إنشاء سجل Sign In

بناء الهويّة

بناء الهويّة

بقلم: ناجي سعيد

جهة النشر: المدن – almodon

هل يتوقّف بناء الهويّة في مرحلة عمريّة مُعيّنة؟ وسؤالي هذا، على المستوى الشخصي والتربوي. فقد أعددتُ دليلًا تربويًّا منذ ما يُقارب العشرُ سنوات بعنوان “العين مش بالعين”. والدليل يتضمّن محورًا يعرّف بأقسام الذات. ويفضي إلى تعديل السلوك العنفي، والاستعاضة عنه بسلوك يحترم الذات ويأخذ بعين الاعتبار أن السلوك الأصحّ يكون بـ”التواصل اللاعنفي”. لكني لم أهتم بالمتغيّرات التي قد تطرأ على الموضوع. ولفتتني قراءة قول هيراقليطس بالصدفة: “لا شيء يستمرّ سوى التغيير”. وأمعنت في التفكير في المُتغيّرات (سلوكيًّا) حين فتحت الرسالة التي استقبلتها من ابنتي بمناسبة “عيد الأبّ”. وهي ليس رسالة ورقيّة في ظرف (جوانبه مخطّطة بالأزرق والأحمر) بل هي عبارة عن صورة متحرّكة عبر تطبيق “الواتساب”، أو ما يُسمّى بـ”ستيكرز”، على الأرجح! فقد استعاض الإنسان في عصر التكنولوجيا عن الكثير من العادات أو السلوكات اللفظية، وغير اللفظية، أحيانًا.

كانت حشود الناس تهرع مُسرعةً، لتأدية واجب العزاء في حال وفاة قريب أو صديق. والأمر ذاته، فقد كان اللقاء حتميًّا، بين المعارف والأصدقاء في الأفراح. كنت لا أفوّت مناسبة عائلية، إلاّ وأقوم بواجبي، تجاه أحد أفراد عائلتي. تراني الآن أختبئ، خلف شاشة صغيرة، لهاتف يواكب العصر! مع العلم بأنّ حاجتي الحقيقية خلف ذلك-لمواكبة “العصر”- هو التقدير والاحترام، لهويّةٍ ما زلت أبذل جهدًا لتطويرها وبشكل مستمر. فقد ولّى زمن التواصل المباشر والزيارات للتعزية والتهنئة. تكفي رسالة صوتية، (أو وسائط متعدّدة..) لتقوم بواجب اجتماعي. في عزاء والدي من حوالى ثمانية شهور، ازدحم هاتفي برسائل صوتية ونصّية لتأدية واجب العزاء، فيما خَلَت القاعة التي استأجرناها (لكثرة المعارف)، إلّا من بعض المقرّبين. 

تُقسم الذات بحسب مراجع علميّة (اعتمدت عليها لإنجاز الدليل) إلى أربعة أقسام: العقلي/ الجسدي/ الروحي/ الاجتماعي. وفي الحديث أعلاه، فإنّ الضرر الذي أقصده، يطاول بشكل مباشر المستوى الاجتماعي، وكم هو غريب الاسم “وسائل التواصل الاجتماعي، مع العلم أنّه عكس ذلك تمامًا!

ومن الطبيعي أن يؤثّر الالتصاقُ وراء الشاشات سلبًا على المستويات الأربعة المذكورة أعلاه. بمعنى أنّ ينفصل الإنسان عن العالم الخارجي. وبالتالي يحدُث أنّ يغيّر المسارُ الطبيعي لتطوّر الذات وجهةَ سيره، فعندما وضع فرويد نظريته، وأدخل مفهوم الأنا المثالي، “فإننا نجده يميز بين نرجسيتين: النرجسية الأوليّة والنرجسية الثانوية. النرجسية الأوليّة، هي تلك الحال التي يوظِّف الطفلُ فيها طاقتَه الليبيدية كلَّها على ذاته، فيتماهى مع شهوانيته الذاتية. ويسعى الطفل في هذه المرحلة إلى استعادة حالته الرَحمية الداخلية، وهي حالة الخضوع الكامل والمنقطع تمامًا عن العالم الخارجي الذي يجد بديلاً له في النوم. بينما الثانية (أي النرجسية الثانوية) تعبِّر عن تلك الحالة الدينامية من الليبيدو التي تعود إلى ذاته، بعد أن تكون قد أشبعت حبَّها من الأشياء الخارجية. وتشبه الفكرة تمامًا كما كنّا نَصِف “الفنّ التجريدي” حين كنت طالبًا في معهد الفنون الجميلة: الفنّ التجريدي هو حالة طلاق الشكل بعد فهمه والغوص فيه، وليس هروبًا منه لعدم فهمه! والهروب (من الشكل) في الفنّ، هو كالخضوع الكامل، والذي يفصل الإنسان عن العالم الخارجي.

المساحة التي يلجأ الإنسان إليها للنوم، هروبًا من التواصل بشكل سليم وصحّي مع الآخرين. فالسلوك الإنساني، قد يعود بالنفع على تطوير الذات.

عند خروجي صباحًا من المنزل، أشعر بفرح عارم، عندي مبادرتي لجاري “الدكنجي” وجاري “الخضرجي” بـ”صباح الخير جار”. هذا الأمر ذو أهمّية كبيرة، يساهم في الحفاظ على مسار بناء الهوية دونما خلل! فالابتسامة التي ترافق “صباح الخير”، تغذّي الجانب الروحي اوّلاً، ومن ثمّ تعكس جوّا إيجابياً مع الأخرين، ليرتفع منسوب “المستوى الاجتماعي”، وبالتالي فإنّ هذين المستويين بالتأكيد سيعودان بالنفع على الجانين الجسدي والعقلي. وهذا تأكيد على وجود كمّية من الضرر، أَحدثتها التكنولوجيا. فبدلاً من أن تنقل “صباح الخير”، الأثر الإيجابي، للتواصل الاجتماعي، إلى أقسام الذات الباقية (الجسدي/ العقلي/ الروحي) ترانا نسجن طاقتنا الإيجابيّة في عالم رقمي يحتاج إلى قسم من الذات خاص ومرتبط بالجسد فقط (كعمل الدماغ بشكل آلي). وبالتالي فإنّ اجتزاء أقسام الذات يعطّل مسار تطوّرها، فهل يمكننا أن نقود سيّارة تعطّل فيها شيءٌ ما؟

ولو استخدمنا مثل السيّارة، فأقسام الذات هم العجلات الأربع، والتي يجب ملؤها بكمية هواء متساوية، كي يكون الاتّزان واضح في السير. ولفتني الجملة التالية من مقال الصديقة نور صفي الدين في موقع المدن: “تتسمر عيناه على الشاشة هذه المرة، بدلاً من السماء”. هذا مع الافتراض بأنّ الهويّة الدينية هي الأساس لزوّار الأماكن المُقدّسة. فهل من الطبيعي الربط بين أداء الفروض أو الواجبات التي تكرّس الانتماء للهويّة، وبين استعراضٍ قد تفشّى مع انتشار ظاهرة استخدام الهواتف “الذكيّة”؟

إنّ الهواتف الذكية وعالم التكنولوجيا محصورٌ عند اللبنانيين باستخدام الواتساب ومشاهدة الفيديوات المتناقلة عبر “تيك توك”، حيث يعتمد كثيرون من مستخدمي التطبيق المذكور، عليه كمرجعٍ، ويراكمون معلوماتهم “المغلوطة” منه! وهذه الكارثة تضرب الجانب العقلي المسؤول عن بناء هوية معرفية، قد يملك صاحبها ملكة التفكير النقدي، لو تجنّب التطبيقات الساذجة في الهواتف الذكيّة.

“هويّتي” الآن طلبت منّي إعادة قراءة كتب اختصاص الفلسفة الذي درسته في الجامعة. لإعادة النظر في أمور كثيرة. وما اكتشفت في كتاب الإمام الغزالي – بلغته الفلسفية- أنّه يذكر تفاصيل عن التواصل، والذي يُدعى في مجالنا: “التواصل اللاعنفي NVC”!

بناء الهوية لا تُعيقه تكنولوجيا، فرحلة المخترعين والمبتكرين للوسائل التكنولوجيّة، بدأت ببناء هويّة تحترم أقسام ذاتها الأربعة، والبناء المرتكز على أسسه الأربعة، لا يعاني صاحبه من نقص في حاجة للتقدير، لتراه يلبّي هذه الحاجة في استعراضها على وسائل التواصل الاجتماعي. فينسى حاجته للأمان التي يلبّيها بإقامة شعائر، وأداء واجبات وفروض دينية. والجزء المريض هذا، يشبه التفاحة المهترئة التي تُفسِد باقي التفاحات في الصندوق. إنّ بناء الهويّة يبدأ من اختيار صندوق ملائم، وبعد ذلك يمكن رصف التفّاحات بطريقة دون تزاحم بينها. فارتكاز الهويّة على أسس إنسانية حقوقيّة، لا يلغي انتماءات أخرى، والانتماءات تنقسم بين “عام وخاص”، فلا يُمكنني أن أعرض على مساحة عامّة، سلوك يفيد الجزء الخاص من هويّتي. كإقامة شعائر دينيّة، واحتفالي بميلاد ابنتي أو طهور ابني، أو تخرّج.. وتعدّدت المناسبات الخاصّة والانتهاك واحد. الحاجّة إلى أن تكون معروفًا، هو تعاطيك بالشأن العام. أي أن تعمل في مجال يهتمّ بالشأن العام ومصالح الناس، فورًا، تُلبّى الحاجة. وبغضّ النظر إن كان أداء الشخص سلبي أم إيجابي.

في لبنان، نرى الظهور في المساحة العامة، يُنسينا “قِيميّة” هويّتنا، فننشغل بالظهور على حساب بناء الهويّة. فكيف نُفسّر الانتقال من مجتمع قروي التقاليد إلى مجتمع استعراضي على “السوشال ميديا”؟ كانت تسألني قريبتي التي تعرف بأنّي رسّام، وهي ترسم أيضًا (كهواية وليست أكاديميّة): حلوة الرسمة؟ يعني بنزلها عالإنستغرام؟!

التطوّر الذي أنظر إليه في بناء الهويّة، لا علاقة له بالتكنولوجيا، فقد قبلتُ على مضض أنّ ابنتي (التي تتابع الماجستير في علم النفس) قبلت بعرض أزياء مؤقّت لشركة ملابس، مقابل أجر!

من الممكن أن أرفض ذلك بشدّة، لكن التطوّر هنا، لا يمسّ بناء الهويّة، فهدفها الاعتماد على النفس مادّيًا. والتكنولوجيا هنا، تخدم مجالاً محدّدا، فيسخّر برامج وتطبيقات لخدمة عمل معيّن، ولا يستعرض بغرض العرض فقط. وبالفعل فقد أتت التكنولوجيا، وغيرت معالم كثيرة من الهوية الإصيلة، فمن الجواب التقليدي للعريس الذي جاء يطلب عروسه: راحت عالعين تملّي. إلى نشر صور استعراض على وسائل التواصل الإجتماعي… الشخصي.

المصدر.

المقالة السابقة
منحة جلوكال 2024
المقالة التالية
منحة لدعم المبادرات المجتمعية

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X