حصاد السلام الإبراهيمي في حرب غزة
بقلم: صادق عبد الرحمن
جهة النشر: الجمهورية.نت AlJumhuriya.net
خلال زيارته القصيرة جداً إلى الإمارات العربية المتحدة في 14 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، خصّصَ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وقتاً لزيارة البيت الإبراهيمي في أبو ظبي، وقال عنه في تغريدة إنه «شهادة حقيقية على التزام دولة الإمارات بالتعايش السلمي بين الديانات الإبراهيمية، وهذا هو ما ينبغي أن يبدو عليه مستقبل المنطقة». جاءت تلك الزيارة في سياق جولة بلينكن في المنطقة العربية بعد عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان إسرائيلي مفتوح على غزة، وكان هدف الزيارة الواضح هو حشد كل دعم ممكن لعملية عسكرية إسرائيلية تهدف لإنهاء حركة حماس.
نستطيع أن نستنتج من تخصيص وقت للبيت الإبراهيمي، في زيارة من ساعات قليلة تهدف للتعامل مع حدث تنزف فيه دماء الآلاف على جانبي الصراع، أن بلينكن ومُستضيفيه في الإمارات يرون أن الحروب الإسرائيلية العربية المستمرة منذ عقود ناتجة عن سوء تفاهم ديني، وأنها يمكن أن تتوقف بنشر التسامح الديني في المنطقة والعالم. في هذا التوصيف بعض الاختزال الساخر لكنه ليس نسخة كاريكاتورية تماماً عن رؤيتهم تلك، فاتفاقات السلام العربية الإسرائيلية التي افتتحتها دولة الإمارات في آب (أغسطس) 2020 حملت اسم إبراهيم، النبي الذي تتفق عليه الديانات السماوية الثلاث، وسارت على «النهج الإبراهيمي» بعدها دول البحرين ثم السودان ثم المغرب، في اتفاقات مع إسرائيل تم إبرامها في العام نفسه.
إذن، بالإضافة إلى الإيحاء اللغوي بأن الصراع يمكن اختزاله إلى بُعده الديني، كان عرّابو الاتفاقات الإبراهيمية في واشنطن وتل أبيب وأبو ظبي يتحدثون عنها بوصفها بوابة سلام في المنطقة كلّها، لكن ما الذي حلّ بتلك البوابة اليوم؟
وعود السلام الإبراهيمي
عربياً، حاولت الإمارات تقديم الاتفاق على أنه ليس فقط فرصة للتعاون الاقتصادي والاستقرار في المنطقة، بل أيضاً أن فيه توسيعاً لقدرة العرب على الضغط على إسرائيل لصيانة حقوق الفلسطينيين. قالت النسخة العربية من بيان إماراتي إسرائيلي أميركي مشترك إن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي أدّى إلى «وقف» خطط إسرائيل لضمّ مساحات من الضفة الغربية، وقال أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية إن «خطة الضم الإسرائيلية كانت ستقضي تماماً على حلّ الدولتين». سيتبيّنُ أن النسخة الإنكليزية من البيان الثلاثي استخدمت كلمة «تعليق» بدلاً من «وقف»، وسيُعلن نتنياهو لاحقاً أن خطط الضم تم تأجيلها فقط، دون أن يستدعي ذلك أي تغيير في خطة السلام من جهة الإمارات.
بعد أقل من شهر جاء الاتفاق البحريني الإسرائيلي، الذي تضمّنَ بيانُه المشترك كلاماً عن سعي البحرين لـ«سلام عادل وشامل، كخيار استراتيجي، وفقاً لحلّ الدولتين»، فيما فاضت الصحف البحرينية شبه الرسمية بالدفاع عن الاتفاق، بل والقول إن سياسة البحرين تصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية.
بعدها، في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه، تم الإعلان عن اتفاق لتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، لكنه لم يترافق بالكثير من التبشير بـ«السلام»، أولاً بسبب عدم استقرار الحكم في السودان وثانياً لأنه لم يكن اتفاقاً ناجزاً، فالأخير «ستتخذه المؤسسات التشريعية عقب اكتمال تكوينها» بحسب وزير الخارجية السوداني وقتها عمر قمر الدين. ثم في كانون الأول (ديسمبر) تم الإعلان عن تطبيع كامل للعلاقات المغربية الإسرائيلية، في صفقة يبدو أن طرفها الآخر كان الولايات المتحدة وليس إسرائيل نفسها، إذا أعلن ترامب في اليوم نفسه اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
في الحقيقة، ورغم كل الكلام الذي رافق هذه الاتفاقات عن سلام شامل ومبادئ إنسانية وتسامح ديني، كانت الروح الطاغية على تلك الاتفاقيات هي تلك التي يُمثِّلها ترامب كرجل أعمال ناجح وتُمثِّلها الإمارات كميدان صفقات ناجحة، كما لو أنها صفقات مالية يمكن إحصاء أرباحها المُحتمَلة رياضياً. لكن حتى بهذا المعنى، هل فكّرَ أطرافُ الصفقة ملياً في خسائرها المُحتملة؟ لعلّهم فعلوا فقرروا ألّا يأخذوا في اعتبارهم أكثر من الربح العاجل الذي بدا مؤكّداً بالنسبة لهم كلٌّ من موقعه. ترامب يدخل التاريخ كصانع سلام ويُحسّن حظوظه في البقاء في البيت الأبيض، واليمين الإسرائيلي يكسب أمام جمهوره على كل صعيد، وحكّام الإمارات والبحرين يحسّنون موقعهم في مواجهة إيران ويصبحون أكثر حظوة في الولايات المتحدة، والعسكر في السودان يُمكِّنون موقعهم في سلطة ضعيفة، والمغرب ينتزع اعترافاً أميركياً بسيادته على الصحراء الغربية.
لكن يبدو أن السعودية فكّرت في الأمر إلى أبعد من ذلك بقليل، ولعلّها اتخذت موقعاً مختلفاً في المسار الإبراهيمي لهذا السبب.
محطة إبراهيم الخامسة
كانت المحطة الخامسة في السعودية، التي حرصت منذ البداية على اتخاذ موقع متمايز عن الإمارات في هذا الملفّ، حتى أن التصريحات السعودية بعد الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي قالت إنه «لا تطبيع مع إسرائيل دون سلام مع الفلسطينيين». لكن مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي عاد إلى الواجهة في 2023، وتحدَّثَ ولي العهد السعودي قبل أقل من شهر من عملية طوفان الأقصى عن أن المباحثات مستمرة مع إسرائيل، قائلاً إن هذا المسار «يحقق تقدّماً» في مقابلة مع فوكس نيوز في 21 أيلول (سبتمبر) الماضي.
كانت السعودية أكثر حزماً في ربط مسارها للسلام مع إسرائيل بحلّ للقضية الفلسطينية، وفي المقابلة مع فوكس نيوز قال بن سلمان إن الاتفاق المُحتمَل: «يجب أن يمنح الفلسطينيين احتياجاتهم ويجعل المنطقة هادئة». وليس هناك ما يثبت أن القيادة السعودية كانت جادة فعلاً في عدم توقيع اتفاق دون حلّ للقضية الفلسطينية، لكن الأرجح أن القيادة السعودية كانت تريد مكاسب تتجاوز حسابات الربح السريعة، آخذة في الحسبان موقعها القيادي في العالم الإسلامي، وإلى جانب ذلك وربما قبله صراعها مع إيران، حتى أن برنامجاً نووياً سعودياً محتملاً كان في صلب المباحثات، وذهبت تحليلات إلى أن هذه المسألة كانت البند الأساسي فيها. في المقابلة مع فوكس نيوز، قال بن سلمان إنه إذا حصلت إيران على سلاح نووي فيجب أن تحصل السعودية عليه «لأسباب أمنية».
جاءت عملية طوفان الأقصى بعد أقل من ثلاثة أسابيع على مقابلة بن سلمان، وأعقبتها حرب إسرائيلية وحشية إبادية الطابع على قطاع غزة. أدّى ذلك إلى إعلان السعودية إيقافها مباحثات التطبيع مع إسرائيل بالتزامن مع زيارة بلينكن إليها في سياق جولته إياها في المنطقة، وذلك بعد يوم واحد من بيان سعودي يرفض تهجير الفلسطينيين ويُدين مذابح إسرائيل في غزة.
الطوفان
طوال الوقت، كان الخطاب المُرافِقُ لـ«المساعي الإبراهيمية» يتحدث عن سلام سيجلب ازدهاراً اقتصادياً على المنطقة، وكان المعلقون المحسوبون على الأنظمة العربية الساعية لتوقيع اتفاقيات سلام يُذكِّرون مراراً بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة كلازمة تتكرر في الخلفية، ودون إعلان سياسة واضحة بشأنها. ثم جاء يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، والمذابح التي أعقبته، ليكون اختباراً حاسماً لفعالية المشروع الإبراهيمي.
الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من مآل مشروع السلام بشكله الإماراتي الترامبي أنه يكاد لا يعني شيئاً خارج المكاسب السريعة المذكورة أعلاه، فقد كانت الفعالية السياسية للإمارات قريبة من الصفر، ولم تترك علاقات الإمارات والبحرين والمغرب مع إسرائيل أثراً على مسارات الحرب أو المساعي لتسويات مُحتمَلة (السودان خارج احتمالات التأثير بينما يعاني شعبه جراء صراع البرهان-حميدتي على السلطة)، بل العكس، يبدو أن هذه الاتفاقات بالذات عطّلت كل قدرة إماراتية على التأثير.
بالمقابل، بدت السعودية أكثر تأثيراً في حرب غزة من بقية دول المسار الإبراهيمي، وهي التي كانت أكثر تأنيّاً في السير على طريقهم، فيما كانت المواقف المصرية الأردنية الرافضة لتهجير الفلسطينيين حاسمة لجهة تعطيل مساعي إسرائيل على هذا الصعيد، وكانت مدعومة على طول الخط بالموقف السعودي الواضح بهذا الشأن.
وطبعاً، لم تفعل السعودية ومصر والأردن ما يمنع إسرائيل من مواصلة حربها الهمجية، ولم تضغط بكل ما لديها من قوة وأوراق على الولايات المتحدة لمنعها من تقديم دعم مفتوح لحرب الإبادة الإسرائيلية، لكن المقصود أن مسار السلام الإبراهيمي، الذي يقوم على تسويق إسرائيل في المنطقة تحت شعارات التسامح الديني والمصالح الاقتصادية، دون أن يقع على عاتق إسرائيل تقديم أي شيء على الصعيد السياسي بالمقابل، هو مسارٌ عقيمٌ على كل صعيد، حتى على صعيد تأثير هذه الدول في مآلات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لم تمنح الاتفاقات الإبراهيمية أصحابها العرب قدرة أعلى على التأثير في السياسات الأميركية والإسرائيلية، بل تشرح الأيام الماضية أن العكس هو ما حصل.
لا شكّ أن دروساً كثيرة ينبغي استنتاجها من عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاها، ومن أبرزها أنه لا يمكن بناء سلام في المنطقة عبر تجاهل حقوق الفلسطينيين، وأنه لا يمكن أن تزدهر المنطقة بينما يتم الدوس على حقوق وكرامات الملايين من سكّانها بالعنف والقتل والطائرات الحربية، وأنَّ كل «اتفاق سلام» مع إسرائيل لا يُجبرها على تقديم تنازلات حقيقية لا معنى له خارج المكاسب المحدودة والمؤقتة لأطرافه.
لا يتعلق الأمر بأن لدى الدول العربية واجباً «قومياً» تجاه الفلسطينيين، ولا واجباً دينياً، ولا حتى واجباً إنسانياً أو أخلاقياً، وبالطبع هو لا يتعلق بالموقف من حماس وخطابها وأساليبها وتحالفاتها، بل يتعلق بحقيقة أنه تمت إقامة دولة يهودية بالقوة في قلب المنطقة وعلى حساب الشعب الفلسطيني وشعوب الدول العربية المجاورة له، وأن مأساة الشعب الفلسطيني لا تزال مفتوحة في كل مكان يوجد فيه فلسطينيون داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، وأنه بدون إنهاء هذه المأساة فإن كل سلام وازدهار إقليمي هو مجرّد وهم في رؤوس أصحابه.
لكن لعلّ القادة وصانعي السياسات في دول «السلام الإبراهيمي» لا يسعون للسلام والازدهار أصلاً، بل يسعون إلى مكاسب لحظية ينفقونها في تحصين مواقعهم السياسية، بالمعنى الضيق للتحصين وبالمعنى الضيق للمواقع السياسية. الأرجح أن الأمر كذلك، ولهذا فإن الكلام أعلاه ليس مُوجَّهاً لهم، لكن لعلّه يكون مفيداً للتذكير بأن القضايا السياسية الكبرى لا يتمّ حلّها بتجاهلها أو القفز فوقها، وبأنه كلّما تمّ دفنها بالتجاهل فإنها ستعود لتنفجر في وجوه الجميع. هذا صحيحٌ بشأن فلسطين، وصحيحٌ أيضاً بشأن القضية الكردية، وهو صحيحٌ كذلك بشأن القضية السورية التي يحاول «الإبراهيميون» أنفسهم دفنها بالتطبيع مع بشار الأسد.