قد يتبادر إلى الذهن أنّ الوصم شتيمة أو مذمة تلحِق الأذى بحاملها، وهذا يتفق مع تعريف إرفنغ غوفمان الذي رأى أنّ الوصم «شتيمة تُقلِّص حاملها من شخص عادي إلى معابٍ قليل الشأن». لكنّ هذا التعريف قاصر عن التعمُّق في فهم الكيفية التي يصدِر بها البشر تصنيفات معيّنة، ويُسلَّم بعد مدة بأنّها أمر طبيعي وأصيل في من تلصق بهم/نّ هذه التصنيفات، بل يجعل من الوصمة مأزقاً شديد اللجاجة في حياة من يتأثر بها.
كيف تتحوّل الحرية إلى وصم؟
لدى سؤال مجموعة من الناشطات السوريات حول أكثر الوسوم، أي ما يلصق بالموصوم، التي لحقت بهن، تكرّر ذكر كلمتي «ملحدة»، و«متحرِّرة».
كلا الوصفين لا يمكن اعتباره شتيمة في الظاهر، لأنّ لفظة متحرِّرة أصلها من الحرية، وهي واحدة من أسمى المبادئ الإنسانية. أما الإلحاد، فيُعد خياراً شخصياً يحدد علاقة الإنسان بالكون والوجود.
تقال هاتان الكلمتان في سياق التنديد بـ«الانحلال»، مع الإشارة بأصابع الاتهام والريبة نحو ظروف العمل في المجتمع المدني، التي تتطلب سفراً، وساعات عمل طويلة، وإقامة في الفنادق، في سلوكات لا يحبذها المجتمع للنساء. وهي تشرح في كثير من سياقاتها مفاهيم لا تزال غامضة في الوعي الجمعي المستلب من سلطة الحزب الواحد كالعلمانية والديمقراطية، فيحيلها ضعف الثقافة السياسية إلى الكفر والإلحاد، ثم تعمَّم على العاملات في الشأن العام.
ليصير ذلك وصماً يزيد التضييق على عمل النساء في الشأن العام، وسعيهن إلى التحرر من السلطة الذكورية، فيضعهن في موقف المتّهم المنبوذ اجتماعياً.
في مقالة بحثية حول مفهوم الوصم، ترى عالمة الاجتماع الطبّي، ج. ك. فيلان، وعالم الاجتماع، بروس. ج. لينك، أنّ الوصم هو تضافر مكوِّناته الأربع (الوسم، التنميط، والعزل، والتمييز، وفقدان المكانة). اختار الباحثان كلمة «وسم» بدلاً من «صفة»، أو «علامة»، أو «حال»، لأن هذه المفردات تطلق على شيء موجود في الشخص، أما «الوسم»، فهو شيء يلصق بالموصوم/ـة إلصاقاً وليس بالضرورة أن يكون موجوداً فيه/ـا.
كذلك، يرى فيلان ولينك أنّ الوصم يبدأ من لحظة تحديد الاختلافات مع الآخر ووسمها، ثم يربط الموسومين/ـات بخصائص غير مرغوب فيها ضمن القناعات الثقافية السائدة، وبصور نمطية سلبية، يصنَّف على إثرها الموسومون والموسومات بهدف العزل بين «نحن» و«هم»، ليختبروا بعدها أشكالاً من التمييز تنتهي بالإقصاء تحت سطوة القوة الاجتماعية والاقتصادية التي أتاحت لنفسها تعريفَ الاختلاف ووصمه.
بسبب العلاقة الوطيدة بين الوصم والصور النمطية، نجد أنّ الناشطات النسويات خاصة يخضعن لتصنيفات أكثر شراسة وأذية، وتنتشر حولهن صور نمطية سلبية كونهن يعملن على كسر التابوهات الاجتماعية والسياسية حول النساء، وينادين بتكافؤ الفرص والقوانين بين الرجل والمرأة، ويطالبن بحرية النساء الجسدية والفكرية.
في النتيجة، يوصمن بأنهن «سهلات المنال»، و«صاحبات تجارب جنسية»، الأمر الذي سهّل على البعض استباحة خصوصيتهن في أجسادهن، لدرجة تعرّضت معها ناشطة نسوية للتنمُّرِ كونها عذراء، كأنّ فقدان العذرية معيار لقياس مدى انتمائها إلى القضية النسوية! وفي حال رفض ناشطة إقامة علاقة جنسية مع أحدهم، وهي تمتلك كامل الحرية في جسدها، فقد تُتّهم بأنّها منافقة ومعقَّدة، الأمر الذي جعل التصريح بكوننا ناشطات، أو نسويات، باباً مفتوحاً أمام كلّ من يريد وصمنا بما يشاء، وسيجد خلفه مجتمعاً ذكورياً سلطوياً يرحِّب بادعاءاته ويدعمها.
الرسم: (Adriana Mosquera – كارتون موفمينت)
لعلّ واحدة من أشهر حالات الوصم التي تطاول النسويات هي التعميم: «النسويات مطلّقات أو عازفات عن الزواج»، فبتنا نسمع الكثير من التحذيرات من نساء ورجال ذكوريين ينصحون/نَ بعدم الاقتراب من مجتمع النسويات، اللاتي بحسب آراءهم/نّ «لا يحترمن الأسرة ولا يقدِّسن الرباط الزوجي، ويفسدن المجتمع». ومع ارتفاع نسب الطلاق التي لم يكن للحراك النسوي السوري دور واضح فيه، وإنما جاء في صيرورة طبيعية لعلاقات وظروف مليئة بالمشكلات في ظرف اقتصادي قاهر، فقد نُسِبَ إلى نشاطهن في توعية النساء بالحقوق، وزاد وتيرة العنف ضدهن.
علاوة على ذلك، ثمة تيار راديكالي نسوي يرى أنّ «أي التزام خارج النشاط الثوري من أجل النساء، هو إلهاء وتضييع للجهد والوقت المطلوب بذله في سبيل القضية»، وأنّ «كل ما تقدِّمه النساء في علاقاتهن مع الرجال هو تنازل مرفوض وغير مرحَّب به»، الأمر الذي زاد الشروخ بين الرجال والنساء، وعزّز الصور النمطية حول النسويات.
خلفيات لا بدّ منها
لا شك في أنّ للمجتمع الذكوري الأبوِّي الدور الأكبر في كلّ ما تعانيه النساء، إلا أنّني استمعت إلى آراء خلال إعداد هذا المقال ذهبت للإشارة إلى دور منظمات المجتمع المدني نفسها في تكريس الوصم الذي يطاول الناشطات، إذ يجد البعض أنّ مجال العمل في الشأن العام ليس صديقاً للأمهات، ويتوقَّع من العاملين فيه الجهوزية على مدار 24 ساعة، الأمر الذي اضطر كثيراً من الناشطات إلى المفاضلة بين الحياتين العملية والعائلية.
كذلك؛ يشير البعض إلى خلو سياسات عدد من المنظمات العاملة على الأرض اليوم من أي بند يخص الأمومة والإجازات المدفوعة للأمهات، ما جعل خيار الأمومة غير مرغوب فيه لدى كثير من العاملات في الشأن العام، ما يحدّ من تكافؤ الفرص، وقد يفقِدهن عملهن تحت حجّة أنّ المموِّل لا يقبل تأخراً في زمن إنهاء المشاريع.
لدى سؤال بعض المموِّلين عن أسباب تجاهل الأخذ بسياسات الأمومة ضمن تمويل المشاريع، كانت الإجابة أنّ المنظمات المتعاقدة التي يُفترض أنّها على دراية بحاجات العاملين/ات فيها لا تصرِّح بحاجتها إلى زيادة التمويل لتغطية إجازات مدفوعة، ولتمديد مواعيد المشاريع مراعاةً لواقع العاملات الأمهات، والحوامل.
عند سؤال مجموعة من الناشطات حول أكثر الوسوم التي لحقت بهنّ تكرّر ذكر كلمتي «ملحدة» و«متحررة»
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ واقع الشرخ بين عمل المنظمات النسائية والنسوية والمجتمع يأتي وفق بعض الآراء من العقلية الذكورية التي تدار بها هذه المؤسسات، جرّاء الاعتماد على علاقات القوّة باستقطاب دائرة صغيرة من نساء فاعلات ذوات علاقات محلية وخارجية متينة، وإعادة تدوير الأنشطة والمشاركات ضمن هذه الدائرة فقط، دون استهداف فئة أوسع، ودون التجديد في سبيل تحقيق هدف الحراك النسوي بتغيير الأنظمة لما يدعم النساء، والفئات المهمشة الأخرى.
لهذا، نجد أسماء معيّنة تتكرّر في المحافل الدولية، والإقليمية، والعربية، والمحلية، دون سواها، الأمر الذي يجعل الاستهداف الحقيقي بعيداً عن كثيرات أخريات فاعلات، حتى في برامج التوعية والتمكين الاقتصادي، فابتعاد بعض التدريبات عن واقع المستهدفات تجعل من المفاهيم، وإن كانت محقّة، دخيلة على ثقافة المجتمعات المحلية، وغير أصيلة، أو غير قابلة للفهم لدى البعض، فضلاً عن التنميط في تدريبات التمكين الاقتصادي التي تعزّز الفجوة الجندرية، وتعيد حصر النساء في أدوار أساسها المنزل، كدورات تعليم الخياطة، وصناعة المنظفات، والشمع، والطبخ… التي لا تجد سوقاً حقيقية في دولة فقيرة مثل سوريا، وتكرِّس أدواراً نمطية تعمل النساء على كسرها للتحرّر من قيدها.
الوصم في القانون السوري
إذا أرادت أيّ من الناشطات أو المؤسسات المدنية المتعرّضة للوصم التقاضي وفق القانون السوري، فلن تجد تعريفاً واضحاً لمفهوم الوصم ضمنه، إلا في بعض القوانين المتعلِّقة بالقدح والذم التي تقترب من حيث شروحاتها من المفهوم وتعاقب عليه.
تعرِّف المادة 375 من قانون العقوبات العام في فقرتها الأولى الذم بأنّه «نسبة أمر إلى شخص ولو في معرض الشك أو الاستفهام، ينال من شرفه وكرامته». ويوضح الشرح مفهوم الشرف والكرامة بأنّهما شعور الفرد بما يلقاه من احترام من الغير، ومكانته في المجتمع. ويرى القانون أنّهما حق للفرد بغض النظر عن جنسه، أو مهنته، أو جنسيته، أو سنه.
في هذا الإطار، يكون الذم مما يُعبَّر به لفكرة أو واقعة تنسب إلى ذات المجني عليه سواء بالقول، أو الإشارة، أو الصياح، أو الكتابة، أو المقالة، أو الرسم، والكلام الشفوي. كما يعاقب القانون على ما كان متضمناً وغير صريح في التعبير كالألفاظ ذات الدلالة المستعارة والمتوارية، أو العبارات الاستفهامية.
أما جريمة القدح، فتعرِّفها الفقرة الثانية من المادة نفسها على أنّها «كلّ لفظة ازدراء، أو سباب، أو تعبير، أو رسم يشفُّ عن تحقير دون إسناد أمر أو واقعة بحد ذاتها إلى شخص المجني عليه، وتطعن في شرفه واعتباره، بأشكال صريحة أو ضمنية»، كأن يقال: فلان بعيد عن الفضيلة أو الأخلاق، دون أن يسند إليه فعل معيب يتناقض مع الفضيلة.
عن العقوبات وآلية التقاضي، توضح المحامية، رهادة عبدوش، أنّ العقوبة هي السجن من سنة إلى ثلاث في حال كان الذم أو القدح ضد رئيس الدولة، وسنة على الأكثر إذا كان الفعل ضد مؤسسة، أو هيئة عامة كالجيش، أو شخصية اعتبارية مسؤولة، في حين أنّ القدح، أو الذم، الذي يطاول موظفاً عادياً تكون عقوبته أخف وتُقلَّص إلى السجن ثلاثة أشهر.
تضيف عبدوش: «إذا كانت الشكوى مقدّمة ضدّ أفراد عاديين خارج إطار المؤسسات والجهات العامة فإنّ العقوبة هي السجن من أسبوع إلى ثلاثة أشهر وفق الضرر الواقع على المدّعي، ويحدده القاضي مع دفع غرامة مالية تتراوح بين 100 إلى 200 ألف ليرة في حال كان الفعل علنياً، وتقتصر على دفع غرامة دون سجن في حال لم يكن علنياً».
في الحالات كافة، على الطرفين، المدّعي والمدّعى عليه، أن يكونا واضحين ومعروفين، فلا يمكن الادّعاء «ضد مجهول»، فيما تستطيع الجمعيات المرخصة والمعترف بها من الحكومة التقاضي، أما غير المرخصة فلا تحظى بالأهلية والتمثيل. لكن يمكن للأفراد الواقعة عليهم الإساءة التقاضي بموجب هذا القانون، مع أنّ العقوبات لا تزال غير رادعة ولا تكافئ حجم الجرم.
أضف تعليق