إنشاء سجل Sign In

تعبئة الهويات الطائفية في الحرب السورية

تعبئة الهويات الطائفية في الحرب السورية

إعداد: أنتونيا روبسون/ ترجمة أحمد عيشة

جهة النشر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة Harmoon Center for Contemporary Studies

مقدمة:

هناك إجماع واسع على أن الشرق الأوسط يشهد موجة من الصراع الطائفي، حيث يبدو أن التوترات العرقية والدينية قد اتسعت وتعمقت منذ الانتفاضات العربية عام 2011. في نظام ما بعد عام 2011، تشهد دول عدة في المنطقة تنافسات وصراعات وتحالفات وحروبًا مؤطرة بمصطلحات طائفية. والحرب الأهلية السورية تُعدّ واحدة من أشد مظاهر الصراع الطائفي في المنطقة اليوم، إذ غمرها صراع مستمر منذ عقدٍ من الزمن، أدّى إلى إخلاء وتدمير جزء كبير من البلاد. ومع ذلك، فإن اختزال الحرب الأهلية السورية إلى صراع طائفي، يسيء إلى وصف الدوافع الأصلية للانتفاضة السورية ويشوهها. لم تكن الانتفاضات، التي بدأت في عام 2011 مدفوعة في البداية بالطائفية، بل كان دافع المتظاهرين هو ارتفاع معدلات البطالة، وعدم المساواة الاقتصادية، والاستياء العام من نظام بشار الأسد. ومع ذلك، في غضون شهر من الاحتجاجات الأولى، أصبحت الهويات الطائفية عنصرًا محوريًا في تصعيد العنف الذي أدّى إلى اندلاع الحرب الأهلية. علاوة على ذلك، أصبحت الهويات الطائفية تحدد خطوط الصدع في الحرب، عندما احتشدت الأقليات الدينية، ولا سيّما العلويين، جنبًا إلى جنب مع المسيحيين والدروز والشيعة، خلف النظام، في حين هيمنت الأغلبية السنّية على المعارضة. وهذا يطرح السؤال: كيف تحولت هذه الاحتجاجات الطبقية العابرة للطوائف إلى حرب أهلية ذات بعد طائفي ثقيل؟ تسعى هذه الأطروحة للتحقيق في العملية التي أصبحت من خلالها الهويات الطائفية قضايا أمنية في المراحل الأولى من الصراع السوري (2011 -2012)، وكيف أسهم حشدها في انزلاق سورية إلى حرب أهلية؟

في حين أن قلة يجادلون في تصاعد الحراك السياسي المبرر/ المضبوط باسم الهوية الطائفية، ما تزال العلّة وراء هذه التحركات نقطة خلاف بين الباحثين. ما يزال الجدل الذي عفا عليه الزمن بين مقاربة البدائيين والذرائعيين يشغل الكثير من الحوار حول الطائفية، حيث الصراع الطائفي يُعزَى إما إلى استمرار الكراهيات القديمة وإما إلى التلاعب الكامل من قبل النخب. يتناول الموقف البدائي السابق الهويات على أنها بُنًى اجتماعية غير قابلة للتغيير، وهذا ما يجعل الصراع الطائفي يمثل استطالة ومدًّا لأمد الصراع القديم داخل المجتمع الإسلامي الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع. من خلال تفسير الصراع، بوصفه صراعًا متجذرًا في الاختلافات الطائفية القديمة بين الطائفتين السنيّة والشيعية، تخبرنا الروايات الشائعة المستخدمة في وسائل الإعلام الغربية ولدى صانعي السياسات أنه لا يوجد خيار سوى “السماح لهم بالتحارب” في الشرق الأوسط. على سبيل المثال، غالبًا ما استخدم باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة السابق، عبارات مثل “اختلافات طائفية قديمة” و”متجذرة في الصراعات التي تعود إلى آلاف السنين”، لشرح الصراع في الشرق الأوسط، مشجعًا على الرؤية البدائية للصراع السوري. لا يمكن أن تفسر البدائية Primordialism سبب تعايش الهويات الطائفية بسلام في لحظات من التاريخ، التي تصبح مصدرًا لصراع حاد خلال اللحظات الأخرى، ولا تقدم أي قيمة تُذكر في فهم تجدد الصراع الطائفي في سورية. إن الترويج لسردية “سنّية مقابل شيعية”، لفهم الصراعات الإقليمية، لا يؤدي إلا إلى تعزيز تداعيات السياسة الاختزالية التبسيطية والمفاهيم الاستشراقية عن الشرق الأوسط وعما يتعلق بالدين.

ومن ناحية أخرى، ترى المقاربة الذرائعية الهوية الطائفية في الشرق الأوسط أداةً مفتوحة للتلاعب والاستغلال من قبل النخب السياسية. فالذرائعيون يفهمون الطائفية على أنها ظاهرة حديثة، تتعلق بالكامل بالسياسة أكثر مما ترتبط بالقضايا الدينية القديمة. تركّز الدراسات الحديثة على عملية “التطييف” لشرح الصراع الطائفي، معتقدة أن القادة السياسيين يعبئون الهويات بغرض تكريس حكمهم السياسي. إن الذرائعية محقة في تأكيد دور النخب السياسية، حيث لجأت الأنظمة الاستبدادية إلى إثارة التوترات الطائفية التي تلي عدم الاستقرار الذي تسببت فيه الانتفاضات العربية. ومع ذلك، في حين أن الذرائعية تقدم مزايا واضحة عن البدائية، فإن مثل هذا الفهم يفترض أن الصراع الطائفي ما كان ليحدث لولا الفاعلون السياسيون الذين يتلاعبون إستراتيجيًا بانقسامات الهوية لأغراض سياسية. تمنح الذرائعية النخب سلطات كاملة للإقناع والتعبئة السياسية، مختزلة الهويات الطائفية إلى أيديولوجية تقوّض معنى ومحتوى الخطابات الطائفية. ومن ثمّ، يجب إيلاء المزيد من الاهتمام لكيفية إنتاج الهويات الطائفية، وإضفاء الطابع الأمني ​​عليها في أوقات الصراع، مع الأخذ في الحسبان أيضًا تاريخ الهويات القائمة على الطائفة، وما يعنيه التحدث بمصطلحات طائفية.

توفّر مدرسة كوبنهاغن ونظرية الأمننة Securitisation theory منظورًا أفضل يمكن من خلاله فهم انحدار سورية نحو الحرب الأهلية، والدور الذي لعبته الهويات الطائفية في تشكيل اتجاه الصراع. الحجة المركزية لنظرية الأمننة هي أنه يمكن تحليل الأمن باعتباره فعلًا كلاميًا [فعل الكلام هو شيء يعبّر عنه الفرد، لا يقدم المعلومات فحسب، بل يقوم أيضًا بإجراءٍ ما، ونظرية فعل الكلام هي حقل فرعي من البراغماتية التي تدرس كيفية استخدام الكلمات، ليس لتقديم المعلومات فحسب، بل لتنفيذ الإجراءات أيضًا.] حيث تُقدّم القضية على أنها تهديد وجودي من قبل كائن مرجعي [كائن (أو نموذج مثالي) يتعرّض للتهديد ويحتاج إلى الحماية وهو هنا الجمهور، وهو الهدف من قانون الأمننة الذي يحتاج إلى الإقناع وقبول القضية كتهديد أمني]، وهو ما يتطلب ويبرر تدابير طارئة خارج الحدود العادية للإجراء السياسي. توضح دراسة الطائفية من منظور الأمننة كيف تصوّر النخب السياسية “الآخر” الطائفي باعتباره تهديدًا وجوديًا لمجتمع معين، وهو ما يستدعي استجابة قصوى لمواجهة التهديد. وعلى الرغم من تطوير نظرية الأمننة من خلال منظور غربي، فهي تكتسب أرضية في الشرق الأوسط، حيث يستخدم الباحثون إطار العمل لتوضيح كيف أصبحت الهويات الطائفية أكثر أمننة [هويات ذات طابع أمني] في أوقات الصراع. من خلال التركيز على كلٍ من تشكيل الهوية وسياسات القوة، يمكن لهذه المقاربة سدّ الثغرات في النقاش الحالي، وتوفير فهم أعمق لشكل وأسباب الصراعات الحالية في المنطقة. ومع ذلك، لم يُنجز سوى القليل من العمل لتطبيق نظرية الأمننة على الصراع السوري. يركّز الباحثون إما على مشاركة الجهات الإقليمية الفاعلة في الصراع، مثل حزب الله والمملكة العربية السعودية، وإما على تطبيق نظرية الأمننة على انتفاضات عربية أخرى، مثل البحرين. تستند هذه الأطروحة إلى المقاربات المذكورة أعلاه من أجل فهم أفضل لديناميكيات الأمننة الصريحة للنظام السوري ودوره في الإسهام في تصعيد العنف الذي أدّى إلى اندلاع الحرب الأهلية. نظرًا لأن الشرق الأوسط يُعرف بشكل متزايد من خلال المصطلحات المسيّسة والعرقية والطائفية للسنّة والشيعة، فإن التركيز على كيفية تأثير الطائفية في الصراعات يمكن أن يساعد في تحطيم هذه السردية المولدة والمستمرة ذاتيًا، وفي محاولة نزع فتيل النزعة الطائفية التي تستهلك نظام ما بعد عام 2011. ومن ثم، ستُستخدم أطروحة نظرية الأمننة هذه لتسأل: كيف أسهمت تعبئة الهويات الطائفية في تشكيل الحرب الأهلية في سورية؟

ستجادل هذه الأطروحة بأن نظام الأسد نجح في إضفاء الطابع الأمني ​​على الهويات الطائفية في المراحل الأولى من الانتفاضات، وفي تحويل الصراع إلى حرب أهلية ذات بعد طائفي مفرط. من خلال تحليل الخطابات والممارسات الأمنية التي يتبناها النظام وقواته الأمنية، ستوضح هذه الأطروحة كيف استخدم النظام سردية حمايته الأقليات، مثيرًا عن عمد المخاوف من بديل الحكم العلوي. من خلال اللعب على المخاوف الموجودة من قبل، مثل انعدام الأمن، والمتأصلة بعمق في تاريخ الطائفية في سورية، تمكّن النظام من حشد قاعدة دعم وتبرير حملته القمعية، وإضفاء الطابع الأمني ​​على اندلاع الانتفاضة وتطورها. ومع ذلك، فإن الخطاب الطائفي الذي تبناه النظام، جنبًا إلى جنب مع رد قوات الأمن العنيف على الاحتجاجات السلمية، دفع المعارضة إلى الانقسام والابتعاد عن مقاربتها الطبقية الأولية والتعبئة على أسس طائفية. ستوضح دراسة الحالة في تاريخ ومفهوم قوات الأمن دورها في تحويل رواية النظام إلى حقيقة واقعة. علاوة على ذلك، ستجادل هذه الأطروحة بأن الداعمين الإقليميين الرئيسين للأسد، إيران وحزب الله اللبناني، عزّزا أمننة الأسد، من خلال رفع مكانة الصراع الداخلي إلى مشكلة أمنية إقليمية في المنافسة السنّية الشيعية الأوسع. من أجل عدم المبالغة في دور الانتماء الطائفي في تطور الصراع، ستقر هذه الأطروحة أيضًا بالدور الاجتماعي والاقتصادي في حشد الدعم من الأقليات وقوات الأمن والإسهام في إضفاء الطابع الأمني ​​على النظام.

المصدر.

المقالة السابقة
شركاء في القمع – تقرير يسلط الضوء على المضايقات القضائية والانتهاكات التي يتعرض لها المدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان في مصر
المقالة التالية
منحة Émile Boutmy للدراسة في فرنسا

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X