تنصّ كل القوانين التشريعية والدستورية في سورية على منح المرأة حق التملّك، والحصول على ميراث، لكنّ مشكلات توريثها لم تغب يوماً عن المحاكم، خصوصاً في المناطق البعيدة عن المدن التي تخضع لعادات وتقاليد تضع قيوداً على ملكية المرأة، وقد تجعل قرار توريثها عيباً. وقد تلجاً بعض مجتمعات هذه المناطق إلى تسويات تلحظ مساواة المرأة في حقوق وحصص الميراث، لكن مقابل حصولها على نسبة أقل، قد توافق عليها أيضاً تحت تهديد انهيار علاقاتها مع أشقائها وأفراد عائلتها.
وقد عزّزت سنوات الحرب في بعض المناطق عزوف النساء عن اللجوء إلى المحاكم للمطالبة بحقوقهن. ويعود ذلك إلى عدم
وجود سلطة قانونية قوية وتتمتع بنفوذ لفرض رفع القضايا إلى محاكم، أو إلى واقع انشغال السكان بمسائل أخرى ترتبط بالواقع الذي يعيشونه، مثل البحث عن الأمان والاهتمام بالصحة والتعليم، أو حتى فقدان هذه الملكيات في الأساس، وعدم إمكان المطالبة بها بسبب وجودهم في مناطق بعيدة عنها.
يقول المحامي والناشط الحقوقي مازن جمعة لـ”العربي الجديد”: “لا يمكن النظر لواقع الملكية في سورية من دون الأخذ في الاعتبار واقع أن أكثر من 40 في المائة من مساكن المدن الرئيسية الحالية تتواجد في عشوائيات احتضنت العدد الأكبر من مشاريع قطاع السكن قبل ثورة عام 2011. وهذه المساكن مشيّدة في شكل غير لائق، وبلا تخطيط أو نظام، وتفتقر غالباً إلى الخدمات الأساسية، علماً أن تشييد العشوائيات ارتبط بأسباب سياسية، واللافت فيها أنّ حصص أملاك النساء فيها مرتفعة جداً، مقارنة بأماكن أخرى تحتضن مشاريع وتجمعات سكنية. وقد استخدمت قوات النظام الملكية العقارية أداة لمعاقبة المعارضين ومكافأة الموالين المقربين، وباعت في الفترة الأخيرة ممتلكات كثيرة لمعارضين استناداً إلى القانون رقم 10 الذي صدر عام 2018، وقوانين أخرى هدفت في الأساس إلى تغيير البنية الديمغرافية لكثير من المناطق، علماً أن الانتهاكات تشمل الإناث والذكور معاً”.
ويعتبر جمعة أنّ أكبر التحديات التي تواجهها المرأة في سورية على مستوى الملكية العقارية، هو حرمانها من الميراث، علماً أن هذا الأمر قد ينفذه إخوة أو ورثة آخرون، أو زوج يبتز زوجته كي تتنازل عن حقوقها في حال نشب خلاف بينهما. وقد ينقل آباء ملكياتهم إلى أولادهم الذكور قبل الوفاة، بحجة أنّ الأنثى لا ترث، وأنّ من الضروري تجنب ذهاب حصتها في الميراث إلى زوجها وأبنائه. ويعود ذلك غالباً إلى عدم وعي المرأة بحقوقها، وعدم مطالبتها بها، نتيجة الحياء وغياب التوعية”.
تهديدات من الأخوة
ويلفت إلى أنّ “الإخوة قد يهددون شقيقاتهم بقطع الروابط إذا طالبن بحصتهن في الميراث، وربما يحاولون إرضاءهن عبر منحهن أجزاء من حقهن مع الحرص على أخذ النصيب الأكبر، لذا نظّمت وحدة تمكين المرأة في أعزاز جلسة تناولت واقع الملكية العقارية في سورية قبل الثورة وبعدها، والسكن العشوائي، وعرضت للمستندات التي تثبت الملكية، مع شرح أنواع المستندات والعقود، والإجراءات التي يعتمدها القانون في التعاطي مع ملكية النساء اللواتي يطالبن بالحرية والكرامة ومصير أملاك تعرضت لحجز أو تخريب أو تدمير”.
ويرى جمعة أنّ “ما تحتاجه المرأة اليوم هو التحلي بجرأة التوجه إلى المحاكم والحقوقيين من أجل المطالبة بحقها، ففعلياً لا تستطيع أي جهة التدخل قبل تقديم شكوى، كما أن لا عقبات قانونية تمنع المرأة من التوريث أو التملك العقاري. وما يحدث بالتالي في المناطق السورية هو الإصرار على تطبيق عادات اجتماعية بالية تصنف من دون حجج منطقية أخذها الميراث من بيت أهلها إلى بيت زوجها بأنه “تصرف معيب”. وهذه الأعراف تضع المرأة دائماَ في أزمة داخلية ونفسية حادة بين أن تحافظ على روابط علاقتها مع أسرتها أو أخذ حقها، فتفضل غالباً التنازل مقابل الحفاظ على علاقتها مع أخوتها.
يتابع: “الميراث حق أساسي للمرأة بكفالة الشرع والقانون السوري الذي يتضمن مواد كثيرة تؤكد أحقية المرأة في الميراث ونصيبها الشرعي، وكيفية تحصيل حقها، لكن ذلك لا يمنع أن يوصي الأب خلال حياته في بعض الحالات بحرمان بناته من الميراث، أو يقوم الأخوة نفسهم بذلك بعد وفاة الأب. كما أن بعض الأبناء قد يُجبرون أحد الوالدين على تسجيل كل أملاكهم باسمهم بموجب أوراق ثبوتية، أو يستغلّون حالتهم الصحية لجعلهم يدمغون بصماتهم على عقود لبيع ممتلكات.
بعيداً عن المحاكم
ويقول الناشط الحقوقي المحامي عبد الناصر حوشان، وهو عضو في “هيئة القانونيين السوريين”، لـ”العربي الجديد”: “قانون تملك المرأة مدرج في الدستور والقوانين السورية منذ ما قبل عهد الاستقلال، وهي مستمدة من القانون الوضعي والشريعة الإسلامية، ولا تحتوي على أي نص يحرم المرأة من الملكية، إلا في حال كان هناك سبب مرضي، كما لا تسمح بالتمييز بين ذكر وأنثى في الميراث، لكن هناك فارقا دائماً بين مضمون النص القانوني وتطبيقه، فالتملك والميراث حقان واضحان صريحان للمرأة بحسب القانون السوري الذي يطبق على كل الطوائف، ويشمل ذلك ملكية العقار تحديداً، أما الأملاك التي يمكن الانتفاع منها فتخضع لقوانين خاصة تسمح للرجل بالانتفاع منها من دون المرأة”.
ويلفت إلى أن “أسباب هذه العادة قد تكون اقتصادية لتلبية احتياجات الورثة الآخرين. وقد يرون من المعيب أن تذهب أملاكهم إلى بيت الزوج، لكن هذا العرف خاطئ لأنه قد يمنح قريباتهم الاستقرار إذا كان الوضع المادي لزوجها سيئاً، ويعطيها نصيباً من أخذ القرارات في المنزل، ويمنحها الاحترام أمام زوجها”. ويرى أن “هذه الظاهرة لا تزال متجذرة في مجتمعات المنطقة، وتحضر في بعض المناطق، رغم أن الميراث يعرف بأنه ما يتركه المتوفى من أموال وحقوق عينية أو مالية، ما يدحض الكلام حول حرمان المرأة من حق الانتفاع، والذي يضمنه لها القانون”.
ويشير حوشان إلى أن مشكلة حرمان المرأة من الميراث ليست جديدة في المجتمع السوري، بغض النظر عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية المتجذرة، لكن نسبة قليلة منها فقط تصل إلى المحاكم، بسبب عدم وعي النساء بحقوقهن، وغياب الرادع الديني والأخلاقي في بعض الحالات، كما تلعب البيئة دوراً كبيراً في الالتزام بالقوانين أو الخضوع للعادات والموروثات الخاطئة”.
وتقول المسؤولة التنفيذية في وحدة “دعم وتمكين المرأة” بمدينة أعزاز، صبحية دركزنلي، لـ”العربي الجديد”: “نسعى دائماً إلى أطلاق برامج تهدف إلى دعم المرأة وتمكينها في كل المجالات، ومنها العقارية. وقد أطلقنا أخيراً مشروعاً لتمكين المرأة عقارياً في مدينة أعزاز، وورشات أخرى عن تمكين المرأة قانونياً عموماً، ورفع الوعي السياسي، ومواضيع تتعلق بحقوق الإنسان. وتجاوز عدد المستفيدات 179 حتى الآن. وتناولت الورشات واقع حقوق الملكية العقارية في سورية، وأبرز المشكلات التي تواجه النساء وتتمثّل في حرمانهن من حقوق الميراث العقاري، ومنع الزوجة من الحصول على حقوقها المالية، وآلية التعامل مع تلك الحالات. وجرى التشديد على أن ملكية الرجل لا تختلف عن تلك للمرأة، وضرورة تقديم العديد من التوصيات المهمة للحفاظ على الملكيات العقارية.
حقوق معقدة
وكانت منظمة “اليوم التالي” أعلنت في فبراير/ شباط الماضي أنّ “قضايا حقوق السكن والملكية الخاصة بالنساء معقدة في سورية، بسبب مزج مجموعة قوانين تمييزية بعادات وتقاليد مجتمعية قديمة، ووجود واقع سياسي غير ديمقراطي، ما حرم النساء من ضمان حقوقهن في الملكية والسكن، وهو انعكاس ايضاً لمستويات تمكينهن الاقتصادي”.
وأشارت في تقرير لدراسة بحثية اجرتها بعنوان “حقوق الملكية في سورية من منظور جندري” إلى أنّه “في ظلّ النزاع المسلح تصبح قضية حقوق النساء في الملكية والسكن مرتبطة بملفات التغييب والاعتقال والمضايقات الأمنية، ومحاولات مختلف القوى المسيطرة القيام بتغييرات ديموغرافية، وكذلك بملفات العدالة للجميع وجندرة آلياتها، وصنع السلام وبنائه”.
لقراءة المقال كاملاً:
أضف تعليق