إنشاء سجل Sign In

سكان الجولان السوري بين التهجير والاحتلال, الحركة الوطنية السورية في الجولان في مواجهة سياسة الاحتلال الإسرائيلي 1967-2016

ميسلون للثقافة والترجمة والنشر

سكان الجولان السوري بين التهجير والاحتلال, الحركة الوطنية السورية في الجولان في مواجهة سياسة الاحتلال الإسرائيلي 1967-2016

إعداد: ثائر أبو صالح

جهة النشر: ميسلون للثقافة والترجمة والنشر

مقدمة:

 لا شك في أن هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران 1967، لم تكن فقط هزيمة عسكرية، بل كانت لها إسقاطات ونتائج كارثية على مستوى الإنسان العربي أينما وجد. فقد احتلت إسرائيل في غضون أيام قليلة الجولان وسيناء والضفة الغربية والقدس، علاوة على تحطيم السلاح الجوي المصري في مطاراته، وانسحاب الجيوش العربية بصورة مذلة، وترك المدنيين يلاقون مصيرهم أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية. لقد تفاجأ الإسرائيليون من سرعة الهزيمة العربية، لأنهم لم يتوقعوها، مما جعلهم يحكمون سيطرتهم وبزمن قياسي على المناطق المحتلة الجديدة.

   ومما زاد في الاستهجان، إعلان سقوط القنيطرة عبر البلاغ رقم 66، الصادر عن قيادة الجيش السوري، الذي أذيع عبر إذاعة دمشق في الساعة 8:46، وذلك قبل دخول الجيش الإسرائيلي إليها بأكثر من خمس ساعات ونصف، مما يؤكد، حال الضعف والارتباك التي حصلت على مستوى القيادة العسكرية للجيش السوري، وتمثلت بالانسحاب الكيفي غير المنظم للجيش بصورة هيستيرية ومهينة، مما أدخل الرعب إلى قلوب المدنيين أيضًا من مصير مجهول قد يواجهونه.

  ومنذ العاشر من حزيران أصبح الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي، خاليًا من سكانه، ما عدا ست قرى استطاعت البقاء لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقًا، تقع أربع منها شمالي شرق الجولان على سفوح جبل الشيخ وهي: مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنية، أما قرية سحيتا القريبة منها، فقد دمرت لاحقًا تمامًا، ونزح سكانها إلى قرية مسعدة، هذا إضافة إلى قرية سادسة تقع على نقطة تقاطع الحدود السورية اللبنانية الفلسطينية وهي قرية الغجر. ولم يتجاوز عدد سكان هذه القرى جميعًا، بقوا في أراضيهم 7 آلاف نسمة، في حين كان عدد سكان الجولان حوالي 150 ألف نسمة، موزعين على نحو 223 قرية ومزرعة تابعين لمحافظة القنيطرة. فماذا حصل في الجولان؟ وكيف تم إفراغه من سكانه ولماذا؟ كلها أسئلة بحاجة إلى إجابات موضوعية بعيدًا عن المقولات والعبارات الدارجة، ثم كيف تعاملت إسرائيل مع من بقي في أرضه، وكيف تطورت سياستها على مدار سنوات الاحتلال تجاه هؤلاء السكان في القسم المحتل من الجولان؟

  هذه الدراسة ستحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، بدءًا من أحداث هزيمة حزيران 1967 وإشكالياتها، وحتى اندلاع الثورة في سورية في آذار 2011، في محاولة لرصد التحولات الاستراتيجية في السياسة الإسرائيلية تجاه سكان الجولان السوري المحتل، في مواجهة نمو الحركة الوطنية السورية في الجولان على مدار سنوات الاحتلال. ولهذا الغرض فقد تم تقسيم هذه المدة التاريخية إلى مراحل متعددة ومختلفة المضمون، حيث اتبعت إسرائيل في كل مرحلة من هذه المراحل استراتيجية ونهجًا مختلفين عن المراحل السابقة، ومن ثم سيتم إجمال نتائج هذه السياسات، بهدف فهم آلية تطورها وصيرورتها، وصولًا إلى وضع رؤية مستقبلية لعلاقة السكان مع الدولة المحتلة من جهة، ولعلاقتهم مع وطنهم الأم سورية من جهة أخرى.

   لقد تم تقسيم المدة الممتدة بين حزيران 1967 واليوم إلى مراحل تاريخية، وفقًا للأحداث والتحولات المهمة محليًا وإقليميًا، والتي أثرت في سياسة إسرائيل واستراتيجيتها المتبعة تجاه السكان السوريين في الجولان المحتل:

المرحلة الأولى: أحداث حرب حزيران 1967، وإفراغ الجولان من سكانه. الرواية العربية في مقابل الرواية الإسرائيلية.

المرحلة الثانية: 1967-1973 تمثلت هذه المرحلة بحدثين مهمين: الأول إفشال المخطط الإسرائيلي في تقسيم سورية ولبنان إلى دويلات طائفية، مخطط سعت إسرائيل إلى تنفيذه بعد الحرب، مستفيدة من الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية، والضعف العربي العام بعد حرب حزيران 1967، والثاني هو بداية تشكل الحركة الوطنية في الجولان السوري المحتل.

المرحلة الثالثة: تمتد هذه المرحلة منذ نهاية حرب تشرين 1973، وحتى صدور قرار ضم الجولان لإسرائيل في 14.12.1981، وحصلت في هذه المدة أحداث مهمة، بدءًا باتفاقية فصل القوات لعام 1974 بين سورية وإسرائيل، مرورًا بوصول ((الليكود)) إلى سدة الحكم عام 1977، حتى توقيع اتفاقية كامب دافيد بين مصر وإسرائيل، وانتهاءَ بضم الجولان. كان لهذه الأحداث تأثير كبير في سكان الجولان السوري المحتل من جهة، وفي السياسة الإسرائيلية من جهة اخرى، مما جعلها تعيد صياغة استراتيجيتها بصورة جديدة ومختلفة.

المرحلة الرابعة: وهي مرحلة المواجهة والمقاومة العلنيتين، حيث خرج السكان لمواجهة الاحتلال وسياساته، واستمرت هذه المرحلة حتى نهاية عام 1982، وشهدت إضرابًا استمر نحو ستة أشهر، وحصلت اعتقالات ومواجهات بين السكان والاحتلال احتجاجًا على قرار الضم، ورفضًا له.

المرحلة الخامسة: تمتد من عام 1983 وحتى بداية التسعينيات، وتميزت باستمرار المواجهات بين الاحتلال والسكان من جهة، وبداية الانقسام داخل الحركة الوطنية من جهة أخرى. وتمثلت هذه المرحلة باستراتيجية ((العصا والجزرة)).

المرحلة السادسة: هي الأطول زمنيًّا، امتدت عمليًا من بداية التسعينيات حتى آذار عام 2011 حين بدأت الثورة السورية. تميزت هذه المرحلة بترهل الحركة الوطنية، نتيجة لتغيير الاستراتيجية الإسرائيلية من استراتيجية الفرض وقهر السكان بالقوة، إلى استراتيجية النخر في النسيج الاجتماعي، عبر التركيز على الجيل الصاعد والمؤسسات التربوية، وتوقفت إسرائيل عن مواجهة السكان المباشرة. ومن جهة أخرى تميزت هذه المرحلة بجولات مفاوضات السلام المتعددة بين سورية وإسرائيل، أمر انعكس تأثيره على السكان أيضًا.

المرحلة السابعة: وهي مرحلة ما بعد الثورة السورية في آذار 2011. وتميزت بتسريع وتيرة ((الأسرلة)) من أجل ابتلاع الجولان بصورة نهائية، وربما ضمُّ أقسام أخرى من سورية في حال تقسيمها، وهي الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة تجاه السكان السوريين في الجولان المحتل بعد الثورة السورية. 

   لقد حاولت أن أعتمد في هذه الدراسة على مصادر إسرائيلية من مبدأ ((من فمك أدينك))، لأتعامل مع الادعاءات الإسرائيلية بما يتعلق بحرب 1967، وما حصل للسكان السوريين في الجولان. ولا سيما صناع القرار بمثل ((موشيه دايان)) و((ييغال ألون))، وكذلك المختصون بالشأن السوري بمثل ((موشيه معوز))، و((آيال زيسر))، و((إيغال كيبنس)) الذي أورد إحصاءات مهمة للبلدات والقرى والمدن في الجولان عشية الحرب، و((أرييه بار أون)) الذي شغل منصب السكرتير العسكري لـ ((موشيه دايان إبان الحرب. أما بما يتعلق بتطور الحركة الوطنية في الجولان واستراتيجيات إسرائيل التي اتبعتها تجاه الجزء المحتل منه، فالمصادر قليلة، فعدا كتاب عبد الستار القاسم ((مرتفعات الجولان)) الذي تطرق فيه إلى أحداث الضم والإضراب؛ لا يوجد أية دراسة جدية تتناول هذه المرحلة الزمنية من تاريخ الجولان المحتل، فقد كانت هذه المنطقة على هامش الأحداث، حتى فرضت نفسها بقوة في أواسط الثمانينات. أما عن مخطط التقسيم وإنشاء دويلات طائفية في المنطقة، فقد صدرت كتب عدة حوله، وتناولته بعض المصادر سأعرضها لاحقًا في سياق البحث، وأهمها كتاب ((قصة الدولتين الدرزية والمارونية)) لمحمد خالد قطمة، وكتاب ((الدروز تحت الاحتلال)) لغالب أبو مصلح، وكتاب شمعون آفيفي ((سدر نحاس)). 

المرحلة الأولى: إفراغ الجولان من سكانه، الرواية العربية مقابل الرواية الإسرائيلية

  ثمة روايتان تتعلقان بموضوع إفراغ الجولان من سكانه؛ الرواية الإسرائيلية والرواية العربية، ومهما اختلفت الروايتان، يبقى ما حصل جريمة حرب بالمقاييس كلها. 

أكثر من 128 ألف مواطن سوري أصبحوا لاجئين في ضواحي دمشق، حيث هدمت بيوتهم وقراهم ومدنهم وسويت بالأرض، وفيما يلي جدول مأخوذ عن مصدر إسرائيلي، يوضح توزع القرى والبلدات والسكان في الجولان بجزأيه؛ المحتل والباقي تحت السيادة السورية في نهاية حرب حزيران 1967 .

النسبة من المجموع العام عدد السكان عدد القرى

14.6 22000 50 ((سورية)) (لم تحتل)

66.5 100000 222 ((إسرائيل)) (وقعت تحت الاحتلال)

18.9 28000 1 (مدينة القنيطرة تحت الاحتلال)

85.4 128000 المجموع في إسرائيل (تحت الاحتلال) 223

100 150000 المجموع الكلي 273

   الرواية الإسرائيلية تدعي أنها احتلت الجولان نتيجة لاعتداء الجيش السوري عليها، ومن باب رد العدوان عن نفسها، شنت حربًا على الجيش السوري المعتدي، واستطاعت أن تهزمه وتحتل الجولان، ونتيجة لذلك نزح السكان السوريون من بيوتهم مع انسحاب الجيش السوري بمبادرة منهم، فقد وجدت القرى والمدن خاوية على عروشها، إلا من بعض الأفراد هنا وهناك.

 أما الرواية العربية فتقول إن الجيش الإسرائيلي اعتدى على الجيش السوري، واحتل الجولان، وطرد السكان من بيوتهم بالقوة، عن طريق الترهيب والتهديد بالقتل، وهدم القرى والمدن السورية بصورة مقصودة وممنهجة، لإخلاء الجولان من سكانه العرب السوريين.

إذا أخذنا كل رواية وفككناها، سنجد أنها تحتوي على عناصر أساسية متشابهة في الشكل، ومتناقضة في المضمون، هدفها دفع المسؤولية باتجاه الطرف الآخر، فالرواية الإسرائيلية تقول باختصار:

  1. إسرائيل شنت حربًا دفاعًا عن النفس في إثر اعتداء سورية عليها.
  2. السكان السوريون تركوا بيوتهم باختيارهم من دون ضغط أو إكراه.

 أما الرواية العربية فتحتوي على العناصر الآتية:

  1. إسرائيل شنت حربًا عدوانية على سورية بهدف التوسع.
  2. إسرائيل احتلت الجولان، وهجرت السكان، وهدمت القرى والمدن بصورة مقصودة.

ماذا قالت القيادة العسكرية الإسرائيلية بعد حرب حزيران؟

  لن ندخل في نقاش مطول في حيثيات بداية حرب حزيران 1967، لأنه ليس هدف هذه الدراسة، ولكن سنعرج قليلًا على بعض ما جاء على لسان القيادة العسكرية الإسرائيلية بعد الحرب، لنضيء ولو قليلًا على النقطة الأولى التي تدعي فيها إسرائيل أنها شنت حربًا دفاعًا عن النفس بعد أن هاجمها الجيش السوري.

1-موشيه دايان

  في مقابلة صحفية عام 1976 أجريت مع ((موشيه دايان)) الذي شغل منصب وزير الدفاع خلال حرب حزيران 1967، لكنها لم تنشر إلا في عام 1997، أي بعد مرور عشرين عامًا تقريبًا، حيث قال: ((أنا أعرف كيف بدأت على الأقل ثمانين بالمئة من كل الحوادث هناك (المقصود في المناطق معزولة السلاح بين سورية وإسرائيل قبيل الحرب)، كانت تجري على النحو التالي: كنا نرسل تراكتورًا ليحرث بمكان معين، والذي ليس من الممكن استصلاحه، داخل المنطقة معزولة السلاح، وكنا نعرف مسبقًا أن السوريين سيطلقون النار عليه. وإذا لم يطلقوا النار، كنا نطلب من سائق التراكتور أن يتقدم أكثر حتى نستفز الجيش السوري أكثر، مما يجعلهم يطلقون النار. وعندها كنا نستعمل ضدهم المدفعية ولاحقًا سلاح الجو (…) أنا قمت بهذا، ولسكوف وتسور قاما أيضًا بهذا الفعل (حاييم ليسكوف وتسفي تسور كانا رؤساء اركان سابقين). وأيضًا إسحاق رابين فعل ذلك عندما كان هناك في بداية الستينات. ولكنني أعتقد أن أكثر شخص كان يلتذ على هذه اللعبة كان دادو (دافيد أليعزر قائد المنطقة الشمالية إبان حرب حزيران 1967)).

  السؤال الذي يطرح نفسه هنا وبقوة، لماذا لم تنشر هذه المقابلة إلا بعد عشرين عامًا؟ الجواب واضح من خلال المضمون الذي أورده موشيه دايان، فإسرائيل -كما ورد على لسانه- كانت معنية بالحرب، وكانت تحاول جر الجيش السوري لمواجهة عن طريق استفزازه، وهذا يقوض الادعاء الإسرائيلي بأنها خرجت لحرب دفاعية عام 1967. لذلك منع نشر هذه المقابلة حتى لا تحرج وتكذب الرواية الإسرائيلية الرسمية. 

ويؤكد الباحث الإسرائيلي في الشؤون السورية ((آيال زيسر)) في دراسة له نشرت في مجلة ((عيونيم بتكومات يسرائيل)) أو ((تأملات في بعث إسرائيل)) تحت عنوان ((بين إسرائيل وسورية- حرب الأيام الستة وما بعدها))؛ يؤكد هذه الحقيقة، ويعد ما قاله موشيه دايان في هذه المقابلة مضرًّا بإسرائيل، لأنه يوصلنا إلى ثلاث نتائج، حيث يقول زيسر: 

((أولًا قرار إسرائيل باحتلال الجولان لم يكن نتيجة مباشرة وضرورية، تنبع من تطور وتسلسل حوادث أيار وحزيران 1967 (كما تدعي إسرائيل)، لأنه -حسب أقوال دايان- السوريون لم يشكلوا تهديدًا على إسرائيل، عشية الحرب وخلالها. ثانيًا إسرائيل هي التي بادرت إلى قسم كبير من الحوادث في المنطقة المعزولة وعلى الحدود بين الدولتين(…) وثالثًا يبرز من حديث موشيه دايان روح عدائية تجاه السوريين سادت بين قيادات الجيش الإسرائيلي)). 

  إذا أضفنا ما ورد سابقًا، إلى ما قاله موشيه دايان خلال مثوله أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، بعد الحرب، -وتبقى على الأغلب جلساتها سرية، ثم تكشف لاحقًا أمام الصحافة والباحثين- لتبين لنا بوضوح كذب ادعاء إسرائيل بأنها خاضت حربًا دفاعية. إذ جاء على لسان دايان ما يأتي: ((الجزء الإشكالي في الحرب كانت سورية، صحيح بأنها قامت بعمل عدائي واحد أو اثنين في محاولة للدخول الى مزارع كيبوتس دان، ولكن لم يكن هذا جديًا (…)، كان من الممكن أن ننهي الحرب مع سورية، ونبقى في مكاننا على الحدود القديمة. لم ندخل بالحرب مع سورية بسبب مبادراتهم العسكرية ضدنا، وإنما من أجل إنقاذ الكيبوتسات من المدفعية السورية، ولنعلمهم درسًا لن ينسوه)). من هنا أصبح واضحًا أن إسرائيل كانت تتحين الفرصة للتوسع واحتلال الجولان.

  إن هذه التصريحات المثبتة بمصادرها من أعلى قيادة عسكرية في إسرائيل، أي وزير الدفاع موشيه دايان، تثبت من دون أدنى شك أن إسرائيل خرجت للحرب من أجل احتلال الجولان، وذلك لتنفيذ مهمة استراتيجية غاية في الأهمية، مهمة انكشفت لاحقًا، وهي مشروع التقسيم الطائفي، أي تقسيم سورية ولبنان إلى دويلات طائفية، هذا إضافة إلى السيطرة على منابع نهر الأردن، وكانت حجتهم المعلنة هي رفع القصف السوري عن المستوطنات الإسرائيلية.

2-ييغال ألون

بدأ المستوطنون بالضغط على ((ليفي أشكول)) رئيس الوزراء آنذاك، بتحريض من مهندسي مشروع التقسيم، من أجل الخروج الى حرب ضد سورية، ليقنعوا العالم أنهم خرجوا إلى هذه الحرب تحت ضغط المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات المتكررة من قبل الجيش السوري. وكان هؤلاء المستوطنون ينتمون الى حركة ((مباي)) التي يعد ليفي أشكول من قياداتها، وهو عضو في كيبوتس دغانيا الحدودي سابقًا. لقد دعم هؤلاء وشجعهم بصورة علنية، كل من قائد المنطقة الشمالية ((دافيد بن أليعزر))، ووزير العمل آنذاك ((ييغال ألون))، الذي لعب دورًا مركزيًّا في مؤامرة التقسيم بل يمكن القول إنه مهندسها. 

لقد اعترف ألون بدوره هذا فقال: ((أنا الذي جندت المستوطنين ليضغطوا على أشكول، من أجل احتلال الجولان))

وبقرار احتلال الجولان، رأى ألون أن ثمة فرصة تاريخية لتغيير حدود إسرائيل التي فرضت عليها في حرب الاستقلال -كما يقول- وكذلك السيطرة على منابع نهر الأردن. والأخطر من ذلك، كما أورد ((موشيه معوز)) المختص بالشؤون السورية في كتابه ((إسرائيل- سورية نهاية النزاع)) ((آلون أراد أن ينفذ مشروعه الذي سماه ((حلف الأقليات))، حيث اعتقد أن احتلال الجولان، يمكن إسرائيل من التواصل مع جبل الدروز في سورية، وكل الذين لا ينتمون للعرب في الشرق الأوسط)). (في الثقافة السياسية الإسرائيلية، العرب هم فقط المسلمون، أما المسيحيون والدروز والعلويون… ليسوا عربًا بل أقليات). 

   وهكذا، أرادت إسرائيل من احتلالها للجولان أن تسيطر على منابع مياه نهر الأردن من جهة، ومن أجل محاولة تنفيذ مخططها التقسيمي الذي وضع أسسه ييغال ألون، والقاضي بإقامة دويلات طائفية في سورية ولبنان من جهة أخرى، مستغلة الهزيمة العربية في حرب حزيران 1967. ولهذا لا بد من احتلال الجولان، الذي يشكل جسرًا يمتد من جنوب سورية إلى جنوب لبنان، ومن ضمن هذا المخطط، كما سيأتي لاحقًا، إفراغ الجولان من سكانه.

   على أساس ما ورد، يمكن القول إن ادعاء إسرائيل الخروج الى حرب دفاعًا عن النفس، ضد الاعتداءات السورية، هو كذب ومحض افتراء، ويهدف إلى تبرير عدوانها أمام العالم. وينتج عن ذلك بالمقابل، أن الادعاء السوري كان صحيحًا بأن إسرائيل شنت حربًا عدوانية على سورية، كان معدًا مسبقًا، من أجل التوسع والسيطرة على الأرض ومصادر المياه في بانياس وجبل الشيخ. ونضيف إلى هذا الادعاء، ما تبين لاحقًا، أن هذا التوسع كان يحمل في طياته مخططًا خطيرًا، لو كتب له النجاح، لكان غير ملامح الشرق الأوسط.

كيف تعاملت إسرائيل مع السكان السوريين في الجولان؟

  السؤال التالي هو: كيف تم التعامل مع السكان السوريين في الجولان؟ ومن هو المسؤول عما جرى لهؤلاء الذين تحولوا بأغلبيتهم إلى لاجئين؟ ولماذا؟

هنا يأتي الشق الثاني من الرواية الإسرائيلية، حيث تدعي أن السكان السوريين تركوا قراهم عندما انسحب الجيش السوري من الجولان. ويقول أحد الضباط الإسرائيليين الذين دخلوا القنيطرة بعد احتلالها في العاشر من حزيران: ((دخلت فرقة عسكرية مدرعة بقيادة العقيد ألبرت ماندلر المدينة عند الساعة 2:30 ظهرًا، ووجدوا المدينة مهجورة والمعدات العسكرية متناثرة في كل مكان.)) 

   وصرح بعد ذلك قائد إسرائيلي: ((وصلنا للقنيطرة من دون أي عائق تقريبًا… كان هناك غنائم في كل مكان حولنا، كل شيء كان لا يزال يعمل. محركات الدبابات لم تتوقف، معدات الاتصال لا تزال في وضع العمل، وقد تم التخلي عنها. سيطرنا على القنيطرة دون قتال)).

 ويؤكد موشيه دايان هذا الأمر في مذكراته إذ يقول: ((وفي صبيحة اليوم التالي، السبت 10 حزيران(يونيو)، لاحظ رجالنا أن المدافعين السوريين قد تخلوا، في جو من الفوضى، عن مواقعهم ليلًا، تاركين وراءهم المدافع المضادة للدبابات، والرشاشات الخفيفة والثقيلة. فان الهزيمة التي حلت بهم في اليوم السابق، وغارات طائراتنا المتواصلة، قد حطمت معنوياتهم. فان الحكومة السورية، التي لمست الوضع الميؤوس منه الذي وجدت نفسها فيه، أعلنت في الثامنة والنصف من صبيحة اليوم التالي، سقوط القنيطرة، لتدفع مجلس الأمن الى اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار فورًا. وفي الواقع، لم يكن أي جندي إسرائيلي قد ظهر، ساعتئذ، في المدينة. والقوات السورية في الجبهة، ما كادت تسمع النبأ، حتى انطلقت مدبرة، فلم تر حامية المدينة، عندئذ، أية فائدة من المقاومة. ولما وصلت قواتنا، حوالي الظهر الى القنيطرة، والبطمية ومسعدة، وهي أهدافنا الأخيرة في الجولان، وجدتها خالية)).  

   طبعا إسرائيل تحاول التنصل مما قامت به إبان الحرب، لتدعي أنها وجدت القرى فارغة، ولكن الحقيقة عكس ذلك، فقد سعت بالوسائل كلها إلى فرض الأمر الواقع على السكان السوريين في الجولان، لإجبارهم على ترك قراهم ومدنهم، وذلك تنفيذًا لما أضمرته لهذه المنطقة بعد أن تضع الحرب أوزارها. إن إسرائيل كانت تمتلك خطة من ضمنها تهجير السكان السوريين، ولذلك أدخلت الرعب لقلوب المواطنين عن طريق القصف العشوائي برًا وجوًا، واستهدفت المدنييين الذين بدؤوا بالهرب من وجه الآلة الحربية الإسرائيلية، وهذه ردة فعل إنسانية طبيعية أمام حدث مثل هذا الحدث. 

 لقد سعت إسرائيل منذ قيامها إلى تفتيت الوطن العربي إلى دويلات طائفية، وهذا أمر طبيعي ومتوقع من عدو يريد أن يشرعن وجوده كدولة يهودية أولًا، ويفتت الجبهة العربية ضده، ويشغلها بصراعات داخلية ثانيًا. ولهذا كان كل من سورية ولبنان دائمًا مستهدفين لأنهما يتشكلان من فسيفساء طائفي متنوع، ولذلك كانت إسرائيل قد أعدت خطة لإقامة دولة درزية، تمتد من محافظة السويداء جنوبي سورية حتى جبل الشوف الذي تسكنه أغلبية درزية في لبنان، وربط بعضهما ببعض عبر احتلال الجولان، لإقامة حزام درزي يمتد من جنوبي سورية إلى جنوبي لبنان. وخططت لاحقًا لإقامة دولة علوية على الساحل، ودولة للأكراد في الشمال السوري، ودولة سنية في الداخل السوري، إضافة الى دولة مسيحية في لبنان، وهذا ما رمى إليه ييغال ألون عندم تكلم عن حلف الأقليات في الشرق الأوسط. 

لذلك أرادت إسرائيل الجولان خاليًا من السكان، وتبنت الاستراتيجية الآتية لتنفيذه: ضغطت على سكان الجولان، بالوسائل المتاحة كلها، لتفرض عليهم المغادرة، وبالمقابل خففت الضغط على القرى التي تنتمي إلى الطائفة الدرزية شمالي الجولان، لعلهم يشكلون رأس الحربة في هذا المشروع، وذلك لعلم الإسرائيليين أن هؤلاء السكان لاقوا الأمرين من النظام السوري قبل الاحتلال من جهة، وقدروا أن الأرضية خصبة لمثل هذه المشاريع خصوصًا بعد الهزيمة من جهة أخرى. ولأن الواقع العربي واقع طائفي متخلف، فإن بقاء القرى الدرزية سيضعها في موضع الاتهام بالتعامل مع إسرائيل، ولعل هذه الاتهامات ستدفعهم باتجاه التعاون معها، أي مع إسرائيل، وفي حال رفضوا سيتم تهديدهم بالطرد. 

   إذًا، من الواضح أن إسرائيل دأبت وسعت إلى طرد السكان السوريين من أرضهم، تمهيدًا لتطبيق مخططاتها، ولنكون منصفين وموضوعيين، يجب أن نتطرق أيضًا إلى المسؤولية التي يتحملها النظام السوري عما جرى لهؤلاء السكان. 

حال السوريين بعد الاحتلال ومسؤولية النظام السوري

إن الرواية العربية حول ما حصل للسكان السوريين في الجولان إبان الاحتلال -أوردناها سابقا- تحمل الإسرائيليين وجيشهم المسؤولية كلها، من دون التطرق إلى أي مسؤولية يتحملها النظام السياسي والعسكري السوري، فقد نسبت المصائب التي حلت بالسوريين كلها إلى إسرائيل وجيشها، وهذا التحليل يذكرنا بما أورده الدكتور ((صادق جلال العظم)) عندما حلل دور الشخصية الاجتماعية العربية في الهزيمة، حيث يرجع العظم هذه السلسلة من الأخطاء في التقييم إلى أنماط السلوك الاجتماعي الذي درسه عالم الاجتماع المصري حامد عمار، وأطلق عليه اسم ((الشخصية الفهلوية))، وقد تناولها الدكتور ((صادق جلال العظم)) في كتابه ((النقد الذاتي بعد الهزيمة)) الصادر بعد هزيمة حزيران من عام 1967، حيث قال: ((إن الإنسان العربي ينسب دائمًا ما يحل به من مصائب إلى قوى خارجية كقوى الطبيعة أو إلى العدو، لكي يدفع بالمسؤولية عن نفسه.ولنكون علميين في طرحنا، يجب أن نورد الشق الثاني الذي تجاهله الجانب العربي، وهو المسؤولية التي يتحملها النظام السوري آنذاك عن الكارثة التي حلت بالسوريين، لنتساءل : هل كان بالإمكان إفشال هذا المخطط ووأده في مهده؟ هل كان من الممكن للسكان السوريين أن يبقوا في قراهم ومدنهم؟ أم إن مصيرهم كان محتومًا ولا نقاش في ذلك؟.

أظن أن الجواب على هذه الأسئلة المطروحة قد يكون مفاجئًا لبعضهم، فأنا أرى أنه على الرغم من كل ما ذكر سابقًا عن ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه السكان السوريين في الجولان إبان الاحتلال، كان من الممكن إفشال هذا المخطط، وكان من الممكن أيضًا بقاء قسم كبير من السكان في قراهم ومدنهم بصورة أو بأخرى، لو توافرت الإرادة والدعم اللازمين، ودليلي على ذلك ما يأتي: 

((بالنسبة إلى إسرائيل تعتبر القدس الشرقية أهم منطقة استولت عليها إبان الحرب، فهي مقدسة عندهم، ويعتبرون المسجد الأقصى مبنيًا على الأنقاض الهيكل اليهودي، وحلمت إسرائيل دائمًا، ومنذ قيامها، بجعل القدس الموحدة عاصمة لها. من هنا ممكن الادعاء، أن تصميم إسرائيل على طرد السكان العرب من القدس، يفوق تصميمها طرد سكان الجولان، لما تمثله القدس من قيمة دينية وسياسية وتاريخية لها لا تقارن بأي منطقة أخرى احتلتها أبان الحرب. فقد ضمت إسرائيل القدس إليها فورًا بعد احتلالها، بينما الجولان لم يضم إلا بعد 14 عامًا من احتلاله. لكن تجربة الشعب الفلسطيني عام 1948 جعلته يصمد ويرفض الخروج مهما كلفه ذلك من تضحيات، وهكذا لم تستطع إسرائيل ترحيلهم، فهنالك اليوم، أكثر من 350 ألف عربي في القدس يشكلون شوكة في عين إسرائيل، وهذا ما جرى أيضًا في الضفة الغربية عمومًا)).

  إن الجانب السوري يتحمل مسؤولية كبرى عن الكارثة التي حصلت للسوريين في الجولان، فقد أدخل أولًا الرعب إلى قلوب السوريين من العدو الإسرائيلي، عبر ثقافة وهمية كان يبثها بينهم، حيث كان يخترع من خلالها الأساطير عن اليهود، ظنًا منه أنه ينال منهم، أي من اليهود، وكانت النتيجة أنه أدخل الرعب إلى نفس المواطن السوري البسيط، وجعله يتصرف بخوف وذعر. وثانيًا كان لإعلان سقوط القنيطرة قبل وصول الجيش الإسرائيلي إليها، الأثر الكبير في معنويات السوريين في الجولان، فقد أعلن عن سقوط القنيطرة عبر إذاعة دمشق في الساعة 8:46، وحمل هذا البلاغ رقم 66 الصادر عن وزير الدفاع السوري آنذاك حافظ الأسد، في حين لم يدخلها الجيش الإسرائيلي إلا بعد أكثر من خمس ساعات من موعد صدور البيان. ويقول قائد الفرقة الثامنة ((إبراهيم إسماعيل كهيا)): ((تلقينا أوامر بسد الطرق المؤدية إلى القنيطرة، لكن جاء خبر سقوط المدينة، مما جعل الكثير من جنودي يغادرون الجبهة، والركض عائدين إلى سورية، بينما الطرق مفتوحة. لقد تراكموا على المركبات، مما ثبط من معنوياتنا. انسحبت قبل أن أرى جنديًّا عدوًّا)). 

وثالثًا الانسحاب الكيفي والمخزي من الجولان، والفوضى التي أحدثها من دون وجود أي توجيهات للمدنيين من القيادة السورية، مما أدى إلى إحداث بلبلة كبيرة، أسهمت في جبار قسم من السكان على ترك منازلهم قبل وصول الجيش الإسرائيلي إليها. وأوضح ما يدل على هذه الفوضى، هروب آمر الجبهة في الجولان العقيد أحمد المير الى دمشق، بعد أن خلع زيه العسكري، وهو يركب حمارًا.

من هنا نستطيع القول، إن الجانب السوري يتحمل مسؤولية كبرى عما حدث في الجولان، فطبيعي أن تسعى إسرائيل إلى تهجير السكان السوريين من الجولان، ليتسنى لها تنفيذ مخططاتها، ولكن ليس من الطبيعي أداء النظام السوري آنذاك، فقد سهل المهمة على إسرائيل بصورة كبيرة، وجعلها تدعي أنه ليس لها يد فيما حصل. فلو امتلك السوريون إرادة البقاء حتى لو كانت مكلفة، كما كانت عند الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، ولو أسهم النظام السياسي السوري بتشجيعهم على البقاء أو محاولة إعادتهم بعد خروجهم في الأيام الأولى للاحتلال حتى لو كان ذلك صعبًا، لأن إسرائيل طبعًا لن ترضخ بسهولة؛ لكانت الأمور مختلفة تمامًا اليوم. فلنا عبرة فيما حدث في الخامس من حزيران 2011، عندما استطاع شباب فلسطينيون وسوريون الوصول الى قلب مجدل شمس، غير آبهين بحقول الألغام الموجودة على جانبي خط وقف إطلاق النار.

هل كان بقاء السوريين قرى الجولان الشمالية ممكنًا؟

كان بقاء السوريين في قرى شمالي الجولان، التي تنتمي إلى الطائفة الدرزية لأسباب عدة، أبرزها: 

1- المخطط الإسرائيلي لقيام دولة درزية والذي خفف ضغط إسرائيل عليهم، الأمر الذي مكنهم من البقاء في بيوتهم.

2- تجربة سكان هذه القرى إبان الثورة السورية الكبرى عام 1925، عندما أقدمت فرنسا على حرق قرية مجدل شمس وتهجير سكانها، حيث تحولوا إلى لاجئين حتى نهاية الثورة وذاقوا الأمرين. هذه التجربة ما زالت حاضرة في ذاكرتهم، وتتناقلها الأجيال، لذلك امتلكوا ارادة البقاء، خصوصًا أن أعيانهم وقفوا بوجه كل من حاول ترك بيته، مذكرين الناس بأحداث عام 1925.

3- مما لا شك فيه أن علاقة دروز الجليل والكرمل بدولة إسرائيل، أسهمت أيضًا ببقاء هذه القرى، وبعدم ترحيل سكانها، فقد وصلت وفود من دروز الجليل والكرمل، بإيحاء من إسرائيل، لتطمين أهالي هذه القرى، بأن إسرائيل لا تنوي أن تمسهم بسوء إذا رفعوا الأعلام البيضاء، وتعاملوا بعقلانية مع الواقع الجديد.

4- لقد كانت أحداث الحرب الرئيسة بعيدة عن هذه القرى، ولذلك لم تتضرر بصورة مباشر ة من الأعمال الحربية. 

5- طبيعة هذه القرى الزراعية؛ حيث اعتمد غالبية سكانها على زراعة الأشجار المثمرة وخصوصًا التفاح، فشكل هذا رابطًا قويًا جعلهم يتمسكون بممتلكاتهم، ولا يغادرون قراهم.

على أساس ما ورد نستطيع الادعاء، أن بقاء السكان السوريين في الجولان كان ممكنًا لو توافرت الإرادة والإصرار على البقاء، ولو كان هناك نظام سياسي داعم يمتلك رؤية استراتيجية لآفاق صراعه مع إسرائيل. فوجود السكان على أرضهم هو الضمانة في أي صراع للمحافظة على هوية الأرض. وبالمقابل استفادت إسرائيل من هذا الفراغ والبلبلة، وقامت بهدم القرى خوفًا من صحوة سورية لإعادة السكان العرب إليها، لأن خط وقف إطلاق النار بقي مفتوحًا لأشهر بين سورية وإسرائيل، وكان من الممكن الانتقال بسهولة ويسر عبره، الأمر الذي كان سيحرجها أيما إحراج.

  بسبب التخلف والتعصب الطائفي المقيت وقع المحظور، فبدلًا من دعم السوريين الذين بقوا في قراهم، ومحاولة إعادة النازحين، والطلب من الأمم المتحدة المساعدة في هذا الأمر، اتهم من بقي في أرضه بالتعامل مع إسرائيل، كما توقع الإسرائيليون، من دون أن يفهموا ما كانت ترمي إليه الدولة الصهيونية وما بيت لهؤلاء السكان، واستخدمها النظام ذريعة لامتصاص النقمة الشعبية على الهزيمة، لذلك ألصقها بالدروز الذين بقوا في قراهم. وهذا يذكرنا مرة أخرى بـ ((الشخصية الفهلوية)). لقد أصاب قادة إسرائيل أصحاب مشروع التقسيم، عندما توقعوا أن السكان الذين بقوا في بيوتهم سيتهمون بالتعاون معها، ولكنهم أخطؤوا التقدير في الشق الثاني، بأن هذا الاتهام سيدفع بهؤلاء الى أحضانهم، فقد حصل العكس تمامًا، وأثبت السكان الباقون والمتهمون بالخيانة، أنهم الضمانة الوحيدة التي ثبتت عروبة الجولان، وجعلت العالم يسمع أن ثمة أرضًا سورية محتلة.

 إذًا يجب تصحيح الرواية العربية كما يأتي: 

بسبب طبيعة إسرائيل التوسعية، عملت إسرائيل بقوة على ترحيل السكان السوريين من الجولان، من أجل تنفيذ مخططاتها التقسيمية للمنطقة، وأسهم النظام السياسي السوري آنذاك، بقصد أو بغير قصد، بتنفيذ هذه المؤامرة، والنتيجة كانت أن أكثر من 128 ألف مواطن سوري موزعين على 223 قرية ومزرعة ومدينة هجروا من بيوتهم، وهدمت قراهم، وسويت بالأرض. لقد كان السكان السوريون ممن بقوا في بيوتهم، وممن أجبروا على الرحيل، ضحية الاحتلال ومخططاته من جهة، وضحية النظام السياسي السوري من جهة أخرى.

المرحلة الثانية: بين عامي 1967 و1973

هذه المرحلة تميزت بحدثين مهمين، أولًا إفشال المخطط الإسرائيلي في إنشاء دويلات طائفية وتقسيم سورية ولبنان، وثانيًا بداية تشكل نواة الحركة الوطنية السورية في الجولان في مواجهة الاحتلال. 

المخطط الإسرائيلي لتقسيم المنطقة:

   لقد ورد مخطط إنشاء الدولة الدرزية في أكثر من مصدر، ولكنني اعتمدت في التفاصيل التي سأوردها عن هذا المخطط، على كتاب ((محمد خالد قطمة)) ((قصة الدولتين المارونية والدرزية)) الصادر في بيروت في عام 1985 بطبعته الثانية، وكتاب ((غالب أبو مصلح)) ((الدروز في ظل الاحتلال الإسرائيلي)) الصادر عام 1975. أما بالنسبة إلى المصادر الإسرائيلية فهي تتجاهل كل مخطط يفشل وتتنصل منه، ولكن هناك ذكر لهذا الموضوع عند بعض المختصين الإسرائيليين بالشؤون السورية واللبنانية، من مثل ((موشيه معوز)) و((آيال زيسر)) و((شمعون أفيفي)) في كتابه ((طاس نحوشت (سدر النحاس)) الصادر عام 2007، الذي تطرق فيه إلى المراسلات بين ((ييغال ألون)) و((ليفي أشكول)) رئيس الوزراء إبان حرب حزيران 1967، حول مشروع قيام كيان خاص بالدروز على خلفية احتلال الجولان. وكان قد أسهم كاتب هذه الدراسة بورقة بحثية تطرقت فيها إلى هذا الموضوع في ((معهد ترومان لأبحاث السلام)) التابع للجامعة العبرية، ونشرت في كتاب أعده ((موشيه معوز)) تحت عنوان ((الجولان بين الحرب والسلام)) الصادر عام 1999، وترجم لاحقًا إلى العربية.

لقد تردد ((ييغال ألون)) صاحب المخطط في أواخر عام 1967، مدفوعًا من أجهزة الأمن الإسرائيلية إلى الجولان، ليجري لقاءات مع قيادات المنطقة، وكان كلامهم (أي الإسرائيليون) واضحًا وحاسمًا؛ إما القبول بالمخطط وإما الترحيل. فاختارت قيادة الجولان التظاهر بالقبول لمنع الترحيل، ولكنهم أصروا ضمنًا على إفشال هذا المخطط، واختير عضو البرلمان السوري السابق ((كمال كنج أبو صالح)) لخبرته السياسية للقيام بهذه المهمة الصعبة، حيث أخذ على عاتقه إفشال هذا المخطط من دون تعريض السكان للترحيل، مستغلًا عامل الزمن، وبالفعل استدعي إلى تل أبيب لوضعه ببعض تفاصيل المخطط، وتظاهر بقبوله، فانتقلوا إلى المرحلة الثانية، وهي التنسيق مع قيادات الدروز في سورية ولبنان لإقناعهم بالمشروع. 

اقترح كمال كنج على الإسرائيليين اسم ((كمال أبو لطيف)) لثقته الكاملة بوطنيته، فوافق الأمن الإسرائيلي على أن يكون ((كمال أبو لطيف)) صلة وصل بين ((كمال كنج)) وقيادات الدروز في سورية ولبنان. ثم سافر كنج إلى إيطاليا برفقة أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية ويدعى ((يعقوب)) (وهو اسم مستعار وعقيد في الأمن الإسرائيلي)، ومن هناك استطاع أن يستدعي أبو لطيف وهو لبناني الجنسية وضابطًا سابقًا في الجيش السوري، فاستقبله منفردًا بعد أن أقنع يعقوب أنه سيمهد له الطريق لقبول المخطط. أخبر كنج أبو لطيف التفاصيل التي كان قد عرفها من يعقوب، واتفقا سويًا على إفشال هذا المخطط الخطر، ووضع الجانب العربي بتفاصيله، ولكنهما تظاهرا أمام يعقوب بقبوله لاستكمال باقي التفاصيل حول هذه المؤامرة. عاد كمال أبو لطيف بعد أن استطاعا مع كمال كنج أخذ تفاصيل مهمة عن المخطط، إلى لبنان وأطلع ((كمال جنبلاط)) و((شوكت شقير)) (رئيس أركان الجيش السوري سابقًا) بالتفاصيل، وبدوره قام كمال جنبلاط بإخبار الرئيس ((جمال عبد الناصر)). وسافر كمال أبو لطيف إلى دمشق ليخبر ((عبد الكريم الجندي)) رئيس شعبة المخابرات آنذاك، وعرض عليه التفاصيل التي أطلعه عليها كمال كنج، تفاصيل سمعها من يعقوب أيضًا. وكان كمال كنج وكمال أبو لطيف قد اتفقا على ((شيفرة)) للمراسلة بينهما، مختلفة عن الشيفرة التي اتفقا عليها مع يعقوب، مما أتاح لهما التواصل ونقل باقي تفاصيل المخطط التي كانت كما يأتي:

تشن إسرائيل هجومًا على جنوبي سورية وجنوب لبنان، لتصل إلى جبال الشوف في لبنان وجبل الدروز في سورية بحجة الوجود الفلسطيني، ثم يعلن عن قيام دولة درزية تعترف بها إسرائيل وأميركا. وقد رصد لهذه الغاية مبلغًا أوليًّا قدره 30 مليون دولار. تقوم إسرائيل لاحقًا بنقل دروز الجليل والكرمل إلى الجولان الذي أخلي من سكانه، وهكذا تتخلص إسرائيل من الدروز داخل حدود 48، وتسيطر على قراهم، وبالمقابل يتشكل حزام درزي مدعوم من إسرائيل، يكون حاجزًا بينها وبين الجانب العربي. ويتم العمل لاحقًا على اقامة دولة علوية في الساحل، ودولة مسيحية في لبنان، ودولة سنية في الداخل السوري، إضافة إلى دولة كردية في الشمال، وهكذا تتحول سورية ولبنان إلى دويلات طائفية تتصارع فيما بينها، مما يضعف بصورة كبير ة التهديد العربي لإسرائيل من الجبهة الشمالية، ويعطي شرعية لقيام الدولة اليهودية.

  ((كان اهتمام عبد الناصر لا يقل عن اهتمام السلطات السورية بالأمر، فأبلغ السلطات العراقية والأردنية بالمعلومات التي توافرت لديه، وأخذت وسائل الإعلام العربية تتحدث عن اجتماعات هامة تعقد لتشكيل الجبهة الشرقية… ثم أعلن عن قيام الجبهة الشرقية من الدول العربية الثلاث، سورية، العراق والأردن، وأنيطت قيادتها لضابط مصري كبير، وعززت المواجهة في مواقع المحاور التي وردت على لسان يعقوب بقوات عسكرية من دول الجبهة. هنا ثارت إسرائيل وأدركت انفضاح مخططها، فتم استدعاء كمال كنج للتحقيق فأنكر))، فبدأت بمراقبته، حيث استدعي إلى سورية أكثر من مرة، لوضعهم بباقي التفاصيل الملحة، والاتفاق على خطة عمل لمواجهة هذا المخطط. وفي آخر زيارة كان ينوي أن يقوم بها كمال كنج أبو صالح إلى دمشق، برفقة أحد رجال الكومندوس السوري، الذي وصل إلى بيته سرًا لمرافقته؛ تم تطويق مجدل شمس ثم بيته، وألقي القبض عليه وعلى رجل الكومندوس في 8 تشرين أول 1970، وحوكم أمام محكمة عسكرية في القنيطرة، وحكم عليه بالسجن لمدة 208 سنوات. أما كمال أبو لطيف فقد تم اغتياله لاحقًا في بلدته عيحا من قبل الإسرائيليين. وهكذا دفع كمال كنج أبو صالح وكمال أبو لطيف ثمنًا غاليًا، ولكن العزاء هو أنهما أجهضا أخطر مخطط إسرائيلي لتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية، وأسهما في الإبقاء على السكان في قراهم، مستغلين عامل الوقت الذي لعب لمصلحتهم.

بداية تشكل نواة الحركة الوطنية في الجولان السوري المحتل:

أجرى كثيرون من الشباب بعد الاحتلال اتصالات بأجهزة الأمن السورية، بمبادرة شخصية منهم، وعرضوا عليهم أن يتنظموا لمصلحة العمل الوطني، ولا سيما أن قسمًا لا يستهان به من هؤلاء الشباب، كان متأثرًا بالحركة الناصرية والبعثية، وكان ثمة أيضًا نواة للحزب القومي السوري الاجتماعي، حيث شكل الفكر القومي العربي، الذي حمل شعلته الرئيس الراحل ((جمال عبد الناصر)) من جهة، وألم الهزيمة الذي جرح كبرياء هؤلاء الشباب بالصميم من جهة أخرى، دافعًا لهم إلى العطاء، والانخراط بالعمل الوطني. 

وبهذا تنظم أكثر من 70 شابًا من قرى الجولان في أربع شبكات سرية مختلفة، تعمل مع الأمن السوري، استطاع هؤلاء الشباب تقديم معلومات قيمة جدًا قبل حرب تشرين 1973، حول مرصد جبل الشيخ وخط بارليف، إذ عمل قسم منهم عمالًا في هذه المواقع، واستطاعوا الحصول على مخططاتها وقدموها للأمن السوري، وبدوره قدم الأخير مخططات خط بارليف للمصريين. استطاع الأمن الإسرائيلي اكتشاف أمر هذه الشبكات في السبعينيات، واعتقل عددًا كبيرًا من شباب قرى مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنية، وكذلك استشهد في تلك المدة شابان بالرصاص الإسرائيلي. 

   لا شك، أن هذا الحراك الوطني (افشال مخطط التقسيم والشبكات السرية) ترك أثره على السكان السوريين تحت الاحتلال، وبدأت تتشكل نواة الحركة الوطنية في الجولان، التي رفضت الاحتلال وسياسته، والتي تمثلت بسلوك الحاكم العسكري، حيث يمنحه منصبه حق التصرف كيفما يشاء وفقًا لمصلحة إسرائيل دون مراعاة القانون المدني الإسرائيلي أو القانون الدولي. وقد كان أول عمل قض مضجع الاحتلال، هو خروج مظاهرة عارمة في الجولان بعد إعلان وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970، وحصلت في هذه المظاهرة مواجهات بين الشباب والجيش.

ومن الملفت أن أجهزة الأمن السورية لم تسع إلى إقامة حركة وطنية في الجولان، وإنما أرادت من هؤلاء الشباب أن يتقربوا من أجهزة الأمن الإسرائيلية للحصول على معلومات، وتناست هذه الأجهزة أن الجولان بحاجة إلى حراك سياسي علني يعلن رفضه للاحتلال. هذا الأمر يعد -من وجهة نظري- خطًا استراتيجيًا في التعامل مع السكان المحليين، فعدم وجود سياسة معلنة ترفض الاحتلال، وتحرم التعامل معه، شجع مجموعة من سكان الجولان على التقرب من إسرائيل ومن أجهزتها، فاختلطت الأمور على المواطن العادي، فلا يمكنه معرفة من يتقرب لجمع المعلومات، ومن يتقرب لخدمة الاحتلال. الأمر الذي أسهم -إضافة إلى عوامل أخرى- إلى تشكل مجموعات تعاملت مع هذا الاحتلال، وقدمت له الخدمات، ظنًا منها أن إسرائيل دولة قوية جدًا لا يمكن هزيمتها، ولا يمكن للجانب السوري أن يستعيد الجولان مجددًا. وهكذا انقسم المجتمع في هذه السنوات بين مؤيدين للاحتلال ومعارضين له، وحاول المؤيدون بدعم منه تذكير السكان بطريقة تعامل الأجهزة الأمنية السورية معهم قبل الاحتلال، والإهانات والتهم التي كانت توجه لهم من قبل هذه الأجهزة، وذلك من أجل تبرير نهجهم المتعامل مع إسرائيل، مع أنه كان ((كلام حق أريد به باطل)). 

المرحلة الثالثة من أواخر 1973 وحتى قرار الضم في 14.12.1981:

هذه المرحلة تمثلت بأحداث جسام أثرت بصورة كبيرة في مجريات الأحداث في المنطقة. فقد كان لحرب تشرين عام 1973 تأثير كبير في سكان الجولان المحتل. فمهما اختلفت التحليلات حول طبيعة هذه الحرب سواءَ كانت تحريرية أم تحريكية، فقد حملت في طياتها تغييرًا كبيرًا مقارنة بحرب حزيران عام 1967. فقد أظهرت هذه الحرب، أولًا أن الجيش السوري قادر على المواجهة إذا توافرت الشروط الموضوعية والذاتية لذلك، وإن لم ينجح في تحرير الجولان؛ وثانيًا دق اتفاق فصل القوات على الجبهتين السورية والمصرية ناقوس الخطر عند المؤيدين للاحتلال، فأدركوا أن تحرير الجولان أمر ممكن. وهكذا بدأت تضعف المجموعات المؤيدة للاحتلال وتقوى شوكة الحركة الوطنية. وقامت كرد فعل إسرائيلي بخطوة هدفها فرض الأمر الواقع على الجولان وتعزيز سلطة الاحتلال عليه؛ بتأسيس المجالس المحلية في قرى الجولان في أواخر عام 1974، وعينت لاحقًا قضاة مذهب من السكان، وذلك كله كان بهدف شرعنة الاحتلال وإعطائه صبغة مدنية.

  جاءت اتفاقية كامب ديفيد في عام 1979، وإعادة سيناء لاحقًا للسيادة المصرية، لتدق المسمار الأخير في نعش المجموعات المتعاملة مع إسرائيل، فقد أصبح واضحًا وجليًا أن الاحتلال زائل، وإسرائيل ستضطر سلمًا أو حربًا لأن تعيد الجولان لأصحابه. وهكذا ضعفت هذه المجموعات أكثر، وبدأت بتغيير نهجها. وقد أسهم هذا في تغيير السياسة القمعية الإسرائيلية التي انتهجها الحكم العسكري آنذاك، خصوصًا بعد وصول الليكود إلى الحكم عام 1977، وتعيين حاكم عسكري جديد للجولان، يدعى ((موشيه عطار)) استخدم بدوره سياسة القمع والترهيب ضد السكان.

   استغلت إسرائيل تفوقها الاستراتيجي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد وإخراج مصر خارج معادلة الصراع، من أجل فرض الأمر الواقع على باقي الجبهات، ولذلك بدأت بالتفكير الجدي في ابتلاع الجولان نهائيًا وضمه إليها للضغط على سورية، وكذلك بدأت بالتحضير لاجتثاث الثورة الفلسطينية من لبنان، وكسر شوكة العراق الذي حاول أن يشكل بديلًا من الدور المصري في إطار ما عرف حينئذ بجبهة الصمود والتصدي، ولذلك قامت بضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981.

يقول الدكتور عبد الستار القاسم في كتابه ((مرتفعات الجولان)) مؤكدًا ما ورد سابقًا: ((جاءت مبادرة أنور السادات لتشجع الصهاينة على بدء التحرك لضم الجولان بشكل نهائي، حيث بدأت تتعامل مع الجولان بطريقة تؤدي إلى ضمه بصورة شرعية)).

   بدأت إسرائيل في أواخر السبعينيات بمحاولة تمرير مشروع ضم الجولان عن طريق السكان، لتدعي لاحقًا أنها استجابت لرغبتهم بالانضمام إليها. وبالفعل حاول الحاكم العسكري الجديد تمرير هذا المخطط والترويج للجنسية الإسرائيلية بين قطاع الموظفين، ولكن سرعان ما تسربت هذه المحاولات للمجتمع، فأدركت قيادته أبعاد هذا المخطط فتداعى السكان للاجتماع، وكان ردهم واضحًا وحاسما برفضه، حيث قويت شوكة الحركة الوطنية في هذه المرحلة، واستطاعت أن تكسب إلى جانبها تأييد قادة مؤثرين بين رجال الدين الذين دأبوا أن يبتعدوا عن العمل في المجال السياسي، وصدرت الوثيقة الوطنية لسكان الجولان السوري المحتل في 25 آذار عام 1981، ردًا صريحًا وواضحًا وحاسمًا على السياسة الإسرائيلية، حيث أعلن سكان الجولان ما يلي: 

(( نحن المواطنين السوريين في المرتفعات السورية المحتلة، نرى لزامًا علينا أن نعلن لكل الجهات الرسمية والشعبية في العالم أجمع، ولمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها، وللرأي العام العالمي وكذلك الإسرائيلي، ومن أجل الحقيقة والتاريخ، بصراحة ووضوح تامين، عن حقيقة موقفنا من الاحتلال الإسرائيلي ودأبه المستمر على ابتلاع شخصيتنا الوطنية، ومحاولته ضم الهضبة السورية المحتلة حينا، وتطبيق القانون علينا حينًا آخر، وجرّنا بطرق مختلفة للاندماج بالكيان الإسرائيلي والانصهار في بوتقته، ولتجريدنا من جنسيتنا العربية السورية التي نعتز ونتشرف بالانتساب إليها ولا نريد عنها بديلًا، والتي ورثناها عن أجدادنا الكرام الذين تحدّرنا من أصلابهم وأخذنا عنهم لغتنا العربية التي نتكلمها بكل فخر واعتزاز وليس لنا لغة قومية سواها. وأخذنا عنهم أراضينا العزيزة على قلوبنا وورثناها أبًا عن جد منذ وجد الإنسان العربي في هذه البلاد قبل آلاف السنين-أراضينا المجبولة بعرقنا وبدماء أهلنا وأسلافنا. حيث لم يقصّروا يومًا في الذود عنها وتحريرها من كل الغزاة والغاصبين على مر التاريخ. والتي نقطع العهد على أنفسنا أن نبقى ما حيينا أوفياء ومخلصين لما خلفوه لنا منها وألا نفرّط منها بشيء منه مهما طال زمن الاحتلال الإسرائيلي، ومهما قويت الضغوط علينا من السلطة المحتلة لإكراهنا أو إغرائنا لسلب جنسيتنا ولو كلفنا ذلك أغلى التضحيات.

وهذا موقف من البدهي والطبيعي جدًا أن نقفه، وهو موقف كل شعب يتعرض كله أو جزء منه للاحتلال. وانطلاقًا من شعورنا بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا تجاه أنفسنا وأبنائنا وأجيالنا القادمة أصدرنا هذه الوثيقة:

1-هضبة الجولان المحتلة هي جزء لا يتجزأ من سورية العربية.

    2- الجنسية العربية السورية صفة حقيقية ملازمة لنا لا تزول، وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء.

3-أراضينا هي ملكية مقدسة لأبناء مجتمعنا السوريين المحتلين. وكل مواطن تسوّل له نفسه أن يبيع أو يتنازل أو يتخلّى عن شبر منها للمحتلين الإسرائيليين يقترف جريمة كبرى بحق مجتمعنا، وخيانة وطنية لا تغتفر.

4-لا نعترف بأي قرار تصدره إسرائيل من أجل ضمّنا للكيان الإسرائيلي ونرفض رفضًا قاطعًا قرارات الحكومة الإسرائيلية الهادفة إلى سلبنا شخصيتنا العربية السورية.

5-لا نعترف بشرعية المجالس المحلية والمذهبية، لكونها عُيّنت من قبل الحكم العسكري الإسرائيلي وتتلقى تعليماتها منه، ورؤساء وأعضاء هذه المجالس لا يمثلوننا بأي حال من الأحوال.

6-إن الأشخاص الرافضين للاحتلال من خلال مواقفهم الملموسة، والذين هم من كافة قطاعاتنا الاجتماعية، هم الجديرون والمؤهلون للإفصاح عما يختلج في ضمائر ونفوس أبناء مجتمعهم.

7-كل مواطن من هضبة الجولان السورية المحتلة تسول له نفسه استبدال جنسيته بالجنسية الإسرائيلية، يسيء إلى كرامتنا العامة وإلى شرفنا الوطني وإلى انتمائنا القومي وديننا وتقاليدنا، ويعتبر خائنًا لبلادنا.

8-قررنا قرارًا لا رجعة فيه وهو: كل من يتجنس بالجنسية الإسرائيلية، أو يخرج عن مضمون هذه الوثيقة، يكون منبوذًا ومطرودًا من ديننا ومن نسيجنا الاجتماعي ويحرَّم التعامل معه، أو مشاركته أفراحه وأتراحه أو التزاوج معه- إلى أن يقرّ بذنبه ويرجع عن خطئه، ويطلب السماح من مجتمعه، ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية.

لقد اعتمدنا هذه الوثيقة، مستمدين العزم من تراثنا الروحي والقومي والإنساني الأصيل الذي يحضنا على حفظ الإخوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوفاء العميق للوطن.

جماهير الجولان السوري المحتل

25-03-1981

لقد كان للوثيقة الوطنية وقعها المدوي على الاحتلال، فقد التزم أهالي الجولان بمضمون هذه الوثيقة، ورفضوا الجنسية الإسرائيلية، وطبق بند المقاطعة على كل من يقبل بها، فحوصر كل الذين تعاملوا مع إسرائيل، وأصبحت الحركة الوطنية سيدة الموقف في الجولان. أما الرد الإسرائيلي فتمثل باعتقالات إدارية لقيادات من الحركة الوطنية وزجهم في السجون الإسرائيلية، لكن بالمقابل استوعبت إسرائيل الدرس وفهمت أن استراتيجيتها بضم الجولان عن طريق السكان قد فشلت، ولذلك بدأت بالعمل على ضم الجولان رسميًّا لإسرائيل فكان لاحقًا قرار ضم الجولان في الكنيست الإسرائيلي في 1981-12- 14 الذي كان له وقع الصاعقة على سكان الجولان المحتل.

المرحلة الرابعة من نهاية 1981 حتى نهاية 1982:

هذه المرحلة شهدت مواجهات علنية بين السكان السوريين في الجولان المحتل وقوات الاحتلال، فقد أعلن السكان وبصوت واحد رفض قرار ضم الجولان إلى إسرائيل، ورفضوا قبول الجنسية الإسرائيلية والهوية الإسرائيلية المدنية التي تعد بعد الضم حكمًا قانونيًا يجب تنفيذه. وردًا على قرار الضم وفرض الجنسية الإسرائيلية أعلنوا الإضراب العام المفتوح في 14 شباط 1982. عندما تأكدت إسرائيل أن أهل الجولان لن يقبلوا طوعًا بتنفيذ القرار، أقدمت على محاصرة قرى الجولان عسكريًا، وفصلت بعضها عن بعض، ومنعت التواصل فيما بينها، وبدأت في الأول من نيسان 1982 دخول بيوت الجولان بيتًا بيتًا، تأخذ منهم عنوة الهوية العسكرية، وتقدم لهم الهوية المدنية، وذلك بعد أن فرضت حال منع التجول، وحوصر أهل الجولان في بيوتهم لفرض الأمر الواقع عليهم، فحصلت اشتباكات مع الجيش، وسقط جرحى من السكان نتيجة إطلاق النار عليهم، واعتقل عدد كبير من الشباب لرفضهم القبول بالهوية المدنية الإسرائيلية، وقد تم تحويل المدارس إلى مراكز اعتقال. وعلى الرغم من هذا الحصار، رفض أهل الجولان قبول الهويات الإسرائيلية المدنية، فأقدمت قوات الاحتلال على رمي هذه الهويات داخل البيوت، أو على شرفاتها. وبعد إلغاء حال منع التجول، جمع السكان هذه الهويات في ساحات القرى، معلنين رفضهم القبول بها، واستمرت المواجهات والإضراب العام حتى التاسع عشر من شهر تموز عام  1982. 

  لقد أقدمت إسرائيل في عام 1981 على ضرب المفاعل النووي العراقي -كما ذكر سابقًا- مما مهد الطريق أمام حزب الليكود للفوز مجددًا في الانتخابات، وبقائه في السلطة. وغزت إسرائيل لبنان في حزيران من عام 1982 لاجتثاث المقاومة الفلسطينية، مستفيدة من التفوق الاستراتيجي الذي نجم عن خروج مصر من معادلة الصراع، فتحول التركيز الإعلامي إلى الحرب، وأصبحت قضية الجولان وضمه على الهامش. عندئذ سعت إسرائيل إلى تهدئة الأوضاع في الجولان، مستغلة الظرف الجديد، وأعلنت قبولها بطلبات أهل الجولان التي وجهوها آنئذ إلى الحكومة الإسرائيلية، شرطًا لتعليق الإضراب المفتوح، حيث جاءت الاستجابة الإسرائيلية من خلال رسالة أرسلت إلى الشيخ الروحي لسكان الجولان الشيخ ((سلمان طاهر أبو صالح))، ممهورة بتوقيع وزير الدفاع آنذاك ((أريئل شارون)) وهي رسالة غير منشورة تضمنت ما يأتي:

1- إسرائيل لن تفرض الجنسية الإسرائيلية على أهل الجولان بالقوة، ولكن ستقدمها لمن يرغب بالحصول عليها طوعًا.

2- إسرائيل لن تقدم على مصادرة الأراضي والمياه التابعة لقرى الجولان الأربع.

3- إسرائيل لن تستدعي إلى الخدمة العسكرية أي مواطن من الجولان قبل الجنسية الإسرائيلية بحكم القانون الإسرائيلي الذي يفرض الخدمة الإجبارية على الدروز الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية في الجليل والكرمل.

على أساس هذه الرسالة، قبل أهل الجولان بتعليق إضرابهم الذي استمر أكثر من خمسة أشهر بقليل، وأعلنوا التزامهم بالوثيقة الوطنية، ورفضهم القبول بالجنسية الإسرائيلية، وشددوا الحرم الديني والاجتماعي على كل من يقبل بها. وبالمقابل قرروا استلام الهوية المدنية الإسرائيلية، لتسيير أمورهم الحياتية. وهكذا تحول السكان السوريون في الجولان المحتل وفقًا للقانون الإسرائيلي إلى ((مقيمين دائمين)) Permanent resident يدفعون الضرائب، ويتمتعون بالحقوق المنصوص عليها قانونيًا للمقيم الدائم، ولكنهم لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، حيث ينتج عن ذلك قانونيًا أنهم لا يتمتعون بحق الترشح أو التصويت لانتخابات الكنيست الإسرائيلي، ولا يحملون جواز السفر الإسرائيلي، وإنما يعطون بطاقة سفر مسجل فيها في حقل الجنسية ((الجنسية: غير معروف)) Undefined. إن وضع أهل الجولان القانوني بعد الضم أصبح مشابهًا تمامًا لوضع السكان العرب في القدس، فهم أيضًا بحكم القانون ((مقيمون دائمون)).

استمر الحرم الديني والاجتماعي على أقلية قليلة قبلت الجنسية الإسرائيلية، حيث حوصر هؤلاء، ومنع التعامل معهم اقتصاديًا واجتماعيًا، ونبذوا من المجتمع بصورة كلية، مما جعلهم يطلبون مرارًا وتكرارًا من إسرائيل إعفاءهم من الجنسية، ليتسنى لهم العودة إلى حضن مجتمعهم. ولكن القانون الإسرائيلي لا يسمح بإسقاط الجنسية عن أي مواطن، إلا إذا غادر إسرائيل لمدة زمنية محددة بالقانون، أو قام بعمل يمس أمن الدولة، عندها يخول وزير الداخلية نزع الجنسية عن حاملها. وطبعًا، هذان الشرطان لم يتوافرا عند أولئك الذين قبلوا بالجنسية الإسرائيلية. وهكذا استمرت هذه المشكلة بالتفاقم حتى اليوم، فعدد هؤلاء يزداد مع الزمن، لأن أولادهم يرثون الجنسية الإسرائيلية عن والديهم بحكم القانون. والأولاد ليس لهم أي ذنب بما فعل آباؤهم، وهكذا تحولت هذه القضية إلى مشكلة أخلاقية مازالت موضع خلاف حتى يومنا هذا.

المرحلة الخامسة 1983 حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي:

انتهى الإضراب، وسلمت إسرائيل بالأمر الواقع، أن أهالي الجولان لن يقبلوا الجنسية الإسرائيلية، فتحولت السياسة الإسرائيلية إلى سياسة ((العصا والجزرة)) إذ استمرت من جهة في قمع السكان ولا سيما عند إحيائهم ذكرى الإضراب في 14 شباط من كل سنة، وإحياء ذكرى الجلاء في 17 نيسان من كل عام. فقد دأبت إسرائيل على استقدام قوة عسكرية كبيرة من الشرطة في محاولة لمنع إحياء هذه المناسبات، وأقدمت على اعتقال الفاعلين والتضييق على السكان، وقد وصلت ذروة المواجهات عندما اضطر ((شمعون بيرس))، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، الخروج من مجدل شمس تحت حماية مشددة خوفًا على سلامته من المتظاهرين الذين هتفوا ضد وجوده في بلدتهم في إثر زيارة قام بها إلى المجلس المحلي المعين هناك بتاريخ 25 شباط 1986. 

   بالمقابل سمحت إسرائيل بفتح الباب مجددًا أمام الطلاب الراغبين باستكمال دراستهم في جامعة دمشق، بعد أن أغلقت هذا الباب عند ضم الجولان. لقد سمح لأول دفعة طلاب بالدراسة في جامعة دمشق عام 1977، ولكن هذا السماح كان مقتصرًا على أعداد قليلة سنويًا. وفي منتصف الثمانينيات فتح الباب على مصراعيه، لأن إسرائيل وصلت إلى قناعة بأنه لا فائدة من إغلاق الباب على السكان، لأن هذا لن يغير شيئًا من موقفهم من الاحتلال، واعتبرت أنه من الممكن أن تستفيد على المدى البعيد، حيث من مصلحتها أن يتعرف هؤلاء الشباب على الواقع المأساوي في بلادهم، مما يؤدي إلى إحباطهم مع الزمن. وبالفعل أتيحت الفرصة أمام مئات الطلاب لاستكمال دراستهم في جامعة دمشق، كذلك سمحت لعشرات الطلاب باستكمال دراستهم الجامعية في الاتحاد السوفياتي سابقا، من خلال منح قدمت لأبناء الجولان عن طريق الحكومة السورية. وبعد سنوات بدأ الخريجون بالعودة إلى الجولان لينضموا إلى سوق العمل، وأسهم القسم الفاعل منهم في العمل المؤسساتي الذي لم يكن سائدًا في الجولان.

  مع الزمن، تراكم عدد الخرجين، وبدأت تتشكل مؤسسات مثل رابطة الطلاب الجامعيين التي كانت تشرف على إقامة نشاطات ثقافية مختلفة، منها مخيمات سنوية للأطفال، لتشكل بديلا وطنيًا من مخيمات المجلس المحلي المعين من سلطة الاحتلال، إضافة إلى نواد رياضية اجتماعية أخذت على عاتقها إقامة دورٍ رياضي سنوي لقرى الجولان، لتدارك دخول الشباب في النوادي الإسرائيلية، واللعب في الدوري الإسرائيلي أيضًا. ولكن مع الزمن أخذت تتآكل هذه المؤسسات من داخلها لأسباب كثيرة، منها نقص التمويل والصراعات الاجتماعية السياسية داخل المجتمع بين مؤيد للنشاط ومعارض له، وتدريجيًا أسهم أيضًا العامل الأيديولوجي في إضعاف هذه المؤسسات، وبدأت الخلافات تتسرب إلى داخلها وتنعكس في الصف الوطني من المؤيدين للنظام السياسي في سورية والمعارضين له. وطالبت المرأة التي خرجت مع الرجل في زمن المواجهات بدور اجتماعي سياسي جديد، فرفضت العودة إلى البيوت وشكلت مؤسسات لتمثل النساء، بمثل الاتحاد النسائي في الجولان. بدأت تتسع شقة الخلافات في الصف الوطني تدريجيًا، ولا سيما عند تأسيس الجمعية العربية للتطوير التي أسست وفقًا لترخيص الجمعيات الإسرائيلية، فعارضتها مجموعات مختلفة بحجة خطر ((الأسرلة)). ولكن بقي أهل الجولان موحدين في وجه الاحتلال، وقد أسهم في وحدتهم سياسة ((العصا)) التي اتبعتها إسرائيل في المناسبات الوطنية كما ذكر سابقًا.

ومن الجدير ذكره هنا، أنه بعد الإضراب وتحديدًا في عام 1985، كشفت إسرائيل شبكات جديدة منظمة تعمل بشكل سري ضد الاحتلال، وقد تم اعتقال عشرات الشباب وحكم عليهم بأحكام تأديبية عالية، تراوحت ما بين 10 و27 عامًا. والفارق بين معتقلي السبعينات ومعتقلي الثمانينات يتمثل بثلاثة عوامل، أولًا تشكلت الموجة الأولى في ظل هزيمة 1967 وبظل الإحباط الذي ساد بعد الحرب، فكانوا بعملهم طليعيين وشكلوا نواة الحركة الوطنية الوليدة في الجولان، بينما الموجة الثانية كانت نتيجة للمد الوطني وحال المقاومة العامة في الجولان. 

ثانيًا كان متوسط أعمار الشريحة المعتقلة في الموجة الأولى أكبر من متوسط أعمار معتقلي الموجة الثانية، فغالبية المعتقلين في الثمانينات كانوا شبابًا في مقتبل العمر. وثالثًا ارتبط المعتقلون معظمهم في السبعينيات بالأمن السوري، أما موجة الثمانينيات فكانت أكثر استقلالية بعملها.

تميزت هذه المرحلة أيضًا ببدء تدخل أجهزة الأمن السورية مباشرة بما يجري في الجولان. فقد حاولت، وبوسائل مختلفة، التدخل في مجريات الأحداث، وكانت تصيب مرة وتخطئ مرات عدة، وأسهمت الزيارة السنوية التي يقوم بها رجال دين من الجولان إلى الوطن بزيادة تأثير هذه الأجهزة، مما زاد في اتساع شقة الخلاف في الجولان. كان يجري ذلك كله على مرأى ومسمع من الاحتلال، الذي ترك بدوره الأمور تسير على طبيعتها، مستفيدًا من التناقضات بين السكان، واستوعبت إسرائيل أن سياسة العصا تأتي عليها بنتائج عكسية، ولذلك قررت تغيير استراتجيتها، فتنازلت عن سياسة العصا، وتوقفت عن استجلاب قوات من الشرطة لقمع السكان عند إحيائهم للمناسبات الوطنية، وأبقت على قوات رمزية خارج القرى للحالات الطارئة.

بدأ الترهل يصيب جسد الحركة الوطنية، حيث أصبحت المواقف بلا ثمن، مما شجع كثيرين على الانخراط بالعمل الوطني. فأفرغت الحركة الوطنية تدريجيًا من مضمونها، ولم يبق من المواقف إلا الجانب الرمزي لها، وهو الإضراب الذي كان يلتزم به الجميع في هذه المناسبات. فما إن وصلنا بداية التسعينيات من القرن الماضي حتى أضحت المواقف الوطنية أشبه بالكرنفال الاحتفالي، وقد أسهمت أجهزة الأمن السورية في وصول الحركة الوطنية إلى هذا الوضع، حيث حولت المناسبات الوطنية إلى مناسبات للتحية، وإعلان الولاء للنظام السياسي في سورية.

المرحلة السادسة: منذ بداية التسعينيات حتى بداية الثورة السورية في آذار 2011

تميزت هذه المرحلة بتزايد ضعف الحركة الوطنية وانقساماتها، فغابت المركزية عن المجتمع الجولاني، بسبب رحيل عدد من القيادات الوطنية التقليدية، كذلك بدأت تتفكك البنية العائلية للمجتمع نتيجة للحداثة، وظهر تدريجيًا تأثير قيم الحضارة الغربية في الجيل الصاعد على مستوى الذكور والإناث. فبدأت إسرائيل باتباع سياسة جديدة، يمكن أن نسميها استراتيجية النخر، أي النخر في النسيج الاجتماعي، إذ ركزت على المدارس والجيل الصاعد المتأثر بالحداثة وقيم الثقافة الغربية العامة، وقضايا الحرية والديمقراطية التي يلمسها داخل المجتمع الإسرائيلي، فكانت عملية المقارنة دائمًا بقصد أو بغير قصد مع الواقع العربي الذي يعيش حالًا من التخلف والتعصب لمصلحة إسرائيل. فأدخل الاحتلال برامج جديدة إلى المدارس، هدفها التشجيع على ((الأسرلة)). بالمقابل حاول السكان لأول مرة منذ الاحتلال التدخل بالشؤون التعليمية والتربوية، بما يتيحه القانون الإسرائيلي، عن طريق تشكيل لجان ((أولياء أمور)) عنيت بمتابعة شؤون التعليم في المدارس. 

   سمحت إسرائيل أيضًا بتسويق منتجات التفاح إلى الأسواق السورية، وكان لهذه الخطوة تأثيران متناقضان، من جهة أولى يقوي تسويق التفاح إلى الأسواق السورية الرابط بين الجولان والوطن، ومن جهة أخرى هو ورقة بيد إسرائيل للمساومة وقت تشاء، ويجب ألا نغفل في هذا السياق المصلحة الإسرائيلية من هذه الخطوة، فمستوطنات الجولان لها مصلحة في إخراج تفاح سكان قرى الجولان من الأسواق الإسرائيلية، ليتسنى لها التحكم فيها، ولكن تبقى هذه الخطوة لمصلحة السكان السوريين، لأنها تحافظ على حد أدنى ومقبول من الأسعار، مما يشجع السكان على تطوير الزراعة والتمسك بالأرض. 

لا شك في أن تشابك العلاقات بين السكان السوريين في الجولان ووطنهم له تأثيرات إيجابية وسلبية في آن معًا على المجتمع السوري في الجولان، فالعلاقة القوية والمؤثرة تفرمل عملية ((الأسرلة))، خصوصًا تلك العلاقة ذات الترجمة الاقتصادية المؤثرة على المستوى المعيش للسكان تحت الاحتلال، بمثل تسويق التفاح في الأسواق السورية، وتعويض المتضررين الذين فصلوا من وظائفهم بسبب مواقفهم الوطنية، واستكمال دراسة أبناء الجولان في الجامعات السورية. وأراد أهل الجولان دائمًا استكمال هذه العلاقة بالسماح لهم زيارة وطنهم، والتواصل معه وقت أرادوا، وكان من المؤلم لهم عدم قدرتهم على القيام بذلك، ولا سيما في أوقات الأفراح والأتراح، ومما زاد في الألم موقفُ أجهزة الأمن السورية التي كانت تصر دائمًا على الإبقاء على معبر القنيطرة المعبر الوحيد المسموح به لمرور أهل الجولان المحتل، الأمر الذي ترك المجال أمام إسرائيل للتحكم بشروط العبور كلها. وقد تفاءل السوريون في الجولان عندما أصدرت الرئاسة السورية عام 2007 توجيهًا بإصدار رقم وطني لكل مواطن سوري من الجولان المحتل يطلب ذلك، ظنًا منهم أن ذلك يمكن أن يشكل حلًا بديلًا من زيارة وطنهم عبر أي طريق كانت، لأنهم يحملون أوراقًا ثبوتية سورية أسوة بأي مواطن سوري آخر، ولكن النتيجة كانت مخيبة للآمال فلم يتغير شيء على أرض الواقع.

   من جهة أخرى، فإن زيادة تشابك المصالح بين أهل الجولان السوري المحتل ووطنهم زاد من تأثير أجهزة الأمن السورية عليهم، وتحولت هذه الأجهزة مع الزمن إلى قوة فاعلة ومؤثرة في حياة السوريين المحتلين. ومع الزمن تشكلت مجموعة مستفيدة من هذه العلاقة تضرب بسيف هذه الأجهزة، مما زاد من تعقيد المشهد أكثر، فزادت حدة التناقضات الاجتماعية والسياسية. ووصل الاستقطاب داخل الحركة الوطنية إلى مرحلة لم تفلح معها أي محاولة اجتماعية لرأب الصدع بين أطرافها، ولكن حافظ الأطراف جميعهم على الحد الأدنى من العمل المشترك.

  لعبت محادثات السلام بين سورية وإسرائيل دورًا إيجابيًا في الحفاظ على العمل المشترك داخل الحركة الوطنية، فهذه العملية خلقت نوعًا من الأمل بأن موعد الخلاص من الاحتلال قد اقترب، ويجب الحفاظ على أدوات العمل المشترك بأي ثمن، حتى لا تستفيد إسرائيل من هذه الانقسامات. ولقد ساعد في ذلك استمرار المفاوضات بين إسرائيل وسورية في مراحل مختلفة من بداية التسعينيات وحتى منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بدءًا بمؤتمر مدريد في زمن رئاسة إسحق شمير للوزراء مطلع التسعينيات، مرورًا بمراحل رابين وبيرس ونتنياهو وإيهود براك وإيهود أولمرت، وانتهاءَ بالوساطة التركية بين سورية وإسرائيل التي استمرت أكثر من 15 عامًا بصورة متقطعة، وكان لها فعل الدواء المهدئ. 

لا شك إذًا في أن هذه المحادثات أثرت في سكان الجولان المحتل، وشكلت بارقة أمل لعودة الجولان الى سورية، وأسهمت باستمرار تماسك العمل الوطني فيه على الرغم من هشاشته وضعفه.

المرحلة السابعة منذ اندلاع الثورة في سورية آذار 2011 حتى اليوم:

دقت الثورة السورية في آذار من عام 2011 بمجيئها المسمار الأخير في نعش العمل المشترك. فقد تميزت هذه المرحلة بتفتت الحركة الوطنية، وشلل عملها المشترك في الجولان السوري المحتل كليًا، فقد انقسمت الحركة الوطنية بين مؤيد للنظام ومعارض له، ووصلت التناقضات إلى مرحلة المواجهة وتخوين كل من أيد الثورة، ووقف ضد الحل الأمني الذي مارسه النظام. ففقدت الحركة الوطنية فعاليتها، وشلت بصورة نهائية، وأثر هذا التناقض لا في العمل الوطني فقط، إنما في الحياة الاجتماعية أيضًا، فقد وصلت الأمور الى مرحلة المقاطعة في المناسبات الوطنية والاجتماعية. 

   استغلت سلطة الاحتلال هذه الفرصة، وبدأت بتسريع سياسة ((الأسرلة))، فقطعت كل علاقة بين السكان وبين وطنهم الأم سورية، وقلصت بصورة كبيرة عملية إرسال الطلاب إلى الدراسة في جامعة دمشق، وأوقفت أيضًا نقل التفاح ليباع في الأسواق السورية. بالمقابل بدأت بإغداق الأموال على المجالس المحلية المعينة من قبلها من أجل إقامة مشاريع مهمة في المنطقة، من بناء مدارس على الطراز الحديث، وتحديث الطرقات، وتحويل المنطقة إلى منطقة سياحية. هذا علاوة على البرامج التي أدخلت في المدارس لتسريع وتيرة ((الأسرلة))، وفي خطوة تظاهرية رفعت الأعلام الإسرائيلية على المدارس، وزادت الشرطة من حضورها داخل القرى، وشجعت انضمام الفرق الرياضية الى ((الليغا)) الإسرائيلي. هذه السياسة الجديدة تهدف بلا أدنى شك إلى جعل هذا الجيل الصاعد المتأثر بالحداثة، يقارن بين ((رفاهيته)) في الاحتلال وما يجري من قتل وتدمير في وطنه، ليصل إلى نتيجة مفادها أن من مصلحة السكان في الجولان أن يبقوا تحت الاحتلال الإسرائيلي.

   إن استراتيجية إسرائيل الجديدة تعيدنا إلى سنوات السبعينيات، وتهدف إلى ابتلاع الجولان بصورة كلية، وتحويله إلى لواء إسكندرون ثان. لم تخفِ إسرائيل رغبتها في ذلك، عندما طلبت حكومة نتنياهو من دول العالم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية في الجولان، وقامت بخطوة رمزية بعقد اجتماع للوزارة الإسرائيلية في الجولان بتاريخ 17.4.2016 متزامنًا مع احتفال سورية بعيد الجلاء. فاستراتيجية إسرائيل الجديدة تسعى لا إلى السيطرة على الجولان فقط، وإنما أيضًا إلى احتلال كل قرى سفح جبل الشيخ بحال تقسيم سورية، وهي قرى تنتمي بغالبيتها إلى الطائفة الدرزية، مما يعيدنا من جديد إلى سنوات ما بعد الاحتلال، ومشروع التقسيم الطائفي. ولكي تسهل هذه المهمة عليها في حال حصل التقسيم في سورية، تقوم إسرائيل بتغذية النبرة الطائفية والتحريض، حيث تدعم جبهة النصرة الموجودة في القسم غير المحتل من الجولان من جهة، ومن جهة أخرى توهم سكان الجولان بأنها هي من تحمي الدروز (في قرية حضر وباقي القرى الواقعة على سفح جبل الشيخ) من جبهة النصرة. وكذلك قامت بتجييش دروز الجليل والكرمل من أجل نصرة إخوانهم الذين يتعرضون لمحاولة إبادة من قبل جبهة النصرة، كما تدعي إسرائيل. ولقد أسهمت جبهة النصرة بدورها في تسويق السياسة الإسرائيلية، بقصد أو بغير قصد، حين أقدمت على قتل عشرات من الدروز في قرية ((قلب لوزة)) في محافظة إدلب من دون محاسبة الجناة، مما زاد من خوف الدروز منها.

    إن مهاجمة بعض الشباب في مجدل شمس سيارة الإسعاف التي أقلت مقاتلين جرحى من جبهة النصرة -كما أشيع عند وقوع الحادثة- كانت تدبيرًا إسرائيليًا بامتياز، يصب في سياسة التجييش الطائفي.  فعادة تنقل إسرائيل الجرحى من القنيطرة مباشرة إلى المستشفيات الإسرائيلية من دون الدخول إلى قرى الجولان، ولكن هذه المرة، أدخلت إسرائيل سيارة الإسعاف داخل مجدل شمس بشكل تظاهري، ونشرت دعاية مفادها أن داخل السيارة جرحى من جبهة النصرة الذين يقتلون الدروز، فوقع عشرات من الشباب ضحية هذه الدعاية، وأقدموا على مهاجمة سيارة الإسعاف المحمية من الجيش الإسرائيلي، حيث استجرت سيارة الإسعاف هؤلاء الشباب إلى منطقة يوجد فيها كاميرات لتصوير الحادثة، وعرضها على التلفزيون الإسرائيلي، لتتناقلها وسائل الإعلام العربية، وبخطوة مفاجئة انسحب الجيش الإسرائيلي الذي كان يحمي سيارة الإسعاف، تاركًا الجرحى لمصيرهم، مع أنه كان قادرًا حتميًا لو أراد أو تلقى أمرًا بذلك على صد هؤلاء الشباب ومنعهم من الاقتراب من السيارة. 

هذه السياسة تهدف من دون شك إلى زرع الفتنة وزيادة الكراهية الطائفية، حتى يتسنى لإسرائيل لاحقًا احتلال جبل الشيخ بحجة حماية الدروز من جبهة النصرة، ووقف نزيف الدم في هذه المنطقة. طبعًا، إن ما ذكر لا يعفي من قام بهذا العمل ومن حرضهم من المسؤولية الأخلاقية، فهو عمل همجي بربري يتنافى تمامًا مع قيم السكان السوريين في الجولان المحتل، وقد استنكره الجولانيون بغالبيتهم العظمى، ولكن يبدو أن السياسة الإسرائيلية بدأت تؤتي أكلها في تخريب الجيل الصاعد، ويجب أن يدق هذا ناقوس الخطر عند من يتحملون مسؤولية وطنية في هذا المجتمع.

   إن إسرائيل تمتلك كثيرًا من المخططات وفقًا للسناريوهات المرسومة لسورية، وتتحين الفرصة لتحقيقها. ولكن تبقى هناك حقيقة واحدة واضحة وضوح الشمس، وليست بحاجة إلى تحليل وتمحيص، هي أن إسرائيل تريد أن تبقي على الجولان تحت سيادتها في أي سيناريو قادم في سورية، وتعمل ما بوسعها على تحقيق ذلك، فإذا لم تتصد سورية المستقبل لهذه السياسة، وتأخذ القوى الفاعلة على الأرض بأطيافها كلها دورها في تخفيف التوتر الطائفي، فمن الممكن أن تتحول أهداف إسرائيل إلى أمر واقع، عندها سيصبح الجولان لواء إسكندرون ثانٍ بمباركة دولية. من هنا يجب على كل القوى الشريفة والوطنية السورية أن تتعامل مع هذا التهديد بجدية على الرغم من الصعاب وشلالات الدم في الوطن، وبالمقابل يقع على عاتق أهل الجولان المحتل، والحركة الوطنية تحديدًا، مسؤولية بلسمة جراحها وإعادة لملمة نفسها للحفاظ على وجه الجولان السوري مهما غلت التضحيات.

خاتمة واستنتاجات: 

بعد هذا الاستعراض نسجل خلاصات العامة:

-ولدت الحركة الوطنية في الجولان من رحم المعاناة والهزيمة في حزيران 1967، وترعرعت في ظروف محلية وإقليمية صعبة. ولكنها استطاعت أن تشق طريقها مستفيدة من الأحداث التي تدور حولها على المستويين المحلي والإقليمي، ووصلت هذه الحركة إلى أوج قوتها في منتصف الثمانينيات، ولكنها بدأت بالتراجع تدريجيًا نتيجة دخول العاملين الأيديولوجي والشخصي فيها، والتدخلات غير الموفقة التي بدأت في منتصف الثمانينات من قبل أجهزة الأمن السورية من جهة، ونتيجة الاستراتيجيات الإسرائيلية التي سعت إلى تفتيت الحركة الوطنية في الجولان وتقويضها من جهة ثانية.

-رأينا من خلال هذا الدراسة أن إسرائيل اتبعت استراتيجيات مختلفة في مواجهة السكان السوريين في الجولان المحتل وحركتهم الوطنية، بدءًا باستراتيجية التقسيم، واستراتيجية القهر والفرض، مرورًا باستراتيجية العصا والجزرة، ومن ثم استراتيجية النخر في النسيج الاجتماعي الجولاني، وصولًا إلى استراتيجية الأسرلة الكلية، لتعود من جديد إلى استراتيجيتها الأولى في التقسيم، مستفيدة من الواقع العربي المتردي عامة، والسوري خاصة.

-تجدر الإشارة هنا إلى أن النظام السياسي في سورية تفاجأ بأحداث الجولان، وكان متلقيًا حتى عام 1983، ولم يكن الجولان حاضرًا في الإعلام السوري حتى عام 1982، عندما ألقى الرئيس حافظ الأسد خطابه في 8 آذار من ذلك العام على خلفية أحداث الإخوان المسلمين في سورية، ومنذ ذلك الحين بدأ يزداد التدخل في شؤون السكان المحتلين، فكان يصيب مرة ويخيب مرات عدة، مما أسهم في خلق البلبلة على الساحة الوطنية في الجولان، من خلال محاولة تجيير كل ما يجري من أحداث فيه لمصلحة النظام وتوجيهاته. 

-لقد كانت وطنية أهل الجولان حتى منتصف الثمانينيات ناصعة، ونقية، وصادقة، وبسيطة ونابعة من داخلهم، متمثلة بارتباطهم بالوطن السوري بكليته، فلم يطلعوا في حينه على الواقع السياسي السوري. ولكن بعد بدء عودة الطلاب الدارسين في جامعة دمشق، وبعد زيارات رجال الدين إلى الوطن، بدأت تتكشف الصورة الحقيقية للواقع السياسي السوري، وبدأت تتشوه الهوية الوطنية البسيطة النقية لأهل الجولان، ومع الزمن دخل الخلط ما بين مفهوم الوطن والنظام، فهناك من رأى أن الولاء للوطن يأتي من خلال الولاء للنظام، وهناك من رفض ذلك، وهكذا بدأت الانقسامات تأخذ طريقها إلى الحركة الوطنية، وتجذرت أكثر عندما بدأت المجموعة الأولى الموالية للنظام تستقوي به للي ذراع المجموعة الأخرى.

بعد هذه الخلاصات العامة يمكن الوصول الى الاستنتاجات الآتية: 

1-لقد كان سكان الجولان، ممن بقوا في أرضهم أو الذين فرضت عليهم المغادرة، ضحية دولة غاصبة توسعية، تمتلك رؤية مستقبلية لما تريده من جهة، وضحية نظام فاشل لم يمتلك رؤية ولا مقومات للصمود والدفاع عن الوطن من جهة أخرى.

2-لم يكن إخلاء الجولان من سكانه أمرا قدريًّا ومحتومًا لا يمكن تجاوزه، بل كان بالإمكان التعامل مع هذا التهديد بصورة مغايرة لو توافر الوعي والإرادة والإصرار على البقاء أسوة بأهل القدس والضفة الغربية الذين تعلموا من تجربة الترحيل عام 1948. وأرى أنه إذا أعاد التاريخ نفسه ستكون النتائج مختلفة، خصوصًا بعد تجربة اللجوء التي تعرض لها سكان الجولان السوري المفروضة عليهم المغادرة.

3-لقد كان لأهل الجولان المحتل الدور الأساس في إفشال مخطط التقسيم الطائفي في سورية ولبنان، وأسهموا في إنجازات الجيشين السوري والمصري في حرب تشرين 1973، من خلال نقلهم لمخططات مرصد جبل الشيخ وخط بارليف إلى الجانب العربي قبل الحرب.

4-استطاع سكان الجولان عبر مسيرة طويلة، تشكيل حركة وطنية من دون مساعدة النظام السياسي في سورية. هذه الحركة واجهت إسرائيل وسياستها، وكسبت فيها المواجهة الأولى، من خلال إفشال مشروع ضم الجولان عن طريق السكان، ورفض قبول الجنسية الإسرائيلية، والتمسك بانتمائهم لوطنهم الأم سورية.

5-لقد خاض السكان إضرابًا عامًا ومفتوحًا في 14 شباط 1982، استمر أكثر من خمسة أشهر بقليل، رفضًا لقرار الضم الذي أعلنته إسرائيل، وواجهوا خلاله القوات الإسرائيلية بإرادة صلبة لا تلين، وحققوا إنجازًا مهما من دون أي دعم يذكر من أي جهة كانت، إلا من الحركة الوطنية الفلسطينية، داخل الخط الأخضر، ومن الضفة الغربية وقطاع غزة.

6-لقد بدأت بوادر الانقسام والترهل تظهر في الحركة الوطنية في الجولان نتيجة دخول أيديولوجيات مختلفة إليها، مما أسهم في اتساع شقة الخلافات، وفقدت أطرافها القدرة على الالتقاء على حد أدنى مشترك، وأسهم أيضًا في ذلك، تعاطي النظام الخاطئ مع أحداث الجولان، حيث لم يمتلك هذا النظام أي مشروع وطني، وكان سلوكه عبارة عن ردة فعل عما يجري من أحداث في الجولان.

7-لقد كان لاندلاع الثورة في سورية تأثير كبير في الحركة الوطنية في الجولان، فقد تفتت وشلت، واستغلت إسرائيل هذا الوضع في تسريع عملية الأسرلة.

8-إن إسرائيل تحاول اليوم بجدية الإبقاء عل الجولان تحت سيادتها، مستغلة الأحداث الجارية في سورية. وهي لا تكتفي بهذا، بل وضعت الخطط للاستيلاء على مناطق جديدة من سورية في حال تقسيمها، بمثل قرى سفح جبل الشيخ التي تنتمي بغالبيتها إلى الطائفة الدرزية، لتعيد إحياء المخطط القديم بإنشاء دويلات طائفية على أنقاض سورية ولبنان، ولا سيما أن الأجواء مواتية لمشاريع كهذه محليًا ودوليًا. فمخطط إقامة دولة كردية في الشمال السوري، ومخطط سورية المفيدة، والحديث الدولي عن التقسيم، تصب كلها في مصلحة إحياء إسرائيل لمخططاتها التقسيمية، وتبقى الضمانة الوحيدة لإفشال هذه المخططات هي وعي الشعب السوري لما يحاك له من مؤامرات، ورفضها، وإيجاد صيغة للانتقال السياسي، تمنح سورية الفرصة للتعافي، والعودة إلى ساحة الأحداث قوية موحدة بأطيافها كافة.

المصدر.

المقالة السابقة
حرب فلسطين… من يسرد القصة بالطريقة الأفضل يربح! 
المقالة التالية
الكوليرا في ديرالزور: وباء قابل للعودة مستقبلاً

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X