إنشاء سجل Sign In

رسالة إلى ميسّي من لاعبة سوريّة معتزلة: نحن متشابهان

وُلدتُ في قرية على تخوم البادية السورية على ما أظنّ، أو ربّما في قرية جبلية، أو في شارع جانبي مُعتم في مدينة ضائعة.. المؤكد كما تقول أمي دائماً إنني في أوائل مراهقتي كنتُ «حسن صبي»، ولم أكن أكفّ عن الركض وراء الكرة، فلنتفق على أن تسمية «كرة» هنا مجازية، فما كنتُ ألاحقه كان شكلاً مكوّراً يُشكله أبناء مناطقنا من بقايا الثياب والكاوتشوك والورق، وأحياناً كثيرة من بقايا اﻷحلام.

لحسن حظي لم يكن لدي أخ أكبر، أو أصغر يمارس سلطته عليّ، فيمنعني من اللعب مع الصبية. أبي كان دائم الترحال وراء رزق عائلته، فلم يعرف شيئاً عن شؤون ابنته مع عالم مارادونا، وسقراط، ووليد أبو السل، والكردغلي وغيرهم. أما أمي فلم تكن لتمانع لعبي بتلك الأشياء طالما أنني أحصل دائماً على علامة تامّة في المذاكرات المدرسية. 

غالبية أولاد تلك المناطق لم يكونوا يمانعون لعبي معهم، وأحياناً في مناطق أخرى كانوا يمانعون ويحتجون بأنّ كرة القدم للرجال وليست للنساء، وأنّ مكان البنات في البيت.

في بعض المرات كان همّ العديد من لاعبي الفرق المنافسة أن يصطدموا بي ويوقعوني أرضاً، لكن «الشهامة» من لاعبي فريقي أدّت إلى توفير تلك المشاهد، وهكذا جعلوني حارسة مرمى لم يكن سوى حجرتين تبعد إحداهما عن الأخرى بضع «فشخات».

لم تتح لنا رفاهية شراء طابة حقيقية ذات جلد وملمس ناعم، وشكل كروي حقيقي.. في الواقع حدث ذلك مرة واحدة في أواخر الثمانينيات، جمعنا ثمنها بشق اﻷنفس بعد مداولات و«فلقات» من أُسرنا، وبعد أن حرمنا أنفسنا من البوظة وحبات السكاكر أسبوعين كاملين. 

اشتراها لنا أبو عبدو من المدينة، بعد أن تعهد أمام الله وزوجته بألا يزيد على سعرها فرنكاً واحداً، وفي المقابل تعهدنا له أن نكفّ عن سرقة السكاكر من دكانه، وهكذا رأينا ولمسنا أول كرة حقيقية في حياتنا، كرة قدم منفوخة، تزين جلدها مربعات حمراء وبيضاء، ابنة عز وملاعب كرة قدم حقيقية!

حملنا الكرة مع شبكتها المقطعة في موكب مهيب، وباعتباري اﻷنثى الوحيدة في الفريق فقد أعطوني شرف حملها، بشرط أن نتداول جميعاً حفظها في بيوتنا «بالدور»، من أكبرنا إلى أصغرنا، فتنام في كل بيت ليلة. هكذا وبكل ديمقراطية عاشت تلك الكرة معنا سعيدةً.

بعض اللاعبين كانوا يمانعون مشاركتي لأن «كرة القدم للرجال، ومكان البنات في البيت»، فيما كان همّ العديد من لاعبي الفرق المنافسة أن يصطدموا بي

يومياً، ما إن نرجع من المدرسة ظهراً ونقضي بضع ساعات في اﻷكل ومشاهدة «ريمي» في الرحلة المأسوية بحثاً عن أمه، حتى نطير إلى أرض أبو إبراهيم العوّاد، فالمدرسة لا تحتوي ساحة «متل الخلق والعالم».

أرض أبو إبراهيم العوّاد كانت خالية من الشجر، ومليئة بالحصى والحجارة، لكنها واسعة وتصلح أن تكون «استاداً»، ويمكن للجمهور أن يصطف حولنا بدون مضايقة أحد. في تلك اﻷرض أقمنا أوّل دوري في الضيعة، وتشاركنا جميعاً بشراء كأس من الألمنيوم وآخر أصغر حجماً.

شاركت في ذلك الدوري خمسة فرق تشبهنا، ولكن واحداً منها تمكّن لاعبوه من ارتداء لباس موحد، كان عبارة عن كنزات عليها شارة منتخب ألمانيا، وشورتات عليها شارة منتخب البرازيل، وفوق ذلك كان كابتن هذا الفريق يفهم في قوانين كرة القدم.

كانت الطابة لنا، ولباس فريقنا بيجامات النوم، ولم يكن من الصعب تمييز أعضاء فريقنا، ومع احتجاج بعض لاعبي الفرق الأخرى على مشاركتي، هدّدهم لاعبو فريقي بترك اللعب وأخذ الطابة إذا أثار أي لاعب فكرة استبعادي من حراسة المرمى. جملة «ما لكن علاقة» الحاسمة، كانت أول جملة (وربما الأخيرة) أنقذتني من محاولة تمييز جندري. وقبل سنوات طويلة من ظهور البرازيلية مارتا (فييرا دا سيلفا) التي عرفتُها لاحقاً من حفلات توزيع جوائز «الفيفا»، أخذتُ مكاني في حراسة المرمى، وبقي مرماي نظيفاً في المباريات الثماني التي لعبناها قبل أن نتوّج بالكأس في نهاية البطولة.

مضت تلك اﻷيام وانتقلنا إلى مكان آخر لا أذكره بالضبط، لكن رفاقي الذين شاركوني اللعب أصروا يوم انتقلنا على إعطائي كأس ذلك الدوري تذكاراً، وهو إلى اليوم يرحل معي أينما رحلت، وما أكثر الليالي التي احتضنته فيها ونمت حالمةً بأنني وصلت إلى نهائي كأس العالم للنساء مع فريقي ذاك، الفريق المكوّن من سبعة عاشقين لكرة القدم، ولي في الوقت نفسه.

للمزيد :

https://www.sot-sy.com/article/1042?fbclid=IwAR1O1P-KZO72wiD3mvz6Y2xHgkZ9_swEpSQB5M0-41_MI3CwcooPIfR5ouc

المقالة السابقة
 تدريب معهد العلوم والتكنولوجيا في النمسا 2023
المقالة التالية
إعاقة وخيمة في لجوء لبنان

أضف تعليق

Your email is safe with us.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X