سيطرة الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية على منطقة عفرين في العام 2018.
في قرى أخرى من ريف جنديرس، جرى استيلاء مماثل، كما في قرية رأس الأسود/فقيران، حيث قال نازح ايزيدي اختار اسم “محسن سليم” في إفادته، قائلاً:
“من يسكن بيتي حالياً، شخص عربي ينحدر من حمص، وقد كسر الأقفال وسكن، لكني لا أعلم إن كان هو المسؤول عن سرقته أم لا. وقد قطع الفصيل المسيطر على قريتنا، 25 شجرة زيتون من أشجاري التي يصل عددها إلى 50 شجرة، كما قطعت الكثير من الأشجار في القرية”.
4. ضحايا لانتهاكات مزدوجة:
أظهرت إفادات العديد من النازحين/ات والمتضررين/ات والناجين/ات، في هذا التقرير تعرض العديد منهم لطبقات متعددة من الانتهاكات. “شيرين ناصر” وهو اسم مستعار لنازحة كردية من سكان قرية الرأس الأحمر/قزلباش التابعة لناحية بلبل، تحدثت أيضاً عما تعرضت له من انتهاكات على يد فصائل “الجيش الوطني”، رغم أنها وجميع أفراد عائلتها، لم يعملوا في مؤسسات الإدارة الذاتية:
“نزحنا من عفرين إلى منطقة تل رفعت، وهناك أقمنا أنا وخطيبي عرسنا، وبعد ثلاثة أشهر، قررنا العودة إلى عفرين. حينها كانت الفصائل قد استولت على بيتنا، وأسكنت فيه عائلة عربية لأحد مقاتليها، كما استولوا على عدد كبير من المنازل في القرية”.
وأضافت “شيرين” عن التهمة التي اعتقلت بموجبها والتي فقدت زوجها لاحقاً في سجون فصائل “الجيش الوطني”:
“اعتقل زوجي في عفرين، وبقيت أبحث عنه لثلاثة أشهر إلى أن اعتقلت بتهمة لم أفهم ما هي بالضبط، حيث قالوا لي أنت لست زوجته، بل جئت لتنقلي المعلومات إلى الإدارة والحزب عبر إغرائنا بجمالك، رغم أني لم أعمل قبل ذلك لا مع الإدارة الذاتية ولا مع غيرها، بحكم صغر سني، وقد قضيت في السجن عامين ونصف.”
وقالت الشابة عن مصير زوجها وظروف انتحاره في سجون فصائل “الجيش الوطني” ما يلي:
“أخبرني أحد زملاء زوجي ممن خرجوا من السجن إنه انتحر، لأنه لم يتحمل التعذيب، لكننا لم نتسلم جثته حتى الآن، وزميله هذا كان يقيم معه في المهجع ذاته، وقال إنه انتحر شنقا في سجن عفرين (الذي يشرف عليه فصيل السلطان مراد)، قبل يوم من موعد تحويله إلى سجن الاستخبارات التركية، المعروف بسجن البرادات الذي يقع خارج مدينة عفرين بالقرب من مقالع قرية عرش قيبار”.
و”شيرين” هي واحدة من ثماني فتيات كرديات تم الكشف عن مصيرهن مصادفة في أيار/مايو 2020، إبان هجوم مدنيين غاضبين على مقر لـ”فرقة الحمزة/الحمزات” وسط مدينة عفرين واقتحامه، على خلفية اعتداء عناصر من الفصيل على محال تجارية، وتسببهم في مقتل وجرح ما لا يقل عن خمسة أشخاص، ليجري إطلاق سراح “شيرين” وعدد من زميلاتها بعد ذلك، جراء انتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتغطيته من جانب وسائل الإعلام.
وكانت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” قد نشرت تقريراً خاصاً مطلع آب/أغسطس 2020، ألقى الضوء على هؤلاء المعتقلات اللواتي أخفين قسراً مدة عام في سجن لفرقة “الحمزة/الحمزات”، وقد ولدت إحداهن في المُعتقل.
4.1. استيلاء مسلح:
“سوسن تحسين” وهو اسم مستعار لنازحة كردية من إحدى قرى ناحية شيخ الحديد، قالت في إفادتها عن الطريقة التي استولى بها فصيل “الوقاص” على منزل والد زوجها:
“ما أن فتحت الطرقات بعد استيلاء الفصائل على عفرين في العام 2018، حتى عدنا سريعاً من المدينة إلى قريتنا، لنجد أن فصيل الوقاص كان قد نهب بيتنا مع بيوت القرية، وبعد ساعات من وصولنا، جاء عناصر الفصيل وأخرجونا بالقوة، بعد تهديد عمي بالقتل ووضع البارودة في رأسه، من ثم أسكنوا عائلة عربية من أحد عناصرهم فيه”.
وأضافت “سوسن” التي تقيم حالياً في منزل للإيجار بمدينة عفرين عن مصير بيتها في القرية رغم تحوله إلى سيطرة فصيل “السلطان سليمان شاه/العمشات” نهاية العام 2022:
“بقي منزلنا بيد فصيل الوقاص لأكثر من ثلاث سنوات، من ثم تبدل الفصيل وبات بيتنا تحت سيطرة فصيل العمشات، وعندما راجعناهم من أجل استعادة بيتنا، طلب عناصره، دفع مبلغ مالي يفوق استطاعتنا”.
5. انتهاكات بحق الأقلّية الايزيدية:
لم يسلم الايزيديون، الذين تؤكد مصادر على وجودهم الممتد لقرون في منطقة عفرين، من سياسة الاستيلاء على الممتلكات، كما إن الأعداد القليلة المتبقية منهم، أصبحوا خلال السنوات الماضية، عرضة لانتهاكات شتى، استهدفتهم كأفراد إلى جانب استهداف هويتهم الثقافية والدينية، وفق ما وثقته تقارير حقوقية عديدة؛ حيث وثقت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في تقرير لها صدر في نيسان/أبريل من العام 2022، حادثة تفجير مبنى “الاتحاد الإيزيدي” وهدم نصب “لالش النوراني” و”تمثال زردشت” المقامان داخل حديقة المبنى، على يد عناصر من الفيلق الأول والفيلق الثاني التابعين لـ”الجيش الوطني”.
كما تعرضت غالبية مزاراتهم الدينية، لعمليات نبش وتخريب وهدم، إضافة إلى هدم وتخريب قبورهم في أكثر من قرية. وكانت لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا قد قالت في تقريرها الصادر في أيلول/سبتمبر من العام 2020 إن “عدة أضرحة ومقابر ايزيدية هدمت عمدًا في جميع أنحاء عفرين مثل قسطل جندو، وقيبار، وجنديرس وشران”، كما أشار التقرير إلى أن ذلك زاد من الصعوبات التي يواجهها الايزيديون كأقلية دينية في المناطق التي يسيطر عليها “الجيش الوطني السوري”، وأثّر في جوانب مادية وغير مادية من تراثهم الثقافي بما في ذلك ممارستهم لطقوسهم الدينية.
كما مُنِعَ الايزيديون من ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية إلى جانب إجبار نسائهم على الالتزام باللباس الإسلامي فضلاً عن اتهامهم بالكفر، إضافة إلى تسجيل محاولات لإجبارهم على اعتناق الإسلام، أو ترغيبهم من خلال وعود بإعادة ممتلكاتهم المستولى عليها، كما تقول بعض الإفادات التي حصلنا عليها لغرض إعداد هذا التقرير.
5.1. استيلاء على قرية بافليون الايزيدية:
توزع الايزيديون على 22 قرية في منطقة عفرين، بعدد تراوح ما بين 25 ألف إلى 30 ألف شخص، إلا أنّ التقديرات تشير إلى انخفاض أعدادهم إلى ما دون الـ5 آلاف منذ سيطرة فصائل “الجيش الوطني” على المنطقة العام 2018.
وأظهرت العديد من الإفادات التي تم جمعها لغرض إعداد هذا التقرير، أن أكثرية من تبقى في القرى باتوا من كبار السن، كما أن أعداداً قليلة اختارت العودة إلى قراها، فيما تم الاستيلاء على قرية بافليون بشكل كامل، وأسكنت فيها عوائل عربية مسلمة من فصائل “الجبهة الشامية”، إلى جانب عائلات عربية نازحة من مناطق سورية أخرى. في بلدة تربسبيه/القحطانية بريف قامشلي الشرقي التقى الباحث الميداني لـ”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بـالنازح الايزيدي “ولات منان” الذي ينحدر من قرية بافليون، حيث قال في إفادته:
“فقدت جميع ممتلكاتي في القرية، من بيت العائلة إلى أراض كانت مشجرة بأكثر من 3 آلاف شجرة زيتون، فضلاً عن بيتين في حي الأشرفية بمدينة عفرين، أحدهما لي والآخر لأخي، ولا أعلم من يسكن بيتنا في القرية، إذ لا يسمح، حتى الآن، لأحد من سكانها بالعودة إليها، بينما استولت الشرطة العسكرية على بيتي في الأشرفية، وكتبت على جدرانه عبارة، سكن عائلي للشرطة العسكرية، حيث يسكنها حاليا ً، مسلحان شقيقان عربيان من مدينة حلب.”
وحول ما واجهته عائلته عقب نزوحهم من عفرين، أضاف “ولات” في إفادته:
“لازلت أتذكر مشهد الأشلاء المتناثرة من بقايا أيادي وأرجل، الذي رأيناه ونحن نجتاز قرية عيندارة جنوب عفرين، حين قصف الطيران سيارة مدنية كانت تقل نساء مع بعض رؤوس الماعز، فقمت حينها بتغطية عيني طفلي ميرفان حتى لا يعلق شيء من ذلك المشهد في ذاكرته، ولأن والدي كان مصاباً بالسرطان ووالدتي كفيفة ومصابة بالزهايمر، كان علينا الانتقال بسيارتنا الخاصة سريعاً إلى منطقة الجزيرة، وقد حدث ذلك بصعوبة بالغة، لكننا اضطررنا لاحقاً للتنقل بين عدة مدن إلى أن استقر بنا الحال مدة سنتين ونصف في بلدة معبدة/كركي لكي بريف الحسكة، وهناك توفي والداي، بفارق عشرين يوماً، فقط.”
ويعتقد “ولات” أن سبب وفاة والده بالدرجة الأولى، يعود إلى نزوحهم من عفرين، وأن لا علاقة للسرطان بذلك سوى أنه سرّع من الأمر، ذلك أنه كان يعاني منه لسنوات قبل ذلك، ويستشهد النازح في حديثه بأسماء عدد من كبار السن من أقاربه وجيرانه ومعارفه ممن قضوا خلال السنوات الماضية، كرباً في مخيمات النزوح أو في مدن وقرى لم تنسهم الإقامة فيها، قراهم وبساتين الزيتون
وقد زوّد المصدر “سوريون” بمجموعة من الصور تُظهر الكتابات على منزله في حي الأشرفية:
صورة لمنزل ولات بعد الاستيلاء عليه.
بشكل مماثل، فقدَ “حنان سلمو” وهو اسم مستعار لنازح من سكان قرية بافليون، بيته بعد سيطرة الفصائل على قريته، حيث أفاد:
“فقدتُ مع اثنين من أخوتي ثلاث منازل متجاورة، إلى جانب أراض مزروعة بنحو 1800 شجرة زيتون لا تزال باسم والدي المرحوم، وقد تم الاستيلاء عليها من جانب فصيل الجبهة الشامية”.
وأضاف “حنان” عن عدم سماح الفصيل المسيطر على قريتهم بالعودة إليها، قائلاً:
“لا يسمح الفصيل لسكان قريتنا بالعودة، وقد حاولت خمس عائلات العودة إلى القرية، قبل نحو سنتين لكنهم جوبهوا بالرفض، لذا لم يكن أمامي إلا خيار البقاء في قرية الأحداث، التي كنت أقيم فيها بمنزل مع عائلتي، ولكنني اضطررت بعد الزلزال، إلى السكن في خيمة نصبتها أمام البيت بعد تضرره بشكل كبير.”
5.2. الاستيلاء بغرض التحويل إلى مقرات وقواعد عسكرية:
في قرية باصوفان، أيضا فقد الكثير من سكانها ممتلكاتهم، وفق ما أفاد الشقيقان الايزيديان “شيروان وشيراز”، في لقاءين منفصلين، حيث تحدثا عن استيلاء فصيل “فيلق الشام” على فيلّا للأول وبيت للثاني، حيث جرى تحويلهما إلى مقرين للفصيل، كما خسر الأخوين بالإضافة إلى محتويات منازلهم التي سرقت من جانب الفصيل، أراض زراعية وبساتين زيتون.
وحول حادثة استيلاء، خسر فيها كلا الأخوين قطعة أرض يشتركان في ملكيتها، قال “شيروان” في إفادته:
“في شهر تموز/يوليو عام 2019، اقتلع الفصيل حوالي 1000 شجرة من مختلف الأنواع، تعود ملكيتها لمجموعة من سكان القرية، كان من بينها 100 شجرة زيتون لي، وعندما قصدهم وفد من القرية لتقديم شكوى، قالوا لهم إن المنطقة التي تم اقتلاع الأشجار منها ستتحول إلى قاعدة للجيش التركي، وهي للنفع العام.”
وفي قرية قسطل جندو المجاورة، التي سيطر عليها فصيل “الجبهة الشامية”، قالت “أسماء حسن” وهو اسم مستعار لنازحة ايزيدية تقيم بقرية في ريف حلب الشمالي مع عائلاتها:
“لدينا بيت في القرية بجانبه بيت جدي الذي كان يقيم فيه عمي مع ثلاثة من عماتي، وكنا نمتلك أراض مزروعة بنحو 2000 شجرة، منها 1000 شجرة زيتون، إضافة إلى بيت في مدينة عفرين، وقد تم الاستيلاء عليها جميعها بعد نهبها بالكامل. ما علمناه لاحقاً أن الفصيل المسيطر على القرية قد حول أحد بيوتنا إلى مقر عسكري، فيما يسكن شخص من مدينة أعزاز البيت الآخر، كما تسكن عائلة نازحة بيتنا في حي الأشرفية بعفرين.”
وأضافت “أسماء” عن مصير منزلهم في القرية، ما يلي:
“رغم أني لا أعلم اسم الفصيل المسيطر على قريتنا، إلا أننا علمنا أن بيتنا قد تحول إلى مقر عسكري.”
وفي إفادة أخرى من قرية قسطل جندو، قال نازح ايزيدي آخر، اختار اسم “حميد يوسف” في إفادته، ما يلي:
“هذه سادس مرة أتنقل فيها بين منازل الإيجار خلال خمس سنوات من النزوح، رغم أني أمتلك بيتاً في قريتي، مع خمس محلات وأرض مزروعة بـ 3500 شجرة زيتون وعنب في القرية، وشقتين مع دكانين أسفلهما بحي الأشرفية بعفرين، لكنني فقدتها جميعاً.”
وزودنا النازح بفيديو كان قد نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، مع سيطرة فصيل “فيلق الشام” على قرية قسطل جندو، حيث يظهر فيه مقاتلون فرحين، بينما يهتف أحدهم بنبرة ساخرة “ها هي القسطل وهذه محلات الخنازير أبو ساكو وأبو كاكو”. ويقول النازح أن الفيديو قد صور أمام محلاته في قرية قسطل جندو. وأضاف النازح عن الجهة التي استولت على ممتلكاته ما يلي:
“لا أعلم بالضبط من يسكن منزلي ومن سيطر على أرضي في القرية، لكنهم من الفصيل المسيطر، وقد علمت أن محل من محلاتي الخمس سيطر عليه شقيق أحد مسؤولي حاجز قسطل/إعزاز، كما تم تحويل أحد المحلات الخمس إلى مجلس محلي للقرية، كما لا أعلم من الذي يسيطر على شقتين ومحلين لي في الأشرفية بمدينة عفرين”.
ومن الواضح أن العديد من العائلات ميسورة الحال، فقدت جميع ممتلكاتها، عقب سيطرة فصائل “الجيش الوطني” على قراهم، إذ حصل الباحثون الميدانيون للمنظمات الشريكة على إفادات نازحين ومتضررين من ناحية راجو وقريتي الباسوطة وكفرزيت، بينت كيف قلب الاستيلاء على ممتلكاتهم حياة عائلاتهم رأساً على عقب.
من هذه العائلات كانت عائلة نازح كردي من قرية كفر زيت، اختار اسم “دخيل سليمان”، خلال الحديث عن بعض خسائرهم، قائلاً، ما يلي:
“فقدت مع أخوتي الخمسة نحو 25 هكتاراً من الأراضي التي تضم 2500 شجرة زيتون وبيتا في قرية كيمار، إضافة إلى ثلاث فلل و50 هكتار من الأراضي الزراعية في قرية كفرزيت، فضلاً عن شقتين في شارع الفيلات بعفرين، ومحطة محروقات مع مغسلة سيارات ومحل لصيانة الإطارات، على طريق عفرين جنديرس.”
وأضاف النازح المقيم حالياً في قرية بريف حلب الشمالي، في إفادته حول الجهات التي استولت على ممتلكاتهم:
“يسكن بيتي في عفرين نازح عربي من الغوطة الشرقية، وكان قد استأجره من فصيل جيش الشرقية. بينما يستثمر أشخاص لا أعرفهم محطتي للمحروقات على طريق جنديرس، تحت مسمى الفرسان الثلاثة، وكان فصيل جيش الشرقية قد استولى عليها قبل ذلك ونهب ما فيها من محتويات وأبواب وشبابيك، تاركاً هيكل البناء فقط على حاله، أما بقية ممتلكاتنا في قريتي كيمار وكفر زيت فقد استولت عليها اللجنة الاقتصادية التابعة لفرقة الحمزة وأحد قيادي الفصيل، الذي أسكن أقارب له في بيوتنا في القريتين.”
وأظهرت العديد من إفادات النازحين الايزيديين الذين فقدوا جميع ممتلكاتهم جراء سيطرة الفصائل على قراهم، أن سبب عزوف نسبة كبيرة منهم عن العودة إلى منازلهم وقراهم، يعود إلى خشيتهم من التعرض للاعتقال والتعذيب.
6. تعذيب وسوء معاملة:
استطاع الباحثون الميدانيون للمنظمات الشريكة في هذا التقرير توثيق، 6 حالات تعذيب، ارتكبتها فصائل “الجيش الوطني” في فترات زمنية مختلفة، من بينها حالتين لمدنيين ايزديين، أحداها مسن والأخرى امرأة، إضافة إلى رجل مسيحي، مع حالة قتل تحت التعذيب، وأخرى قتل فيها الضحية، لاحقاً وبعد مرور خمس سنوات على يد عناصر من ذات الفصيل، ليلة عيد النوروز في 20 آذار/مارس 2023.
سنقتصر في تقريرنا على إيراد أربع إفادات فقط من الحالات الستة التي تم توثيقها، مع إغفال معلومات من كلٍ منها، حرصاً على سلامة الناجين، أو ذويهم المقيمين في منطقة عفرين.
6.1. عُذِبَ، وقتل بعد خمس سنوات، على يد ذات الفصيل:
الحالة الأولى هي للمدني “فرح الدين عثمان”، الذي تعرض للتعذيب، في نيسان/أبريل من العام 2018 على يد عناصر فصيل “جيش الشرقية”، وذلك بعد عودته ومطالبته باسترداد بيته في شارع 16 بحي صلاح الدين في جنديرس، المستولى عليه من جانب الفصيل.
إلا أن عناصر من الفصيل ذاته، عادوا بعد خمس سنوات، ليقتلوا فرح الدين الدين عثمان وابنه محمد، وأخويه نظمي عثمان ومحمد عثمان، في ليلة عيد النوروز 20 آذار/مارس 2023، بمدينة جنديرس.
وأصدرت سوريون تقريراً عن الحادثة منتصف شهر أيار/مايو 2023، خلصت فيه إلى أن مقتل أربعة مدنيين كرد من عائلة واحدة، جاء كجزء من هجوم أوسع استهدف السكان في عفرين منذ احتلالها في 2018؛ وهو ما دفع بسكان المنطقة إلى تنظيم مظاهرات حاشدة، كان من أبرز شعاراتها “خمس سنين حاجة ظلم”.
واستطاعت “سوريون” الحصول على إفادة مصدر مطلع حول حادثة التعذيب التي تعرض لها “فرح الدين” في العام 2018، استعار فيها المصدر اسم “رضوان سليمان”، قائلاً:
“بعد سيطرة الجيش التركي وفصائل الجيش الوطني على عفرين، عاد فرح الدين مبكراً إلى جنديرس، وطالب جيش الشرقية باستعادة بيته في حي صلاح الدين لمرتين خلال عشرة أيام، لكن الفصيل كان يرفض طلبه، وكان القيادي الذي قابله في آخر مرة، حيث اتهم فرح الدين بالانتماء إلى حزب العمال الكردستاني بحجة أنه كان يدفع ضرائب للإدارة الذاتية، فرد فرح الدين عليه بأن متعهدي البناء من أمثاله كانوا يدفعون ضرائب سنوية للإدارة الذاتية وأن الدفع كان يتم بموجب ثلاث فئات (كبيرة ومتوسطة وصغيرة) بحسب نشاط المتعهد. بعدها قال له اذهب ونحن سنخبرك بقرارنا لاحقاً”.
وأضاف المصدر في إفادته:
“بعد ثلاثة أيام طلب عناصر الفصيل من فرح الدين أن يراجعهم فعاد إليهم فرحاً وهو يظن أنهم سيعيدون إليه بيته، وقال فرح الدين عن ذلك اليوم، بأن قيادي أرسل عناصره وأخبروه أن يراجعهم في مكتب عقاري في الحي، كانوا قد استولوا عليه، ولدى دخول فرح الدين عليهم بادر بالسلام وقال السلام عليكم، فرد عليه القيادي، حرفياً وقال “وعليكم والسلام ورحمة الله وبركاته واللي بجيبك هاتو” عندها وضع فرح الدين ما كان في جيبه من مال وعلبة دخان وهاتف موبايل، فقال أبو علي “غمضو عيونو وخدوه على بساط الريح.”
وحول تفاصيل عملية التعذيب التي تعرض لها المدني، قال المصدر:
“أخبرني فرح الدين أنهم كانوا يضربونه بقطعة خرطوم أخضر اللون وهو نوع يستخدم عادة في تمديدات المياه بالمنازل. وقال بأن عناصر الشرقية لم يحققوا معه، بل أغلقوا عينيه في البداية ونقلوه بسيارة، وبعد جولة قصيرة داخل جنديرس، أدخلوه إلى بيت أحد جيرانه وهو بيت كان جيش الشرقية قد استولى عليه حينها، وهناك طلبوا منه أن ينزع قميصه، وفتحوا عينيه، من ثم انهالوا عليه بالضرب لنحو ساعة أو أقل، وكان من أثر ذلك الضرب المبرح أن أزرق ظهره وسالت منه الدماء. بعدها تداولت وسائل التواصل الاجتماعي صورة فرح الدين وآثار التعذيب على ظهره، فجاء الرائد حسين حمادي أبو علي، قائد جيش الشرقية، وزار فرح الدين وحاول معرفة كيفية انتشار الصورة على موقع الفيسبوك، لكن فرح الدين نفى معرفته بذلك، فأعادوا له شقته لكن دون إعادة ما نهبوه من ممتلكات ومحتويات، ذلك أن البيت كان مفروشاً وكان قد جهزه فرح الدين بنفسه وأسكن فيه عائلته، ويبدو أنها كانت محاولة للاستيلاء على البيت عبر الاعتداء عليه وتخويفه، لكن انتشار خبر التعذيب وتداوله أجبرهم على إعادة بيته إليه.”
وأشار المصدر في إفادته، إلى أثر انتشار صورة “فرح الدين” التي ظهرت فيها آثار التعذيب على جسده، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قائلاً:
“كان من أثر انتشار صورة فرح الدين على موقع فيسبوك وظهور آثار التعذيب على ظهره، أن أمتنع الكثير من النازحين في مناطق الشهباء من العودة إلى عفرين، ذلك أن كثيرين كانوا يعرفون أن فرح الدين لم تكن له علاقة بالإدارة الذاتية ولا بالأحزاب ورغم ذلك تعرض للضرب والتعذيب، وسلب منزله.”
صورة تُظهر آثار التعذيب على جسم الضحية “فرح الدين عثمان” بعد اعتقاله على يد فصيل “جيش الشرقية/المعارض” في العام 2018، عقب مطالبة “عثمان” الفصيل بإعادة منزله المستولى عليه.
6.2. اعتقال وتعذيب متكرر:
أما حالة التعذيب الثانية والتي جرت أيضا خلال وقت مبكر من السيطرة على منطقة عفرين، فهي لنازح كردي اختار اسم “نزار محمد” من سكان إحدى قرى ناحية شران، حيث قال في إفادته ما يلي:
“بعد أيام من النزوح والسيطرة التركية على منطقة عفرين، قررت العودة إلى قريتي في ناحية شران، وقد تعرضت للتعذيب مرتين خلال رحلة العودة، الأولى عندما اعتقلت من قبل فصيل جيش النخبة – قطاع الشمال، يوم عودتي على حاجز ترندة في مدخل مدينة عفرين من جهة باسوطة، حينها بقيت مع 14 مدنياً معتقلاً من العائدين في الحاجز فترة من الزمن، حيث تولى كل عنصرين من الحاجز مهمة الاعتداء على معتقل واحد، وقد تعرضنا للضرب المبرح بواسطة اللكم والركل بعد وضعنا تباعاً داخل محرس دائري الشكل على طرف الحاجز، وقد ربطت يداي وراء ظهري خلال التعذيب، بواسطة رباط بلاستيكي، وبقي لساعات طويلة، حيث كان يشتد كلما تحركنا أكثر.”
وأضاف الشاب الذي يقيم حالياً بريف مدينة القامشلي، في منزل للإيجار حول أساليب التعذيب التي تعرضوا لها:
“كانوا يشتموننا في أعراضنا بداع الإهانة، وكانوا يقولون أنتم الأكراد انفصاليون وتريدون دولة، كما سلبني العناصر في الحاجز مبلغ 500 ألف ليرة سورية، وهو ما فعلوه مع بقية المعتقلين، وبعد ساعة نقلنا مغمضي العينين بسيارة فان (كان عددنا بعدد ركاب الفان)، إلى مقر لفصيل النخبة بمدينة عفرين، وهناك بدأوا باستخدام طريقة غريبة في ضربنا، إذ كان أحد العناصر يمسك سلماً معدنياً من منتصفه ويحركه بشكل أفقي مثل المروحة، بينما تعج الغرفة بالمعتقلين، متقصداً إصابتنا في كل حركة، كما استخدم العناصر أنبوب تمديدات صحية (أخضر اللون يستخدم لتمديدات المياه في المباني)، بعدها أغلقوا أعيننا وأوهمونا أنهم سيقومون بإعدامنا عبر إطلاق الرصاص بالقرب من رؤوسنا، وكانوا يضربوننا بواسطة الكبل أيضا، ويدوسون على رؤوسنا، وكان الضرب يحدث في نفس الغرفة التي حشرنا فيها جميعاً، وقد هددوني بالقتل إن لم اعترف، و طلبوا مني الاعتراف بأني كنت قناصاً مع وحدات حماية الشعب وأني قتلت جنوداً أتراكاً، وأعطاني أحدهم مسدساً وطلب مني أن أطلق رصاصة على أحد المعتقلين، لكني رميت المسدس وقلت لا أعلم كيفية استخدامه ولم أحمل السلاح في حياتي، وكانوا يقومون بتصويرنا خلال محاولة انتزاع الاعترافات، كما كانوا يقولون لنا اعترفوا وسنتوقف عن ضربكم، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا يفعلون ذلك من أجل تسليمنا للأتراك.”
وانتقل الناجي في إفادته للحديث عن تجربته في سجن الراعي، التي يقول إنه عاش فيه تعذيباً نفسياً جراء ظروف الاعتقال السيئة، وتحوله إلى شاهد عيان على عمليات تعذيب عديدة جرت أمامه:
“نقلنا من مقر النخبة، إلى سرايا عفرين (منطقة المؤسسات الرسمية) ومنها إلى نقطة عسكرية تركية على الحدود في منطقة حوار كلس، حيث قضينا ليلة دون طعام، ومن ثم تم تحويلنا إلى سجن الراعي، لنبقى دون طعام هناك أيضاً، لثلاثة أيام إضافية. لكنني لم اتعرض للتعذيب الجسدي أو الضرب في سجن الراعي، إلا أننا كنا نشرب مياه غير نظيفة، كما انتشر القمل في ثيابي لقلة النظافة وعدم وجود إمكانية للاستحمام، إلى جانب أن الخروج للحمامات كان صعباً ومسموحاً لمرتين فقط خلال اليوم الواحد، حيث يجري إخراج 10 إلى 15 معتقل سوية إلى حمامات لا أبواب لها، وعلى كل معتقل قضاء حاجته خلال مدة قصيرة جداً، وأمام بقية السجناء الذين يرونك في تلك الوضعية، وقد شاهدت سجناء متمددين في الحمامات لشدة ازدحام السجن.”
وأضاف الناجي، حول تعامل عناصر السجن مع المحتجزين، في إفادته ما يلي:
“في إحدى المرات قال أحد عناصر السجن مخاطباً السجناء الأكراد أثناء توزيع الطعام، (لسه بدكم تأكلون؟ شرفكم صار عندنا وأرضكم بأيدينا). وخلال التحقيق، كانوا يأخذون المعتقلين بعد ربط أعينهم، ويبدأ التعذيب، عبر قلع الأظافر، أو عبر وخز المعتقلين بإبرة تحت أظافرهم لإجبارهم على الاعتراف، وعادة ما كانوا يأخذون المعتقل الذي تعرض للتعذيب إلى المنفردات ولا يعاد إلى الغرفة/المهجع إلا بعد مرور ثلاثة أيام. بعدها كنا نعلم ما تعرض له. وكان من عادتهم أن يقوموا بتعذيب المعتقلين الجرحى بيننا في المهجع، حيث يدخل عناصر ملثمة إلى الغرفة ويبدؤون التحقيق مع المعتقل ويبدأ التعذيب، وقد قاموا بتعذيب عنصر من وحدات حماية الشعب كان قد أصيب في أعلى ركبته برصاصة، وكان ثلاثة عناصر يضربونه مستخدمين الكبل مع أنبوب تمديدات صحية، ويتعمدون ضربه على جرحه. الذي تعفن، بل كانوا يهددونه بقطع رجله.”
وذكر الناجي أن التعذيب لم يكن مقتصراً على الرجال، بل كان يشمل النساء، مستشهداً بتفاصيل حادثة عاشها بالقول:
“كنا نسمع أصوات النساء في غرفة التعذيب التي كانت قريبة من مهجعنا، وحدث أن كان معنا شاب من قرية “كفر روم” من ريف عفرين، وكانت أمه معتقلة أيضا في السجن، وقد عرفنا أنها أمه عندما عرفت عن نفسها خلال التحقيق، حتى إن الشاب أصيب بصدمة نفسية وأصابه الوهن، واعتقدنا أنه سيموت نتيجة تأثره الشديد. وكانت المرأة قد عملت رئيسة للكومين (أصغر وحدة إدارية في مناطق الإدارة الذاتية) في قرية كفر روم، وكانت تصرخ من شدّة الألم، وكان يضربونها بالكبل ويصعقونها بالكهرباء، وكانوا يتهمونها بإجبار الأطفال للانضمام إلى الحزب، ويحاولون إجبارها على الاعتراف، ولم نكن نستطيع النوم نتيجة الصراخ الذي نسمعه جراء التعذيب الذي يبدأ ليلا.”
أما عن المرة الثانية التي تعرض فيها للتعذيب على يد مجموعة من فصيل “السلطان مراد”، قال الناجي:
“وضعوني في الدولاب (هي طريقة تعذيب معروفة في سوريا بحيث يوضع فيه المعتقل في إطار سيارة ليصبح غير قادرا على التحرك لأن مؤخرته فقط تلامس الأرض)، وبدأوا بالضرب أسفل قدمي بواسطة قطعة من أنبوب تمديدات صحية (أخضر اللون)، وقد استغرق الضرب نحو ساعة كاملة، وداس نحو ثلاثة عناصر بالتناوب بثقلهم وبعنف على كتفي وعلى رأسي وأنا على الأرض، وذلك بعد خروجي بشكل لا إرادي من الدولاب نتيجة الضرب، ومنذ ذلك الوقت، كتفي تؤلمني ولا أستطيع تحريك يدي معاً نحو الخلف. هناك أيضا شتم أحد العناصر الأكراد وقال “أنتم الأكراد بلا شرف، وراح ××× شرفكم.”
وأشار الناج في إفادته أيضا إلى 4 حالات، كان فيها شاهداً على إجبار فتيات بعضهن قاصرات، على الزواج القسري من عناصر وقيادات من فصائل “الجيش الوطني” رغماً عن عائلاتهن، وقد أعيدت اثنين منهن إلى ذويهن بعد أيام من ذلك “الزواج”.
6.3. تعذيب مسن ايزيدي:
أمّا الحالة الثالثة للتعذيب فهي لنازح ايزيدي يبلغ من العمر 73 عاماً، ويقيم في قرية بريف حلب الشمالي، واختار اسم “سيدو حنان” خلال إفادته عن التعذيب الذي تعرض له على يد مجموعة من فصيل “السلطان مراد”:
“بعد أيام من سيطرة الفصائل على عفرين، عاد أبني الكبير إلى قريتنا، لكنه توفي في انفجار قنبلة أثناء التجول في قريتنا، عندها اضطررت أنا ووالدته إلى العودة ودفن جثته، وبعد نحو أسبوع من عودتنا وتأخرنا في الخروج من عفرين، اعتقلتني مجموعة من فصيل السلطان مراد. واقتادوني إلى بيت كانوا قد استولوا عليه في قرية خربة شران، وأغمضوا عيناي وقاموا بضربي بواسطة كبل وأخمص بارودة كلاشينكوف، وكانوا يضربونني أسفل قدمي (فلقة) وعلى ظهري، وخلال التعذيب كانوا يتهمونني بالانتماء لحزب العمال الكردستاني، ويقولون إن الايزيديين كفار وخنازير، ويبالغون في إهانتنا، وقد تعرضت للضرب لثلاثة أو أربعة أيام، وعرضوا علي أن أدفع لهم المال مقابل إطلاق سراحي، وبعد أن تواصلت مع عائلتي ووعدوا بدفع المال توقف الضرب والتعذيب، لكن ظهرت كدمات على ظهري وتجمد الدم فيه نتيجة الضرب المبرح بالكابل، كما تضرر كعب قدمي اليسرى وتهتك اللحم من شدة الضرب وهي لا تزال تؤلمني حتى الآن، كما أصبت بالتهاب قصبات، بعد الخروج من المعتقل، ولا زلت أتعالج حتى يومنا هذا.”
7. جنديرس بعد الزلزال: مخاوف من استغلال الكارثة لتكريس التغيير الديمغرافي:
شهدت مدينة جنديرس؛ التي تعتبر من أكثر المناطق السورية تضرراً من زلزال السادس من شباط/ فبراير 2023، وقوع جملة من الانتهاكات من جانب فصائل سورية معارضة تتحكم بها تركيا، أثناء وعقب عمليات الاستجابة، تجلت بمنع دخول المساعدات المنقذة للحياة، والتمييز في عمليات الإنقاذ، والاستيلاء على المساعدات وتحويلها، والاستيلاء على ركام المباني وعلى الممتلكات.
وكشف الزلزال أيضاً، عن حالات استيلاء سابقة على مساكن مدنيين، جرى فيها إسكان عوائل مقاتلين من الفصائل أو عائلات سورية نازحة من مناطق أخرى، ومع تكرار الدعوات في أوساط سوريين، عن حاجة المنطقة لعملية إعادة إعمار بدعم دولي، تزايدت في المقابل خشية نازحين كرد من أصحاب هذه المساكن، من إعادة عملية الاستيلاء على مساكنهم أو على ما تبقى من محاضر مساكنهم، عبر استغلال عمليات التعافي المبكّر أو إعادة الإعمار لشرعنة الاستيلاء، ما يفقدهم ملكيتها، مرة أخيرة، وبشكل نهائي.
وكانت عائلات كردية ناجية من الزلزال في مدينة جنديرس، قد لجأت إلى نصب خيم أمام منازلها الآيلة للسقوط، ورفضت الانتقال إلى المخيمات مقابل تلقي المساعدات، بسبب خشيتها من الاستيلاء على ما تبقى من منازلها.
“سامر محمد” وهو اسم مستعار لنازح كردي من سكان حي الصناعة بمدينة جنديرس، فقد إلى جانب والده وأخوته منزلين ومحل تجاري في جنديرس بعد سيطرة الجيش التركي وفصائل سورية معارضة على المدينة في العام 2018، والاستيلاء على أملاكهم. وقال “سامر” في إفادته عن مصير بيته وبيت والده عقب تعرض المدينة للزلزال:
“علمتُ من خلال أقارب وجيران في الحيّ أنّ جدران شقتي تهدمت جراء الزلزال، فاضطرت العائلة التي كانت تسكنه قبل ذلك دون علمي، إلى الخروج. وما عملته لاحقاً أنها عائلة عربية من حمص، ولا أدري إن كانت عائلة شخص عسكري أم مدني، في حين سكنت عائلة عربية أخرى من حمص في بيت والدي بالحي الجنوبي من المدينة”.
أما عن مصير محل والده المتوفي، وسط سوق الخضار بمدينة جنديرس، فأضاف “سامر” ما يلي:
“قبل الهجوم على عفرين، كان أخي قد أجَّرَ محلنا وسط سوق جنديرس، لمدني من سكانها، وقد بقي هذا المستأجر في المدينة بعد سيطرة الفصائل عليها، لكنه امتنع عن دفع آجار المحل، فأخرجه أخي وأجَّره لشخص آخر، لكن إحدى الفصائل جاءت لاحقاً واستولت على المحل، من ثم قامت بتأجيره لمدني آخر، حول المحل لاحقاً إلى محل لبيع الفروج”.
ولم يخفِ “سامر” مخاوفه من احتمالية تقييد بيته باسم شخص آخر، فيما لو أعيد تثبيت الملكيات العقارية في المدينة، خاصة بعد وقوع كارثة الزلزال المدمّر.
وتتشابه حال “سامر” مع حال نازح كردي آخر من سكان شارع “يلانقوز” في جنديرس، وقد غيَّرَ الزلزال من مصير منزله، حيث استعار اسم “آزاد سليمان” في إفادته، وقال ما يلي:
“تهدّمت شقتي، التي كانت في الطابق الأول، جراء الزلزال بشكل كبير، وهو ما دفع بالعائلة التي استولت على المنزل سابقاً إلى الخروج منها. وقبل تلك العائلة، كان عنصر من فصيل أحرار الشرقية مقيماً فيها مع عائلته، وقد شاهده سكان الحي حينها، وهو يسرق خزان الماء وبعض التمديدات الصحية والكهربائية، عند خروجه من الشقة في العام 2019”.
وعبر “آزاد” في إفادته عن قلقه على مصير منزله، قائلاً :
“خلال السنوات الماضية، أرسلتُ أقرباء لي، عدة مرات، لتفقد أحوال شقتي، لكنهم دائماً ما كانوا يتعرضون للطرد، إما من جانب عنصر أحرار الشرقية الذي سكن الشقة في البداية، أو من جانب العائلة العربية التي سكنتها بعده. حالياً هناك فوضى في جنديرس فيما يتعلق بإدارة مسألة الملكيات العقارية بعد وقوع الزلزال، ولا أعلم كيف سأحمي شقتي من الاستيلاء عليها مجدداً”.
وتعتبر جنديرس من المناطق التي يتكرر فيها اسم فصيل “أحرار الشرقية” في الحوادث المتعلقة بارتكاب انتهاكات متنوعة، بما فيها الاستيلاء على الممتلكات والمساكن العقارية. |
وقال مدني كردي من سكان حي الصناعة بمدينة جنديرس اختار اسم “درويش علي”، في إفاداته، إن فصيل “أحرار الشرقية” استولى على شقته لخمس سنوات، قبل أن يهدمها الزلزال، فيما استولى فصيل “لواء سمرقند” على أرض تضم أكثر من 800 شجرة زيتون تعود له ولأخوته في ريف جنديرس، وأضاف ما يلي:
“زار أحد أقربائي شقتي بعد نحو ستة أشهر من سيطرة الفصائل على عفرين، فوجد مجموعة أمنية تتبع لفصيل أحرار الشرقية، وقد اتخذت من الشقة مقراً لها. وكان عناصر الفصيل قد مزقوا صورنا وبعض مقتنياتنا، وكتبوا على الجدران عبارة تفيد معناها، بأن البيت محجوز لأن صاحبه كان من موظفي الإدارة الذاتية.”
وأضاف الشاهد الذي تنقل في مسيرة نزوحه بين عدة مناطق، قبل أن يستقر أخيراً في حي الشيخ مقصود غربي بمدينة حلب، قائلاً:
“بعد فترة خرجت أمنية أحرار الشرقية من بيتي، لكن عناصرها أخرجوا معهم معظم مقتنياتي وأثاث بيتي، حتى أن أقارب لعناصر هذا الفصيل، ممن يسكنون الجوار، كانوا يسرقون ما بقي فيها من ممتلكات وأغراض، وعقب وقوع الزلزال أنهار المبنى الذي كان يضم شقتي بالكامل، من ثم قامت فرق الدفاع المدني بإزالة الركام، لذا لم يبق منها، سوى محضر البناء حالياً”.
وتمثل إفادة “درويش”، واحدة من أصل ثلاث إفادات، تعود لأصحاب شقق سكنية كانوا جيرانا في ذات المبنى، قبل أن ينهار بأكمله في الزلزال، فيما لا يعلمون حتى الآن ماذا سيحل بمحضر بنائهم، بعد إزالة ركامه.
في ذات الحي من مدينة جنديرس، قال نازح كردي آخر اتخذ اسم “نهاد أحمد” في إفادته، عن حادثة الاستيلاء على بيته، ما يلي:
“بعد نزوحنا من عفرين إلى قرى في مناطق الشهباء، علمت أن فصيل أحرار الشام، قد استولى على بيتي وقام ببيع مقتنياته، إضافة إلى استيلائه على جراري مع معداته. وقد تواصل معي القيادي الذي كان مسؤولاً عن عملية الاستيلاء بنفسه عبر تطبيق الواتس آب، وبرر حينها سبب استيلائه على بيتي وممتلكاتي، بأن علينا (دفع ثمن دماء الشهداء).” في إشارة إلى أنّ الفصائل قامت “بتحرير” المنطقة ودفعت “شهداء” ويجب على أهالي المنطقة دفع تلك الضريبة!
وأضاف النازح، المقيم حالياً بريف حلب الشمالي، في ختام إفادته عن إقدام الفصيل على بيع بيته لنازح سوري من مدينة حمص:
“قام الفصيل لاحقاً، ببيع البيت المكون من طابقين، إلى نازح عربي من مدينة حمص، وبمبلغ قدره 4 آلاف دولار، ولا يزال هذا النازح مقيماً في منزلي، ولدي شهود على ذلك”.
ويتحدث العديد من النازحين، في إفادتهم عن تجارب نزوح عاشوها لأكثر من ثلاث مرات خلال سنوات الأزمة التي عصفت بالبلاد، كحال النازح الكردي الذي استعار اسم “سلمان محمود”، وقال إنه اشترى منزلاً في مدينة جنديرس بعد نزوحه وعائلته من حي الشيخ مقصود في مدينة حلب، إثر اندلاع المعارك بين فصائل المعارضة والقوات الحكومية في العام 2013. وأضاف “سلمان” الذي يقيم حالياً في منزل مستأجر في بلدة تربسبيه/القحطانية بمحافظة الحسكة في إفادته، ما يلي:
“استولى فصيل أحرار الشرقية على بيتي في شارع 15 شرقي يلانقوز، وهو بيت عربي يضم غرفتين وحمام، تبلغ مساحته أكثر من 200 متر مربع، وقد أرسلت أحد أقرباء زوجتي إلى البيت، فوجد عنصراً من الفصيل يقيم فيه مع عائلته، وقد رفض ذلك العنصر منحهم شيئاً من مقتنياتي، مبرراً أن البيت من ممتلكات حزب العمال الكردستاني”.
7.1. انتهاكات مستمرة منذ خمس سنوات تكرّس التغيير الديمغرافي:
يحظى السياق الذي تتم فيه الانتهاكات والجرائم في منطقة عفرين، خلال خمس سنوات من سيطرة الجيش التركي وفصائل سورية معارضة عليها، بأهمية بالغة، إذا ما أردنا فهم الدوافع الرئيسية وراء استمرار هذه الانتهاكات، رغم الدعوات المتكررة التي أطلقتها المنظمات الحقوقية الدولية، لتركيا من أجل كبح جماح هذه الفصائل والحد من انتهاكاتها ضد المدنيين في منطقة عفرين.
لذا كان لابد من العودة إلى اللحظات الأولى التي بدأت فيها السيطرة الفعلية لتركيا على المنطقة، ومن ثم تعقب المراحل التالية لها، وما شهدتها من محطات وحوادث هامة كحادثة الزلزال، وصولاً إلى وقتنا الراهن. كل ذلك في محاولة لوضع تصور عن الانتهاكات التي لا تزال مستمرة في هذه المنطقة، لذلك جرى الاعتماد على ما وفرته المصادر المفتوحة من أدلة بصرية ومعلومات جرى التحقق من صحتها، فضلاً عن الأرشيف الضخم الذي توفره تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والسورية، بما تحمله من دلائل وبراهين.
7.2. فصائل الجيش الوطني وثقت انتهاكاتها:
في الـ20 من شهر كانون الثاني/يناير 2018، أطلق الجيش التركي مع فصائل سورية معارضة عملية عسكرية أطلق عليها اسم “غصن الزيتون”، بهدف السيطرة على مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية سابقاً، شمال غربي سوريا.
كان لافتاً، قبل ذلك، أن العملية العسكرية بدأت في اليوم التالي من سحب روسيا لقاعدتها العسكرية من قرية كفر جنة بريف عفرين، وهو ما اعتُبِر بمثابة ضوء أخضر لتركيا من أجل شنّ هجومها، وغضّ النظر عن الهجوم الوحشي الروسي مع الحكومة السورية على الغوطة الشرقية؛ رغم أنها كانت مشمولة باتفاقيات خفض التصعيد عبر مسار آستانا التفاوضي بين روسيا وتركيا وإيران. الأمر الذي دعم الأخبار التي تحدثت عن وجود صفقة روسية تركية، تم فيها مبادلة عفرين بالغوطة الشرقية.
لكن عقب ساعات من السيطرة التركية على عفرين، في الـ18 من آذار/مارس 2018، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام، صوراً وتقاريرَ وثقت تعرض المدينة لعمليات نهب واسعة النطاق من جانب فصائل “الجيش الوطني” إلى جانب تدمير تمثال كاوى الحداد، أحد رموز الهوية والثقافة الكردية وسط المدينة.
“الجيش الوطني“ و”الحكومة المؤقتة“ التابعان للائتلاف السوري المعارض، أعلنا بشكل منفصل، إجراء تحقيقات في عمليات النهب التي حدثت في عفرين، وقال متحدث باسم “الجيش الوطني”، “محمد حمادين”، في تصريحات إعلامية، إن إجراءاتهم أفضت لاعتقال نحو 200 متورط، “أكثر من 90 بالمئة منهم مدنيون.” عاد “حمادين” وقال في 19 آذار /مارس 2018 “إن الأفعال التي انتشر الحديث عنها معروفة سابقًا، وفي حال دخول أي جيش لمنطقة ما، سترافقه تجاوزات فردية من قبل العناصر التابعين له”.
لكن محاولات تحجيم عمليات النهب التي حدثت في المدينة، اصطدمت بما ظهر من تسجيلات مصورة إضافية على مواقع التواصل الاجتماعي، تحدث فيها مدنيون من مناطق مختلفة من عفرين وريفها، عن تعرضهم لعمليات سلب وأشكال أخرى من الاعتداءات خلال أو عقب اتمام السيطرة على المدينة وريفها.
ونقلت وسائل إعلام معارضة عن مصادر ميدانية قولها إن “معظم الانتهاكات، نفّذتها عناصر من فصائل فرقة السلطان مراد ولواء الفتح وأحرار الشرقية، وبعض عناصرفرقة الحمزة/الحمزات، ومعظمهم من الفيلق الثاني التابع للجيش الوطني. كما شاركت في عمليات النهب مجموعات من فصائل الفيلق الأول والفيلق الثالث. ودخلت تلك القوات إلى مدينة عفرين، الأحد، بأعداد كبيرة تراوحت ما بين 1500–3000 عنصر.”
وكان لافتاً، أن عناصر من فصائل “الجيش الوطني”، وثقوا بدورهم عمليات نهب عبر فيديوهات تفاخروا فيها بالسيطرة على المدينة. أحد هذه التسجيلات تجاوزت مدته ثمانية دقائق، تحققت منه “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، ويظهر فيه شخصين، يعتقد أنهما عنصران من أحد الفصائل، يتجولان بكامل حريتهما على دراجة نارية وسط مدينة عفرين، فيما يشرح السائق أثناء قيامه بالتصوير ما يجري أمامه في شوارع المدينة من عمليات نهب للسيارات والجرارات والشاحنات، إضافة إلى سرقة محال للصرافة والألبسة والمواد الغذائية وغيرها، مشيرا بلكنة ساخرة، إلى أن كل شيء في المدينة بات مجانياً وما على المرء إلا أن يَحمِلَ ما يُصادفه ويمضي، “ببلاش والله، بس شيل وأمشي.”
هذه التسجيلات التي وثقت الانتهاكات بالصوت والصورة، أثارت التساؤل حول إمكانية أن تكون عمليات النهب الواسعة التي قام بها عناصر الفصائل، قد جرت بموافقة القوة الرئيسية الآمرة، وهي الجيش التركي في هذه الحالة، أو من جانب قيادات فصائل “الجيش الوطني”، على أقل تقدير، خاصة أنها ترافقت مع انتشار صورٍ أظهرت عبارات انتقامية كتبت على جدران مبانٍ في مدينة عفرين وريفها.
التساؤل هذا، كان يستند أيضا إلى تسجيلات سابقة، كان قد نشرها عناصر من الفصائل، بداية الهجوم، وثقت عمليات سرقة في قرى عفرين، لم تسلم منها حتى الطيور و الحيوانات التي اعتبروها (غنائم الأكراد). كما أظهرت بعض التسجيلات وجود عناصر جهادية ضمن صفوف فصيل “أحرار الشرقية”، توعدت الأكراد ولم تخفِ ميولها الجهادية، كما تغنت بإرث تنظيم “القاعدة” في جبال تورابورا في أفغاستان ووصوله إلى عفرين.
في السياق ذاته، أظهر تسجيل آخر مجموعة مقاتلين من “الجيش الوطني” المنحدرين من بلدة الشيوخ بريف حلب الشرقي، وهم يستولون على قرية شاديا بناحية راجو، حيث يتوعد أحد قادتهم من شرفة منزل مختار القرية، بالانتقام لما وصفه بتهجير الأكراد لأهالي بلدة الشيوخ، كما يتعهد بالعمل على استرداد البلدة، ومن ثم إسكان النازحين السوريين القادمين من مناطق أخرى فيها، كضيوف، على أن يسكنوا عائلاتهم في قرى عفرين.
كما أن هذه الممارسات الانتقامية التي وثقها عناصر الفصائل أنفسهم، وما سبقها من تسجيلات أظهرت تمثيلاً بجثث مقاتلات كرديات، إضافة إلى عمليات إعدام ميداني، كان من شأنها أن تدفع للاعتقاد باحتمالية كبيرة أن تكون هذه الانتهاكات ممنهجة، وأن يكون فيها استهدافاً للأكراد على أساس عرقي. خاصة إذا ما تمت المقارنة بين عملية سيطرة الجيش التركي وفصائل “الجيش الوطني” على مناطق ذات غالبية عربية وتركمانية، كجرابلس والباب وإعزاز؛ ضمن نطاق ما سمّي في العام 2016، بعملية “درع الفرات”، حيث لم تسجل خلال تلك العملية، أعمال نهب واسعة مماثلة، كما جرت خلال السيطرة على منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية.
قبل ذلك، أسبغت تركيا صبغة دينية على هجومها، من خلال عمليات التحشيد والتعبئة والترويج التي ساهمت في تقديم رواية أن جيشها (المحمدي) وفصائل الجيش السوري المسلمين، إنما يواجهون كفاراً وملاحدة في منطقة عفرين.
و كان رئيس البرلمان التركي آنذاك، إسماعيل قهرمان قد اعتبر في تصريحات أطلقها في 26 كانون ثاني/يناير 2018، أي بعد انطلاق عملية “غصن الزيتون” بـستة أيام، أن العملية “جهادٌ في سبيل الله”.
وقد كشفت تسجيلات مصورة عدّة، نشرها عناصر من “الجيش الوطني” عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يحمله هؤلاء العناصر من صورة نمطية عن السكان الأكراد وعلاقتهم بالدين الإسلامي، وكيف كانوا يتعمدون سؤال مدنيين من سكان عفرين عن عدد ركعات الصلاة في الإسلام، دون أن يعيروا انتباها إذا ما كانوا مسلمين أم إيزيديين.
7.3. أرشيف من التقارير الحقوقية:
لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي، المصدر الوحيد الذي كشف انتهاكات عملية غصن الزيتون بحق المدنيين، بلّ أن تقارير منظمات حقوقية دولية، قدمت خلال وقت مبكر من انطلاق العملية، أدلة إضافية على تلك الانتهاكات. حيث قالت “هيومن رايتس ووتش” في 23 شباط/فبراير 2018، “إنها حققت في 3 هجمات على عفرين، بتاريخ 21، 27، و28 يناير/كانون الثاني، تسببت في مقتل ما لا يقل عن 26 مدنيا، منهم 17 طفلا. من بين الضحايا أسرتان نازحتان. وأن الحكومة التركية لم ترد على استفساراتها حول تلك الهجمات.”
وقالت المنظمة في تقرير آخر صدر خلال يونيو/حزيران 2018، إن جماعات مسلحة في “الجيش السوري الحر” استولت على ممتلكات المدنيين الأكراد ونهبتها ودمرتها في منطقة عفرين شمالي سوريا. وأسكنت مقاتلين وعائلاتهم في منازل السكان، ودمرت الممتلكات المدنية ونهبتها دون تعويض أصحابها. إضافة إلى نقلهم لنازحين من أجزاء أخرى من سوريا وإسكانهم في منازل سكان عفرين الذين فروا نتيجة القتال.
وكان من الواضح استمرار فصائل “الجيش الوطني” في ارتكاب الانتهاكات بحق المدنيين في عفرين، رغم صدور عشرات التقارير من جانب المنظمات الحقوقية الدولية والسورية ودعواتها المتكررة لتركيا للحد من هذه الانتهاكات وتحمل مسؤولياته كسلطة احتلال، ما أظهر تواطؤاً واضحاً، تجسد عملياً في عودة فصائل “الجيش الوطني” لارتكاب انتهاكات مماثلة خلال عملية السيطرة على منطقتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض في العام 2019.
في ذات السياق أشارت منظمة العفو الدولية في تقرير صدر في تشرين الأول/أكتوبر 2019، إلى وجود أدلة دامغة على جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبتها القوات التركية والجماعات المسلحة المتحالفة معها.
لكن بدا لاحقاً، أن المسؤولية التركية تتعدى حدود التغاضي عن انتهاكات الفصائل أو التواطؤ معها، إلى وجود منهجية لتكريس مناخ من “الفوضى المنضبطة“، عبر فرض معادلةً أمنيةً قلقةً تتيح لها شروط التحكّم والتدخّل كافة، ما يعزّز لدى المجتمع المحلي في عفرين عوامل الخوف المستمر”، وفق دراسة للباحث السوري “خير الله الحلو” أجراها لمصلحة مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا، في تموز/يوليو 2019، تحت إشراف الجامعة الأوروبية في فلورنسا.
7.4. الزلزال يثير مخاوف إضافية:
وتتزايد المخاوف من أن يتم استغلال عمليات إعادة الإعمار بعد زلزال السادس من شباط/فبراير، في عمليات تكريس تغيير ديمغرافي في منطقة عفرين، وبما في بقية مناطق النفوذ التركي. خاصة وأن منظمة تدعى “مؤسسة الخير” أعلنت بعد نحو 20 يوماً من الزلزال، إنشاء قرية سكنية جديدة في منطقة “جبل الأحلام” جنوبي منطقة عفرين، بزعم تخصيصها للناجين والمتضررين من الزلزال الأخير الذي ضرب الشمال السوري والجنوب التركي.
كما أعلنت جمعية “قطر الخيرية” “البدء في تنفيذ المرحلة الأول من مشروع “مدينة الكرامة“، ضمن خطة إعادة إعمار الأراضي المتضررة في الشمال السوري”، دون الإشارة إلى موقعها، فيما رجحت تقارير صحفية أن يكون الموقع بمنطقة عفرين.
الجدير بالذكر، أن منطقة جبل الأحلام، كانت قد شهدت إقامة قرية “كويت الرحمة“ التي تعتبر واحدة من أكبر المستوطنات البشرية التي خُصصت بنسبة 75% من مبانيها، لإسكان مقاتلي الجيش الوطني السوري/المعارض وعائلاتهم في منطقة عفرين التي شكّل الكرد السوريون النسبة الأعظم من عدد سكانها تاريخياً.
وكانت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، قد توصلت في تحقيق نشرته مطلع تموز/يوليو 2022، إلى أنّ والي ولاية هاتاي التركية “رحمي دوغان – Rahmi Doğan” هو أحد المسؤولين المباشرين عن بناء ذلك “التجمع”، وأنها بُنيت بدعم من “جمعية الرحمة العالمية” ومتبرعين من دولة الكويت، وأن التخطيط لإنشاء التجمّع كان مطلع عام 2021، وكان من المخطط أن تمتد لتشمل “الجبل” كاملاً.
وتعتقد المنظمات المشاركة في هذا التقرير، أن من المحتمل أن يكون إنشاء مثل هذه التجمعات و المستوطنات جزءاَ من عملية ممنهجة لتغيير التركيبة الديموغرافية في عفرين، فهي تخضع لتغير واضح، نتيجة توطين السوريين النازحين من أجزاء أخرى من البلاد في أعقاب تهجير السكان الكرد بشكل أساسي، ووسط قمعٍ واسع للثقافة الكردية.
8. رأي قانوني وتوصيات:
8.1. من وجهة نظر التشريعات الوطنية السورية:
ارتأت المنظمات المعدّة لهذا التقرير الاستناد على الدستور السوري لعام 2012 وغيره من التشريعات السورية النافذة، لتحليل الانتهاكات والفظائع التي يرتكبها “الجيش الوطني السوري” الخاضع فعلياً لسيطرة تركيا، بحكم أنّ القوى المتحكمة في المناطق التي تناولها التقرير تؤكد تطبيق التشريعات السورية، ولا سيما تلك التي كانت نافذة قبل عام 2011.[2]
إن ممارسة انتهاكات واسعة بحق سكان المنطقة بحجة تعاملهم أو دعمهم للإدارة الذاتية، يخالف ما تمّ النص عليه في المادة 51 من الدستور السوري، والتي أكّدت بأنّه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنصّ، ومثل هذه التهمة “التعامل مع الادارة الذاتية” غير منصوص عليها في القوانين الجزائية السورية، ولا سيما قانون العقوبات رقم 148 لعام 1949.
وعلى فرض أنّ تلك الفصائل أو القوى المسيطرة على الأرض تزعم إصدار قرارات أو قوانين تجعل من هذا الفعل جريمة يعاقب عليها القانون، فمن الواجب أن تسري تلك القوانين على الأفعال/الجرائم التي ترتكب بعد نفاذها، ولا يمكن أن يكون لها أي أثر رجعي على الأفعال السابقة، وهذا ما نصت عليه المادة 52 من الدستور، حيث أكدت بأنه: “لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها ولا يكون لها أثر رجعي، ويجوز في غير الأمور الجزائية النص على خلاف ذلك”.
وقد تم التأكيد على هذه القاعدة أيضاً في المادتين الأولى والسادسة من قانون العقوبات السوري، بل أنّ قانون العقوبات السوري قد راعى مصلحة المتهم في هذا الخصوص، حيث نص على أن الحالة الوحيدة التي يمكن فيها تطبيق القانون الجديد على الأفعال المرتكبة قبل نفاذه، هو عندما يكون القانون الجديد أصلح للمتهم، حيث نصّت المادة 3 على أنّه: “كل قانون يعدل شروط التجريم تعديلاً ينفع المدعى عليه يطبق على الأفعال المقترفة قبل نفاذه ما لم يكن قد صدر بشأنها حكم مبرم”. وتم كذلك تأكيد هذا الأمر في المادة الرابعة من ذات القانون.
وممارسة تلك الانتهاكات التي وردت على لسان الضحايا/الشهود على أساس عرقي أو ديني، سواء لأنهم أكراد أو ايزيديين، يخالف ما تمّ النص عليه في المادة 33 من الدستور، التي أكدت في فقرتها الثالثة بأنّ: “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”. وإذا كانت الغاية من تلك الانتهاكات هي إبعاد الاهالي عن المنطقة وإجبارهم على الهجرة، وفقا لأقوال بعض الشهود، فإن ذلك يخالف نص المادة 38 من الدستور التي أكدت على أنه ” لا يجوز ابعاد المواطن عن الوطن، أو منعه من العودة إليه”.
وتعتبر عمليات الاستيلاء على ممتلكات الأهالي، بغض النظر عن الدافع، سواء كانت بهدف الكسب المالي أو لغايات تتعلق بالتغيير الديموغرافي للمنطقة أو لإسكان عائلات المقاتلين أو عائلات مقربة منهم، أو لأي سبب آخر، وحرمان هؤلاء الأهالي من استثمار واستغلال تلك الممتلكات، تعتبر مخالفة لما تمّ النص عليه في المادة 15 من الدستور السوري التي أكّدت على أن الملكية الخاصة مصانة، كما تخالف نصوص القانون المدني السوري رقم 84 لعام 1949، حيث نصت المادة 771 من القانون المذكور على أنّه “لا يجوز أن يحرم أحد ملكه إلا في الأحوال التي يقررها القانون، وبالطريقة التي يرسمها، ويكون ذلك في مقابل تعويض عادل”، كذلك نصت المادة 768 من ذات القانون على أنه: ” لمالك الشيء وحده في حدود القانون حق إستعماله واستغلاله والتصرف فيه”.
وبخصوص التوصيف القانوني للأفعال الجرمية التي اقترفتها الفصائل المسلحة بحقّ أهالي المنطقة، والتي تم سردها في هذا التقرير، وفقا لقانون العقوبات السوري، فإن عمليات القتل التي طالت قسماً من أهالي المنطقة، ومنهم أولئك المدنيين الذين تم قتلهم في ليلة 20 آذار/مارس 2023، تشكل جريمة القتل القصد المنصوص عليها المادة 533 من قانون العقوبات.
أما بالنسبة لحالات الاعتقال التعسفي (حجز الحرية)، والتي كانت الغاية منها في أغلب الأحيان الحصول على فدية مالية، او إجبار الأهالي على مغادرة المنطقة وترك ممتلكاتهم لتصبح تحت تصرف تلك الفصائل، فيمكن أن يتم توصيفها على انها جريمة حجز حرية بدون وجه حق، والمنصوص عليها في المادة 555 من قانون العقوبات، وقد تمّ اعتبار التعذيب ظرفاً مشدداً إذا ما ترافق مع حالة حجز الحرية المذكورة، سنداً للمادة 556 من ذات القانون.
وتعتبر عمليات الاستيلاء على الممتلكات العقارية للضحايا جريمة غصب عقار المنصوص عليها في المادة 723 من قانون العقوبات، خاصة وأن عمليات الاستيلاء تلك قد تمت من قبل مجموعات مسلحة وتحت تهديد السلاح، وفقاً لروايات بعض الضحايا.
أما بخصوص عمليات النهب التي طالت محتويات المنازل التي تم الاستيلاء عليها، فإنها تصنف في خانة جرائم السلب/السرقة بالعنف المنصوص عليها في المواد 625 و626 من القانون نفسه.
أما عمليات الهدم والتخريب التي طالت قبور الموتى الايزيديين، فيمكن أن تندرج تحت حكم المادة 467 من قانون العقوبات التي نصّت على أنّه: “يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين أـ من هتك أو دنس حرمة القبور أو أنصاب الموتى أو أقدم قصداً على هدمها أو تحطيمها أو تشويهها. ب ــ من دنس أو هدم أو حطم أو شوه أي شيء آخر خص بشعائر الموتى أو بصيانة المقابر أو تزيينها”.
8.2. من وجهة نظر القانون الدولي:
يعرّف نظام روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية “الاضطهاد” باعتباره جريمة ضد الإنسانية على أنه “الحرمان المتعمد والشديد من الحقوق الأساسية بما يتعارض مع القانون الدولي بسبب هوية الجماعة أو التجمع“[3] وذلك “على أساس سياسي أو عرقي أو قومي أو إثني أو ثقافي أو ديني أو الجنس …، أو لأسباب أخرى معترف بها عالميًا على أنها غير مسموح بها بموجب القانون الدولي“.[4] وعلى الرغم من أن هذه الورقة لا تدّعي الوصول إلى خلاصات نهائية بالمعنى القضائي لارتكاب هذه الجريمة، إلا أنها تحاول أن تقدم تحليلاً قانونياً يستند للوقائع الواردة فيها في ضوء هذا التعريف أعلاه.
تجدر الإشارة إلى أن جريمة “الاضطهاد” لا تشمل الأذى الجسدي والعقلي وانتهاكات الحرية الفردية فحسب، بل تشمل أيضًا الأفعال التي تستهدف الممتلكات على سبيل المثال، طالما تم اختيار الضحايا بشكل خاص على أسس مرتبطة بانتمائهم إلى مجتمع معين.[5] وعادة ما ينتج “الاضطهاد” عن ارتكاب مجموعة من الأفعال المترابطة أو المتسلسلة أو المتزامنة التي قد تكون بحدّ ذاتها انتهاكات أو جرائم أخرى، خلال أو بعد السيطرة، مثل “التعذيب، والضرب، والاعتداء الجسدي والنفسي، … وخلق أو المساهمة في ظروف معيشية لاإنسانية في مرافق الاحتجاز … والنقل أو الترحيل القسري، … والاستيلاء على الممتلكات خلال الاعتقالات أو في سياق أو بعد أفعال النقل أو الترحيل القسري، … والتدمير المتعمد للملكية ومن ضمنها المنازل والمرافق التجارية والممتلكات العامة ومن ضمنها النُّصُب الثقافية والمواقع المقدسة، … وفرض والإبقاء على تدابير تمييزية وتقييدية“.[6]
بمراجعة ما يورده التقرير من تسلسل للممارسات والأفعال المرتكبة من قبل فصائل “الجيش الوطني السوري/المعارض” المسيطر عليها من قبل تركيا ترقى لتكون منهجية وموجّهة ضد السكان الأصليين لعفرين، وتحديداً الكرد والايزيديين. ومن الملفت للنظر كيف تتقاطع تلك الممارسات مع ما أوردته المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة أعلاه وتمحور تلك الممارسات حول الحرمان الشديد والمتعمد للسكان الأصليين من حقوقهم الأساسية والتمييز ضدهم في هذه الممارسات على أساس إثني أو ديني أو سياسي. وتبرز ملامح التمييز المقصود في هذه الانتهاكات من خلال تفضيل مجموعات سكانية أخرى من غير السكان الأصليين في منحهم امتيازات ناتجة عن انتهاك حقوق السكان الأصليين كالاستيلاء على الممتلكات الخاصة ومنع المشردين داخلياً من العودة بشكل مباشر أو غير مباشر في الوقت الذي تُمنح فيه هذه الممتلكات للمجموعة السكانية الأخرى ويسهّل توطينهم.
ومن مظاهر الانتهاكات البارزة التي تمارس بقصد تمييزي هي تلك التهم المتعلقة بالعمل أو التعامل مع الإدارة الذاتية السابقة. من المثبت كأحد المبادئ القانونية أنه لا يجوز محاسبة شخص على فعل لم يكن مجرّماً وقت ارتكابه. ولو فرضنا أن الإدارة الجديدة لمنطقة عفرين قد جرّمت التعامل مع الإدارة الذاتية السابقة، فلا يجوز تطبيق هذا التجريم بأثر رجعي. والتمييز في هذا السياق يتضح من خلال اختيار هذا الاتهام بشكل انتقائي على أفراد وعائلات بحيث تكون النية السيطرة على ممتلكاتهم أو إجبارهم على دفع الفدية وبالتالي دفعهم للانفصال عن المجتمع الذي يعيشون فيه.
ومن الواضح أن مثل هذا الاتهام لا يمكن انطباقه على مجموعات سكانية أخرى لم تكن موجودة خلال فترة سيطرة الإدارة الذاتية.
وفيما يتعلق بالأفعال الموجهة ضد الممتلكات كأحد أشكال الحرمان من الحقوق الأساسية وفق مفهوم جريمة الاضطهاد، فقد حظيت باهتمام بالغ في الفقه القضائي الدولي.
فقد وجدت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة أن تدمير الممتلكات/الأعيان الدينية أو ذات الخصوصية الثقافية يتساوى مع فداحة الهجوم على الهوية الدينية لشعب ما وهو ما يحمل تعبيراً صافياً عن مفهوم الجرائم ضد الإنسانية.[7]
إن التدمير المتعمد للرموز الدينية والثقافية للسكان الأصليين في عفرين منذ بدء سيطرة الاحتلال التركي والفصائل المسيطر عليها من قبله يحمل دلالات قوية في هذا السياق، خاصة مع اقترانها مع الممارسات الأخرى من اعتقال تعسفي وتعذيب وابتزاز يرقى ليكون موازياً لأخذ الرهائن. كما أشارت المحكمة إلى أنه إذا كان الهدف النهائي للاضطهاد هو إبعاد هؤلاء الأشخاص من المجتمع الذي يعيشون فيه جنبًا إلى جنب مع الجناة، أو حتى من الإنسانية نفسها في نهاية المطاف، فإن التدمير والاستيلاء المنتشر أو المنهجي والتمييزي لمنازل الأفراد ووسائل كسب الرزق قد يؤدي بالتأكيد إلى هذا الإقصاء من المجتمع. وفي سياق حملة الاضطهاد ضد هؤلاء بشكل عام، فإن جعل أفراد المجموعة دون مأوى أو مصدر للرزق قد يكون الطريقة المستخدمة لإكراه وترهيب ونقل المدنيين من منازلهم وقراهم. وبالتالي، عندما يكون الأثر التراكمي هو إبعاد المدنيين من منازلهم لأسباب تمييزية، فإن التدمير و/أو النهب الوحشي والواسع النطاق للمساكن والمباني والشركات والممتلكات الشخصية المدنية قد يشكل جريمة اضطهاد.[8]
8.3. توصيات إلى أصحاب المصلحة:
ــ على منظمات المجتمع المدني السوري، ولا سيما العاملة في مجال توثيق الانتهاكات، إيلاء المزيد من الاهتمام لتوثيق الانتهاكات التي تقع بحقّ الأقليات المختلفة في سوريا.
ــ على لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا، تكثيف عملها في مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، وإصدار تقارير مواضيعية خاصة بخصوص الانتهاكات المرتكبة في تلك المناطق.
ـ على الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والحكومة المؤقتة المنبثقة عنه، إصدار القرارات اللازمة لمنع فصائل الجيش الوطني من ارتكاب الانتهاكات، ومحاسبة الفاعلين، خاصة أن “الجيش الوطني” بجميع فصائله ينضوي تحت راية وزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة.
ـــ على الحكومة التركية الوفاء بالتزاماتها كدولة احتلال وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وعلى رأس تلك الالتزمات حماية المدنيين وحماية ممتلكاتهم، وضمان سيادة القانون في المناطق المحتلة، وبالتالي منع تلك الفصائل من ارتكاب الانتهاكات، ومحاسبة الفاعلين، وقطع الامدادات عن الفصائل المتورطة في تلك الانتهاكات.
ــ على المجتمع الدولي التعامل مع التواجد التركي في سوريا، على أنه قوة احتلال، والضغط عليها للوفاء بالتزاماتها وفق التوصيف المذكور، وكذلك وضع الفصائل العسكرية وكذلك الشخصيات العسكرية الأكثر تورطاً في ارتكاب الانتهاكات، على قائمة العقوبات، وتوفير الآليات الملائمة لمحاسبتهم مستقبلاً، ودعم جهود التوثيق والعدالة بشكل عادل ومتوازن.