لسنوات طويلة ظلّ القمح أشبه بصمّام أمان غذائي لسوريا. كان متوسط الإنتاج بين 1995 و2009 نحو 4 ملايين طن، فيما سجّل العام 2006 أعلى حصيلة بقدر 4,9 مليون طن. لكنّ إنتاج القمح تراجع في العام 2011 إلى 3,9 مليون، قبل أن يتمخض عن تضافر الظروف المناخية، والسياسية، والعسكرية، تدهورٌ مستمر ليبلغ الإنتاج في العام 2022 مليون طن فقط، أي ربع إنتاج ما قبل الحرب.
يشمل الرقم المذكور مناطق السيطرة المختلفة، فيما يُقدّر احتياج البلاد بنحو مليوني طن من القمح للخبز فقط، فضلاً عن احتياجات إضافية لبذر موسم جديد لهذه الزراعة التي شكّلت، تاريخياً، عماداً لقياس استقرار أيّ بلد، أو حتى حضارة.
تقول منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) إنّ العوامل المناخية، والاقتصاد المتعثر، والمسائل الأمنية العالقة، ألحقت ضرراً بالغاً بإنتاج سوريا من الحبوب للعام 2022، ما ساهم بصورة كبيرة في حرمان المواطنين من الحماية الغذائية.
ليست بقية الحبوب الأساسية أحسن حالاً من القمح، فمثلاً كانت سوريا الثامنة عالمياً في إنتاج العدس (2000- 2005)، لكنّ وزارة الاقتصاد والتجارة أتاحت في 27/10/2022 استيراده (مجروشاً، وحبّاً) لتأمين حاجات السوق المحلية في ظلّ تراجع الإنتاج، إضافة إلى إتاحة استيراد أصناف أخرى من البقوليات كالحمص اليابس، والفاصولياء، لمدة 6 أشهر.
غير أنّ الوضع أسوأ في ما يخصّ الشعير، حتى إنّ ممثل منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) في سوريا، مايك روبسون، قال إنّ إنتاج الشعير بات شبه منعدم، وهو أمر يقود نحو فقدان غذاء أساسي لتربية الدواجن، والمواشي، وبالتالي نحو ارتفاع ثمن الأعلاف، ثم الدواجن، والمواشي، والحليب ومشتقاته، وانحسارها عن موائد السوريين.
تقول أم محمد، وهي ربّة منزل، إنّها اضطرت إلى تغييب لحم الدجاج عن موائد أسرتها بسبب ارتفاع ثمنه، وأبدلته بقليل لا يكاد يُذكر من اللحم الأحمر «كي تكسب بعض الطبخات نكهة»، موضحة أنّها لا تستطيع تخصيص سوى 5 آلاف ليرة للحم، أي فقط 130 غراماً للطبخة.
تتحسر المرأة على «زمن ما قبل الحرب حين كنتُ أطبخ أنواع اللحم كافة، وبكميات كبيرة»، إلى حد أنّ أولادها كانوا «يطالبون بالبطاطا المقلية بديلةً عن اللحم»، لكنّ البطاطا المقلية في حد ذاتها صارت وجبة تُرهق الجيب حالياً.
الغلاء يسبق الأسرَ بأشواط
وفقاً لتقرير الاحتياجات الإنسانية 2022 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) فإنّ قدرة السكان على تغطية نفقاتهم بالراتب وحده تقلّصت بسبب العجز المتزايد في الدخل، وهو ما يعكس تدهوراً حاداً يُسجَّل منذ العام 2019، ويسلّط الضوء على طبقة «الفقراء العاملين» المتنامية.
يقول أبو علاء، وهو موظف في القطاع العام من الفئة الأولى، إنّ راتبه الذي يبلغ 140 ألف ليرة سورية «لا يكفي حتى لدفع إيجار المنزل، فكيف بواجباتي في إطعام أطفال ثلاثة، وتلبية حاجاتهم!». وهو يفترض أنّ الحال «لن يتغيّر كثيراً» لو أنّه يملك منزلاً.
ترتفع النفقات بسبب انخفاض سعر صرف الليرة المتغيّر دوماً مقابل جمود دخل موظفي القطاع العام منذ سنوات طويلة، فيما يجد من كان يكفي حاجات أسرته بمبلغ معيّن من العملة الصعبة، أنّه صار يحتاج إلى ضعفه الآن.
يقول أسامة الذي يعمل مع مؤسسة خارج سوريا، وراتبه بالدولار «يحسده الجميع عليه»، إنّ «المبلغ نفسه لم يعد كافياً. الأسعار دائماً في ارتفاع لا يتماشى حتى مع ارتفاع سعر الصرف».
وتشير التقديرات الأممية إلى أنّ 13,8 مليون سوري كانوا يحتاجون إلى بعض أشكال دعم الدخل وسبل العيش في 2022، بزيادة عن 11,6 مليون في 2021، و9,9 مليون في 2020. هذه الزيادة، بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره، تضع البلاد في عين الجوع. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية )أوتشا)، فإنّ«80 بالمئة من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي».
ولا تكاد هذه الظروف تستثني فئة من السكان في مختلف مناطق السيطرة.
بالخبز وحده؟
كلّ ما سبق ذكره يجعل من الجوع شبحاً حتمياً يلوح في الأفق غير البعيد، إذ يفقد الناس أمنهم الغذائي فيما هم يحاولون أن يعيشوا بالخبز وحده. ولكن إذا تساءلنا: هل يؤمن الخبز حاجتنا الغذائية الحقيقية؟، فعلينا أن نتعرّف إلى أنماط الغذاء، أولاً، قبل الخوض في الجدال، وهي تنقسم بين: نمط كاف، ونمط ملائم، ونمط صحي.
يوفّر «الكافي» السعرات الحرارية اللازمة لميزان الطاقة من أجل العمل اليومي، ويعتمد أحد الأغذية النشوية الأساسية في بلد ما (الذرة أو القمح أو الأرزّ فقط).
أما النمط الملائم، فهو مزيج متوازن من الكربوهيدرات، والبروتينات، والدهون، والفيتامينات، والمعادن الأساسية ضمن الحدود العليا والدنيا اللازمة للوقاية من حالات القصور وتجنّب السمّية. وأما النمط الصحي، فيهدف إلى تأمين المتناول المطلوب من المغذّيات، والمساعدة على الوقاية من سوء التغذية بما في ذلك الأمراض غير المعدية المتصلة بالنمط الغذائي.
في خطوة تالية، علينا احتساب كلفة كلّ نمط من الأنماط الغذائية السابقة
إذاً، كلفة النمط الغذائي الكافي في الشهر لشخص واحد تعادل راتب موظف، أو تزيد عليه، فكيف سيكون بالتالي قادراً على تلبية الاحتياجات الأخرى؟ خاصة أن متوسط عدد العائلات السورية خمسة أشخاص.
في النتيجة، من الواضح تماماً عجز السوريين حتى عن توفير نمط الغذاء الكافي، وهو أضعف الأنماط. وإن استطاع البعض فعل ذلك، فآثار سوء التغذية لم تعد خافية، وفي مقدمها وفق تقارير إعلامية انتشار القزامة بين الأطفال السوريين، إذ يعاني من التقزّم طفل من بين كلّ ثلاثة أطفال ممّن تقلّ أعمارهم عن 5 سنوات في شمال غربي سوريا، حسب وكيل أمين عام الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، ورئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) مارك لوكوك.
يُرجَّح أنّ السبب يعود إلى أنّ الأمهات السوريات لا يحصلن على ما يكفي من المغذيات أثناء الحمل، والأزمة أنّ عواقب بعض هذه الحالات تهدد بضرر دائم على النمو المعرفي والإدراكي، وحتى بالإعاقات الجسدية، وقد يبلغ الأمر الموت لأنّ الأطفال يكبرون ضمن الحدود الدنيا للطعام، فكثير من الأصناف تخرج من الموائد، ومع كل يوم جديد تحذف أصناف أخرى تتركهم عرضة لسوء التغذية.
يعرِض الرسم التالي عدد الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن خمس سنوات ويحتاجون إلى المساعدات الغذائية
وبحسب التقديرات، بلغ عدد النساء الحوامل والمرضعات نحو 1,7 مليون العام الفائت، وكانت نسبة 80% منهن «في حاجة شديدة للغاية»، و«كارثية». ويمثّل نقص المغذيات الدقيقة مشكلة رئيسية أخرى تؤثر في 54% من النساء ممّن هنّ في سن الإنجاب، و46% من الأطفال، لا سيما لناحية فقر الدم الناجم عن نقص الحديد الذي يساهم في الإعاقة الإدراكية لدى الأطفال، وفي نتائج حمل سيئة لدى الأمهات.
وتعكس الزيادة المستمرة في معدلات سوء التغذية على مدار الأعوام الماضية الاتجاهات التنازلية في المؤشرات الإنسانية الرئيسية عبر عدد من القطاعات، ما يضعنا مرة جديدة في وجه مستقبل مخيف فيما يبدو أنّ حماية الأطفال منه ليست أولوية للكثيرين.
ليقودنا ذلك إلى كارثة أخرى هي «سوء التغذية الحاد الشامل» الذي يستمر في التصاعد
لا يقتصر هول الواقع السوري على ما يتضمنه هذا المقال من أرقام وإحصاءات كارثية فحسب، فالأخطر أنّ الانحدار مستمر، وتستمر الأصناف الغذائية في توديع الموائد السورية، مفسحة المجال أمام مزيد من أمراض سوء التغذية ونواتجها.
فإذا نحّينا المشاعر الإنسانية – على أهميتها – جانباً، وفكرنا في كل ما يعنيه هذا من مخاطر تهدد رأس المال البشري، يمكننا حينها تصور شكل «المستقبل الموعود».
للقراءة الكاملة:
Add Comment