إنشاء سجل Sign In

المجتمع المدني ودوره النضالي في ترسيخ الديمقراطية في العالم العربي

المجتمع المدني ودوره النضالي في ترسيخ الديمقراطية في العالم العربي

إعداد: نادية بلكريش

جهة النشر: ميسلون للثقافة والترجمة والنشر

مقدمة

تشكِّل دراسة المجتمع المدني مدخلًا أساسيًا لدراسة العلاقة بین المجتمع والدولة بوصفها علاقة أساسیة ومهمة في دفع عملية التحول الديمقراطي إلى الأمام، وإسباغ الديمقراطية بوصفها سمة مميزه لمؤسسات الدولة، وتعبيرًا عن مستوى الديمقراطية وانفتاح المجتمع وتقدمه. كما يُعَدُّ المجتمع المدني دعامةً أساسيةً في تطوير قطاعات المجتمع كافةً وتنميتها، إذا ما وُظِّفت في خلق المشاركة المجتمعية وإيجاد الشعور العام بمسؤولية الأفراد تجاه مجتمعھم، حیث يُعَدّ العمل الأهلي أو التطوعي امتدادًا لقیم التكافل الاجتماعي. فعن طریق ھذه المنظمات یمكن أن تتحقق النهضة التنموية التي تنشدھا جلُ الدول النامیة، ولاسيما في تقليص الھوة السیاسیة بینھا وبین شعوبھا. ذلك لأن منظمات المجتمع المدني تمثِّل قنوات اتصال مباشرة بین عامة الشعب والسلطة السیاسیة الحاكمة في الدولة. ولكي تحقق منظمات المجتمع المدني الأهداف المرجوّة منھا، لابدّ لھا أن ترتكز على عدة قواعد وأسس علمیة تُمكِّنھا من العمل بنشاط وحیویة وفاعلیة أكبر، ومن بین تلك القواعد البناء المؤسسي الداخلي للمنظمات وبناء قدراتھا البشریة والمادیة، وكذلك تفاعلاتھا مع محیطھا وبیئتھا الاجتماعية والسیاسیة والاقتصادية، وغیرھا.

تنطلق ھذه الدراسة من مجموعة من التساؤلات التي یمكن طرحھا على النحو التالي: ما المنظمات الأكثر انتشارًا (منظمات التنمیة – منظمات التوعیة- المنظمات الحقوقیة) من منظمات المجتمع المدني في العالم العربي؟ ھل تتأثر أعمال ومناشط منظمات المجتمع المدني بالمتغیرات والأحداث السیاسیة؟ ما مصادر تمویل مشروعات ومناشط منظمات المجتمع المدني في مجتمع الدراسة؟ كیف تقُیِّم منظمات المجتمع المدني العربية القوانین والتشریعات التي تعمل في ظلها حاليًا؟ ما أبرز المعوقات التي تعیق منظمات المجتمع المدني العربي وتحدّ من فاعلیتھا في المجتمع العربي؟ في أي بعد من أبعاد التنمیة السیاسیة یبرز إسھام منظمات المجتمع المدني في المجتمع العربي؟

1- المجتمع المدني، المفهوم والتطور

1. 1. مفهوم المجتمع المدني

یُحدَّد مفهوم المجتمع المدني بأنه “مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بین الأسرة والدولة ومؤسساتها التي لا مجال للاختیار في عضویتھا. وهي تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها أو لتقدیم خدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقیم ومعاییر الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلیمة للتنوع والاختلاف” [1] . كما يشير إلى “مجمل المؤسسات الاقتصادية، والاجتماعية، والسیاسیة والثقافية التي تتصف بكونها غیر حكومية وغیر إرثیة ولا تھدف إلى الربح، وهي طوعية الانتماء إلیھا وتكون الحداثة في بنیتھا وتكوینھا” [2] . ومن خلال التعریفات السابقة للمجتمع المدني نستنتج ضرورة توافر أربعة عناصر أساسیة: یمثل العنصر الأول “الطوعية” أو المشاركة الطوعية التي تُعَدُّ في الأساس الفعل الإرادي الحرّ أو الطوعي. وبهذه الطریقة تتمیّز تكوينات المجتمع المدني وبناه عن باقي التكوينات الاجتماعية. أما العنصر الثاني، فيتجلى في كون هذا المجتمع المدني “منظَّم” ما يجعله مختلفًا عن ”المجتمع التقليدي العام بمفھومه الكلاسيكي. حیث یشیر ھذا الركن إلى فكرة المؤسّسية التي تطال مجمل نواحي الحیاة الحضاریة تقریبًا، والتي تشمل الحیاة السیاسیة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية” [3] . أما العنصر الثالث، فیتعلق بالغایة، أما الرابع، فبالدور الذي تقوم به ھذه التنظيمات، والأھمیة الكبرى لاستقلالھا عن السلطة وھیمنة الدولة، من حیث ھي تنظیمات اجتماعية تعمل في سیاق وروابط تشیر إلى علاقات التضامن والتماسك أو الصراع والتنافس الاجتماعي.

1. 2. تطور المجتمع المدني

شهد مصطلح المجتمع المدني تحوّلات كبرى في توظيفه، منذ مرحلة التأسيس مع هيغل ولوك وماركس ودي توكفيل وغرامشي، حتى توظيفه المعاصر. وكانت تحولات المدلول تابعة لظروف البيئة وحاجاتها، وكذا التوجهات السياسية والاقتصادية السائدة لدى نخبها الفكرية والسياسية. غير أن دلالة المصطلح تكاد لا تبتعد عن المؤسسات المجتمعية التي ينتظم فيها الأفراد خارج أجهزة الدولة، ومؤسسات السوق، والمؤسسة الدينية. وقد استُخدم المصطلح استخدامات عدة، رافقته منذ نشوئه حتى اليوم، فاستخدامه الأول هو الذي كان يجعل منه مناقضًا لمفهوم الطبيعة والمجتمع الطبيعي، الذي هو لدى بعضهم المجتمع الحيواني، أو المجتمع الأبوي، أو المجتمع التقليدي، أو مجتمع الحرية الأولى. وقد نشأ هذا الاستخدام في سياق تحليل النمط التقليدي للمجتمع الإقطاعي أو الدولة ما بعد الإقطاعية القائمة على البديهية الدينية أو العرفية، ونمو الشعور بأن السياسة صناعة. بمعنى أنها نشاط عقلي، تابع لعمل الإنسان والمجتمع، من خلف ذلك ظهور النظرية السياسية الحديثة. وكانت الحاجة ضرورية إلى مفهوم جديد يعكس النزوع المتزايد إلى اكتشاف ما سوف يسمى بالسياسة المدنية، بمعنى السياسة التي تعبِّر عن حقيقة الإنسان وطبيعة اجتماعه المدني وخصوصيته، مقابل ما كان سائدًا في الحقبة الوسطية من انعدام السياسة بوصفها مجالًا عامًا ومشتركًا، ومن ارتباط السياسة بالدين أو بالأثر الأرستقراطي أو بهما معًا. إن بنية المجتمعات ما قبل الحديثة كانت تقتصر على ثلاث مراتب أساسية من الوجهة السياسية: رجال الدين والكنيسة، وطبقة النبلاء أو ملاكي الأراضي والإقطاعيين، ثم عامة الشعب.

جاء الاستخدام الثاني للمفهوم في القرن التاسع عشر، بخاصة بعد أن أصبحت السياسة تعاقدية وأُلغيَت الصيغة التراتبية. كما نقلت الثورة الصناعية المجتمع الأوروبي من نمط العلاقات الحِرَفية صغيرة الحجم وكبيرة العدد التي تربط الأفراد في علاقات عائلية، أو في الإقطاعيات بين السيد وأقنانه، إلى طرح مسائل جديدة على المجتمع، تمثّلت في ظهور الاعتماد المتبادل بين الأفراد، إلى جانب ظهور نمط الاقتصاد السُّلعي بفعل قوانين التراكم والتركز الرأسمالي، الأمر الذي طرح بقوة إعادة بناء هذه العلاقات في موازاة الدولة الحديثة. بمعنى آخر، بناء المجتمع المدني وفق حقيقته الجديدة. وعلى الإشكاليات النظرية، اهتم كبار فلاسفة القرن التاسع عشر وفي مقدمتهم هيغل وماركس بالرد عليها. ونشأ الاستخدام الثالث للمفهوم في النصف الأول من القرن العشرين على يد المفكر الإيطالي الشيوعي أنطونيو غرامشي، الذي ترك أكبر الأثر في المفهوم واستخدام المعاصرة، إذ طرح مفهوم المجتمع المدني في إطار نظرية الهيمنة والسيطرة الطبقية. واستخدامه في إعادة بناء استراتيجية الثورة الشيوعية في بلاده. ووفق المنظور الغرامشي، فإن المجتمع المدني يُعدُّ المجال الذي تتجلى فيه الهيمنة الاجتماعية، وأداتها المثقفون والثقافة في مقابل المجتمع السياسي أو الدولة التي تتجلى فيها السيطرة أو القيادة المباشرة.

ینطلق مفھوم المجتمع المدني من المجالات الفكریة المختلفة السیاسیة والاجتماعیة، للتأكید على التمییز بین الدولة والمجتمع، وترتكز الفكرة الرئیسیة للمفھوم على مبدأ إقرار الحقوق المدنیة للأفراد أو المواطنین، واعتبار أن السلطة السياسية قامت نتاجًا لعقد اجتماعي، وتنازلًا متبادلًا بین السلطة والفرد، وكذا الخروج من حالة النشأة الطبیعیة إلى نشأة المجتمع المنظَّم. لذلك، يَعُدُّ كثير من الباحثین أن البحث عن جذور مفھوم المجتمع المدني یبدأ من فكرة العقد الاجتماعي التي یقبل الجمیع فیھا القواعد المنظمة لتلك العلاقة العقدیة، ویتنازل بموجبھا الفرد عن حریته المطلقة مقابل قدر من الأمن والاستقرار والنظام، وھو ما یعني خضوع الإرادة الحرة إلى الإرادة العامة. من ھنا، تبدو أھمیة الوقوف على مفھوم العقد الاجتماعي كمدخل لفھم تطور فكرة المجتمع المدني. حیث یُعبِّر عن اتفاق بین أفراد وقوة حاكمة، يُتنازَل فیه إرادیًا عن بعض الحریات الشخصیة مقابل المنفعة العامة التي تتمثل في قیام مجتمع جید التنظیم أو حكمه رشید، إلا أن العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو یحمل العدید من المتناقضات، فالإنسان یتخلى عن جزء من حریته مقابل تنظیم یضمن له ما تبقى من الحریة أو من أجل الصالح العام، ویظل الفرد جزءًا من الكیان الاجتماعي أو السلطة التي تحدِّد الإرادة العامة وھي مجموع الشعب، وبما أن السلطة موزَّعة على الجمیع و لیست مركَّزة في ید فئة أو طبقة معینة، فإن الإرادة تكون موحَّدة حیث الجمیع قد شارك بطریقة أو بأخرى في تحدید الصالح العام أو (الإرادة العامة). وفي ھذه الحالة، تكون لكل فرد مصلحة جماعیة بالإضافة لمصلحته الشخصیة. وبالتالي، ینتفي التناقض بین المصالح والحاجات الشخصیة وبین القوانین والقرارات السیاسیة المفروضة على الأفراد من سلطة المجتمع [4] . لكن ذلك المدخل ربما لا یُعَدُّ كافیًا للوقوف على البعد التاریخي لفكرة المجتمع المدني. لهذا، فإن المجتمع المدني عند ھیغل ھو ذلك الوسیط بین الدولة والعائلة بكل ما یتضمنه من مصالح متباینة ومتنافسة. كما أنه سابق على الدولة التي یعرِّفھا على أنھا كیانٌ مستقلٌ عن القوى والفئات الاجتماعية والاقتصادية المتنازعة. یتكوّن المجتمع المدني عند ھیغل من ثلاثة عناصر ھي (العائلات- الطبقات- الروابط) ونظرًا إلى أن دور المجتمع المدني ھو إشباع حاجات الأفراد، فإنه لا یقتصر على تلك الروابط الخاصة بین المواطنین، لكنه یشمل كذلك بعض مؤسسات الدولة سواء تلك التي تساھم في تحقیق الرفاهية الاجتماعية لھم، أو تلك التي تقوم بمھام القضاء والضبط. أما عند جون لوك، الذي يُعَدّ أبرز مفكري المدرسة الليبرالية، فإنه لم یترك حیزًا خارج المقابلة بین المواطن والدول والسوق، حیث سعى إلى التفرقة بینھا بوضع القطاع الخاص في المسافة الفارقة بین الدولة والمجتمع، لیبدو المجتمع المدني في ھذه المرحلة كمجتمع خارج الدولة قائم على اقتصاد السوق، ثم أصبح یرتبط بتوسیع حقوق المواطنة والدیمقراطیة. وفي غیاب التمایز بین المجتمع المدني والدولة، استخدم لوك تعبیري المجتمع السیاسي والمجتمع المدني بوصفهما مترادفین. في حین أشار آدم سمیث وجيفرسون إلى المجتمع المدني بوصفه مرتبطًا بنمو التخصُّص وتقسیم العمل في إطار المجتمع، وخصوصًا فیما یتعلق بأنشطته الاقتصادية. وقد اتخذ المفھوم شكلًا أوسع بإضفاء الأبعاد الأخلاقية عليه، حیث أضاف مفكرو الليبرالية إلى المفھوم الحقوق الأساسية للإنسان وحمایة الأقلیات، وحماية الحریات وقبول الاختلاف بوصفها محددات ترفع مكانة المجتمع المدني وتميّزه عن غیره من التنظيمات الاجتماعية [5] . أما عند ماركس، فقد أكَّد على إمكانية اعتبار المجتمع المدني إحدى الآليات التي تمكن من خلالھا تقویة دور الدولة، حیث تعتمد تلك الآلیات على مجموعة من المرتكزات، أبرزھا أن ھناك استقلالًا نسبیًا للدولة عن المجتمع، وأن للدولة أداة وقيادة للطبقة المسيطرة اقتصادیًا في المجتمع نظرًا إلى أن الدولة تستمد قدرًا كبیرًا من قوّتھا من المجتمع ذاته، فالمجتمع المدني عند ماركس أوسع من الدولة وله امتدادات خارجھا، كما أنه المسؤول عن إقامة الدولة في مرحلة معینة من تطور القوى الإنتاجية [6] . وفي قراءته النقدیة للفكر الماركسي، وجد غرامشي في المجتمع المدني وظیفة جدیدة ھي “الھیمنة”، وهي تُؤدَّى بواسطة المثقفین. لهذا، یرى أن المجتمع المدني عبارة عن تركیب متشابك ومعقد ومتسع، یلتقي فیه نسیج وخلیط كبیر جدًا من التنظیمات الأیدیولوجیة ضمن المؤسسات الاجتماعیة، وھو بمؤسساته لیس منفصلًا عن المجتمع السیاسي، بل ھو في علاقة جدلیة معه تتخذ أشكالًا مختلفة بحسب طبیعة الصراع وطبیعة السلطة في كل مجتمع من المجتمعات [7] . إن ھذا التطور لمفهوم المجتمع المدني یؤكِّد عمقه التاریخي في الفلسفة السیاسیة والفكر الاجتماعي. ومن خلال استعراض آراء المفكرین والفلاسفة، تبرز لنا سیاقات مختلفة واحتیاجات متجدّدة وعناصر متعدّدة تجعل من عملیة التعریف الدقیق لمفھوم المجتمع المدني صعبة وغیر متفق علیھا. وتكمن تلك الصعوبة في الخلط بینه وبین الدولة باعتبارها سلطة حاكمة في المجتمع. فغالبًا ما یُستخدم المفھوم كردیف لسلطة الدولة، وأحیانًا كداعم ومساند لھا. أما الاستخدام المعاصر لمفهوم المجتمع المدني، فقد مرَّ بثلاث مراحل رئيسة: الأولى هي مرحلة الانفتاح على المجتمع المدني من جانب الأحزاب والقوى السياسية بهدف ضخ دماء جديدة في السياسة وإضفاء طابع شعبي عليها. وقد تمثل ذلك بإدخال عناصر ومسؤولين في حركات إنسانية وتنظيمات اجتماعية خيرية في التشكيلات الوزارية على سبيل تقريب السياسة من الفئات النشِطة في المجتمع ومن الجمهور الواسع الذي عفّ عنها في الوقت نفسه. أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ومشاركة في تحقيق كثير من المهمات التي تهمّ هذه الأخيرة بالتراجع عنها. وهذا المفهوم يتوافق مع انتشار مفهوم العولمة والانتقال نحو مجتمع يحكم نفسه بنفسه. ويتحمل هو نفسه مسؤولية إدارة معظم شؤونه الأساسية. وقد استخدمت الدول الديمقراطية مفهوم المجتمع المدني في هذه الحالة للتغطية على عجزها المتزايد عن الإيفاء بالوعود التي كانت قطعتها على نفسها، وتبرير الانسحاب من ميادين نشاط بقيت لمدة طويلة مرتبطة بها لكنها أصبحت مكلفة، ولا يتفق الالتزام بالاستمرار في تلبيتها على حساب الدولة مع متطلبات المنافسة التجارية الكبرى التي يبعثها الاندراج في سوق عالمية واحدة والتنافس على التخفيض الأقصى لتكاليف الإنتاج. أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة طفرة المجتمع المدني وتحوّله إلى قطب قائم بذاته ومركز لقيادة وسلطة اجتماعية على مستوى التنظيم العالمي بشكل خاص في مواجهة القطب الذي تمثّله الدولة أو الدول المتآلفة في إطار سياسات العولمة والنازعة إلى الخضوع بشكل أكبر في منطق عملها للحسابات التجارية والاقتصادية. وشيئا فشيئا يتكون في موازاة هذا القطب الدولي والقيادة الرسمية للعالم تآلف المنظمات غير الحكومية والاجتماعية التي تتصدى لهذه الحسابات الاقتصادية والتجارية من منطلق إعطاء الأولويات للحسابات الاجتماعية. ولتأكيد قيم العدالة والمساواة بين الكتل البشرية. وفي هذه الحالة، يطمح المجتمع المدني إلى أن يكون أداة نظرية لبلورة سياسة عالمية، ومن ثم وطنية بديلة أيضًا تستند إلى مجموعة من القيم والمعايير التي تنزع السوق الرأسمالي إلى تدميرها وتجاوزها. لعلّ الحقيقة التاريخية التي تميّز مفهوم المجتمع المدني تتجلى في سياقه التاريخي الغربي في ظل النموذج الليبرالي الأوروبي، هذا ما أدى بالعديد من المفكرين العرب إلى كثير من التأثر بها، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والتاريخية التي نشأ فيها المفهوم في المجتمع العربي، كما أن العديد من المفكرين المعاصرين يموقع المجتمع المدني في الوسط بين الدولة والأسرة [8] ، ويُعدّ المجتمع المدني عالمًا ذا علاقة وسطية بين الحكومة والعائلة تشغلها مؤسسات منفصلة عن الحكومة، وتتمتع باستقلالية في علاقتها معها، وتتشكل بشكل تطوعي من أعضاء في المجتمع لحماية أو زيادة اهتماماتهم أو قيمهم. في حين أن مفهوم الديمقراطية التشاركية هو شكل من أشكال التدبير المشترك للشأن العام المحلي، يتأسَّس على تقوية مشاركة السكان في اتخاذ القرار السياسي، ويشير إلى نموذج سياسي بديل. كما يستهدف زيادة انخراط ومشاركة المواطنين في النقاش العمومي وفي اتخاذ القرار السياسي، بمعنى عندما يُستَدعى الأفراد للقيام باستشارات كبرى تهمّ مشاريع محلية أو قرارات عمومية تعنيهم بشكل مباشر، وذلك لإشراكهم في اتخاذ القرارات مع التحمل الجماعي للمسؤوليات المترتبة على ذلك، وتستهدف الديمقراطية التشاركية دمقرطة الديمقراطية التمثيلية التي ظهر جليًا بعض عيوبها لتعزيز دور المواطن.

2. المجتمع المدني العربي

أما فيما يتعلق بالأقطار العربية، فإن مفهوم المجتمع المدني يتأكد تجاه ظاهرة ثابتة وهي: غرابة الدولة وطابعها الخارجي، فالإحالة إلى المجتمع المدني تسعى إلى إعادة تأسيس شرعية الدولة [9] . وإذا كانت تجليات المجتمع المدني متعددة ومتنوعة، ويحمل كلٌ منها خصائص المجتمع الذي انبثق منه، والمكان والزمان اللذين وُجد فيهما، فإنها لا تخلو من عناصر مشتركة بينها، يعيد إنتاجها العقل الإنساني الكوني في أماكن مختلفة وعصور مغايرة، ويطبعها كل شعب بطابعه الخاص انطلاقًا من هويته المتميزة [10] . لقد حاول عديد من الباحثين العرب تأصيل المفهوم من خلال البحث عن جذوره الأولى في التاريخ العربي، حيث قاموا بتصنيف أشكال وتكوينات مجتمعية قديمة بوصفها منظمات وكيانات مجتمع مدني شريطة النظر إليها في سياقها التاريخي [11] . وهذا ما أشار إليه الباحث الطاهر لبيب بوجود مجتمع مدني عربي عرفه التاريخ العربي الإسلامي، حيث يعترف بتاريخية المجتمع المدني العربي منطلقًا من فكرة مفادها أن لا مجتمع يخلو من مجتمع مدني، مع تكييف هذا المجتمع مع خصوصية المجتمع ككل، “إذ لكل مجتمع مجتمعه المدني بشكل من الأشكال [12] . وعلى الرغم من أن تاريخ الدول العربية يتميّز بنبرة تسلطية منذ الاستقلال، فإن هذه الطبيعة التسلطية لم تمنع بروز البذور الجنينية للمجتمع المدني الحديث، حيث أن بعض المؤسسات المدنية الجديدة تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد نمت في فترة ما بين الحربين العالميتين [13] . إن النقاش الذي صاحب المجتمع المدني العربي تم تداوله عربيًا ببعده السياسي بالدرجة الأولى كسلاح لمقاومة الدولة الاستبدادية الشمولية. ومن هنا ثمة غياب لمحاولات جدية لدراسة المفهوم معرفيًا ومحاولة تجذيره في التربة العربية. ومادام قد انتشر كسلاح سياسي لمقاومة الحكم المطلق، فلا غرابة أن تتحمس له القوى الديمقراطية محاوِلةً تضمين محتوى يخدم أهدافها. ولابد من الاعتراف بأنه في الأقطار العربية يضفي كل فاعل سياسي على المجتمع طابعًا خاصًا [14] . إن الحمولة السياسية في توظيف مفهوم المجتمع المدني هي التي جعلت العديد من الباحثين يَعدّ أن خطاب المجتمع المدني في الفكر السياسي العربي الراهن يُعيد تجديد عقائدية الحداثة في سياق تحويل مفهوم المجتمع إلى عقائدية اجتماعية حديثة مناهضة للعقائدية الإسلامية [15] . يتبين مما تقدم أن المجتمع المدني العربي عرف العديد من العوائق التي صاحبت تطوره، إذ يتمثّل العائق الأول في مرجعية المجتمع المدني في الفكر العربي المعاصر، والثاني في الدول العربية التسلطية، أما الثالث في خصوصية المجتمع العربي التقليدي، في حين أن العائق الرابع يكمن في عدم وضوح العلاقة التي تربط المنظمات غير الحكومية بالدولة. وللإشارة، فإنه وبعد خوضنا في التيارات الفكرية التي واكبت تطور المجتمع المدني، لابد من الحديث عن أسباب ظهور مفهوم المجتمع المدني في الوطن العربي، من خلال النمو الكمّي في عدد المنظمات غير الحكومية العربية، من 20 ألف في منتصف الستينيات إلى حوالي ألف في أواخر ثمانينيات القرن الماضي [16] .

2. 1. العوامل التي أنتجت المجتمع المدني عربيًا

اكتسب المجتمع المدني عربيًا مصطلحات عديدة واكبت تطوره خصوصًا في أوروبا وأمريكا، مع التسليم بمعطى الخصوصية وهامش الاختلاف. ويتضح أن الإجماع الصريح جاء في سياق الإقرار باختلاف الشروط التاريخية والفكرية والسياسية والاقتصادية التي أنتجت المجتمع المدني في الغرب. فهناك من ربطه بفشل النموذج القائم على دولة الحزب الوحيد، ودولة “الضباط الأحرار” ودولة الملكيات المطلقة والرئاسات القبلية والفردية. من هنا نجد أن مضمون المجتمع المدني عندنا مرتبط بتصفية “مجتمع العسكر” و”مجتمع القبيلة” و”مجتمع الحزب الرائد القائد” لفسح المجال لقيام مجتمع المؤسسات القائمة على التعبير الديمقراطي الحرّ [17] . وهناك من ربط ظهور المجتمع المدني عربيًا بفشل نماذج الحكم القائمة وخاصة العسكرية منها، والتي فشلت في تحقيق ما وعدت به (تحرير فلسطين، تحقيق العدالة الاجتماعية، الديمقراطية…الخ). وعليهـ لا جدوى من الاستمرار في مهادنة الدولة والتسامح معها في قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية لبناء مجتمع مدني مستقل عن هيمنة الدولة [18] . ولمزيد من التوضيح لابد أن نبحث عن الأسباب التي أنتجت المجتمع المدني عربيًا وساهمت في بلورته وتطوره.

2. 1.1. العوامل السياسية

تزامن انتشار مفهوم المجتمع المدني بوصفه تعبيرًا عن المعارضة من جانب السلطة السياسية في الوطن العربي مع البحث عن البديل للدولة التسلطية العربية، حيث ساد نقاش غربي منذ ثمانينيات القرن العشرين، بدءًا من الأزمة البولندية حركة التضامن [19] ، حول المجتمع المدني في مواجهة الدولة الشمولية، واستُحضِر هذا النقاش عربيًا بعدما استعصى الوضع على تقديم بديل سياسي ديمقراطي. وذلك نتيجة الإخفاقات على المستوى القومي العربي، ومسلسل الهزائم والانكسارات العربية، وحرب الخليج الثانية، بالإضافة إلى التطورات الدولية التي حدثت مع نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي التي شملت انهيار الاتحاد السوفياتي، والمنظومة الاشتراكية ككتلة وحلف، وما خلف ذلك من اختلالات في طبيعة وتركيب المجتمع والنظام الدولي، وتفكك أوروبا الشرقية في دول عديدة بُنيت على أسس ديمقراطية [20] . فأثّرت هذه الأحداث في ظهور هذا المفهوم في الساحة العربية.

2. 1. 2. تراجع دور الدولة في التنمية

أثَّر خضوع الدولة العربية لسياسات المؤسسات الدولية الرأسمالية (صندوق النقد والبنك الدولي) للحصول على مساعداتها لإعادة جدولة الدين الخارجي، ومحاولة إخراجها من الأزمة الاقتصادية، وتخلي الدولة عن مجالات الإنتاج والخدمات في ارتفاع أسعار السلع، وظهور المشكلات الاجتماعية مثل الفقر والبطالة التي تؤدي الى تزايد الاحتياجات بالنسبة للطبقتين المتوسطة والدنيا، المتمثلة في الحاجة إلى الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، فظهرت الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية لسدّ الفراغ والنقص الذي أحدثته الدولة بعد انسحابها [21] .

2. 1. 3. المطالبة بالتعددية السياسية والثقافية

كان لاتساع نطاق التعليم، وازدياد عدد الأكاديميين والمثقفين دور أساسي في المطالبة بالتعددية السياسية والثقافية، وحرية التعبير، وحق المواطنين في إقامة تنظيماتهم السياسية والنقابية والاجتماعية والثقافية [22] . لذلك استجابت الدولة لإنشاء هذه التنظيمات طالما أنها لا تمسّ بشرعية وجودها. من خلال عرض الأسباب التي أنتجت المجتمع المدني العربي، يتبيّن أن هناك مَن رَبطَ الحاجة إلى المجتمع المدني عربيًا بفشل النموذج المجتمعي القائم على دولة الحزب الوحيد، ودولة الضباط الأحرار، ودولة الملكيات المطلقة، والرئاسات القبلية والفردية. من هنا سنجد أن مضمون المجتمع المدني العربي مرتبط بتصفية “مجتمع العسكر” و”مجتمع القبيلة” و”مجتمع الحزب الرائد القائد”، وبالتالي بفسح المجال لقيام مجتمع المؤسسات القائمة على التعبير الديمقراطي الحر” [23] ، ومن ناحية أخرى، وفي سياق الوطن العربي، نشير أنه من الناحية التاريخية بأن مرحلة الاستعمار أتاحت في بعض الدول: لبنان، تونس، سوريا، المغرب، الجزائر، فرصة ظهور ملامح مجتمع مدني كفضاء سياسي للمواجهة  [24] . وبعد سنوات من حصول العديد من الدول على الاستقلال، صيغَ “عقد اجتماعي” صريح أو ضمني ألزم الدولة بالنهوض بالتنمية، وضمان “العدالة الاجتماعية، وترسيخ دعائم الاستقلال السياسي، لتحقيق طموحات قومية أخرى تتمثل في الوحدة العربية، وتحرير فلسطين” [25] .

لقد عُدَّ مفهوم الدولة انعتاقًا من الاستعمار، في حين أن الدولة بالنسبة لهؤلاء المثقفين تعني الحرية والعدالة والتقدم [26] . إلا أن الهزائم التي عرفتها تلك المشاريع التحررية والتجارب التنموية أعادت النقاش إلى مستواه الحقيقي. ومن ناحية ثانية، فإن الاهتمام بمفهوم المجتمع المدني جاء نتيجة طبيعية لمسار تطور الفكر السياسي العربي الذي بدأ ينفتح أكثر على حركة تداول الأفكار والنظريات والمفاهيم العالمية [27] . فهل هذه العوامل والأسباب التي ساهمت في إنتاج شروط المجتمع المدني عربيًا هي نفسها التي أدت إلى بلورة المجتمع المدني المغربي، مع مراعاة الخصوصيات العامة التي تميز المجتمع المدني المغربي، أم أن المجتمع المدني المغربي يحتفظ لنفسه بمجال للتمايز من داخل إطار المجال العربي العام؟

3. طبيعة الأنظمة السياسية العربية

إن النظم السياسية العربية تمثل مجموعة متمايزة في إطار الدول النامية، يطلق عليها اسم الأمة العربية أو الوطن العربي. ويتضمن ما يلي:

أ. إن الأمة العربية هي ذاك الكيان البشري الذي وضعت لبناته الأولى الهجرات المتتالية للعرب من شبه الجزيرة العربية إلى المناطق المحيطة بها. وذلك نتيجة تغيُّر الظروف المناخية تغيُّرًا استهدف شبه الجزيرة بجفاف شديد. ولما جاء الفتح الإسلامي أعطى موجات الهجرة دفعة قوية. وإن لم تكن الهجرة وحدها سببًا في التجانس، ولا كانت هي العامل الأهم في ظهور الأمة العربية، إنما الذي ساعد على ذلك هو التزاوج بين الوافدين وسكان البلاد الأصليين، ما أدى إلى امتزاجهم في اللغة والدين والعادات والتقاليد، لنصير في نهاية الأمر إزاء كيان واضح القسمات الاجتماعية والثقافية. ب. إن الدول العربية بحدودها الراهنة هي نتاج مجموعة من التطورات التي تعرضت لها المنطقة، والتي كان من بينها تكالب القوى الاستعمارية على اقتطاع بعض إيالات الإمبراطورية العثمانية، والتعامل مع حدودها تارة بالحذف وتارة أخرى بالإضافة، مع إخضاعها لصور مختلفة من التحكم والسيطرة. ولقد مثّلت هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ظرفًا مثاليَا لتجسيد تلك الطموحات الاستعمارية وبلورتها.

ج. إن كون الأمة العربية لها تركيبتها الثقافية وتطوُّرها التاريخي الخاص جعل لها طابعًا قوميًا تحرص عليه دولها من الناحية الرسمية، حتى وإن تخلّت عنه أحيانًا من الناحية الفعلية.

لهذا، فإن النظم السياسية العربية تتمتع بطابع مزدوج. فهي من ناحية تنتمي في عمومها إلى الدول النامية أو دول الجنوب، وتشاطرها بعضًا من مشكلاتها السياسية (كضعف المؤسسات ونقص المشاركة). ومن ناحية أخرى هي ذات خصوصية معينة مصدرها علاقة ”العروبة” التي تشملها والتي تجعل منها مجموعة متميزة في التفاعلات السياسية التي تجري بينها. فعلى سبيل المثال، وبسبب العروبة، ظهرت دعوات فكرية تدعو إلى الوحدة العربية، وقامت أحزاب وحركات سياسية تبنّت تلك الدعوات، وأنشأت فروعًا لها في الدول العربية المختلفة (حزب البعث، حركة القوميين العرب). كما أن الأيديولوجيات والأفكار تنساب بين الدول العربية من دون عوائق أو حواجز، كما تتبادل هذه الدول التأثيرات السياسية فيما بينها. أما من الناحية الفعلية، فيصعب تصنيف النظم السياسية العربية. إذ يمكن أن تتعدد محاولات التصنيف بقدر تعدد المعايير وتنوعها، فليس هناك معيار جامع مانع يمكن تصنيف النظم العربية على أساسه، فلو تصوّرنا مثلًا معيارًا كمعيار شكل رئاسة الدولة، وميّزنا في داخله بين نظم ملكية ونظم جمهورية، لوجدنا في إطار النظام الملكي تطبيقات عديدة ومتنوعة، من مشيخة إلى سلطنة إلى إمارة إلى مملكة، ولوجدنا فيما بين التطبيقات اختلافات تتصل بكيفية وصول الأسرة الحاكمة إلى سدة الحكم، وطبيعة تفاعلها مع المواطنين ومع القوى السياسية الأخرى في الدولة. ومن هنا، تُصنَّف النظم السياسية العربية على النحو التالي:

1. معيار شكل رئاسة الدولة

يُستخدم هذا المعيار في الأساس للتمييز بين النظامين الملكي والجمهوري. فيما يتعلق بالنظام الملكي، فإنه يقوم على أساس توارث السلطة داخل الأسرة الحاكمة، ويتّسم هذا النظام بأنه يحقِّق بعض المزايا كالحدّ من الصراع على السلطة، ووضع قواعد مستقرة لعماية الخلافة السياسية وتوفير الإعداد المسبق للمرشحين للوصول إلى سدة الحكم. إلا أنه بالمقابل يتنافى مع مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص، وبخاصة في النظام الملكي التي يمارس فيها الملك الحكم فعلا، ولا يقتصر دوره على أداء بعض المهمات الشرفية. بمعنى عندما يملك الملك ويحكم في الوقت نفسه. أما النظام الجمهوري، فإنه يعتمد على الانتخاب كمعيار لتولي السلطة. وهذا ما يعني أن تكون السلطة متداولة بين أبناء مختلف الفئات حين تتوافر بينهم الشروط اللازمة لتولي المنصب، وأن يكون بالتالي مبدأ التغيير واردًا إذا زالت هذه الشروط أو تأثّرت. وفي حدود هذا التصور، يمكن أن يُفاضَل بين المرشحين عن طريق انتخابات عامة مباشرة، أو عن طريق البرلمان بشكل غير مباشر، أو عن طريق الجمع بين الأسلوبين معًا، بحيث ينتخب البرلمان أحد الأشخاص ثم يجعل من التصويت على رئاسته موضوعًا لاستفتاء عام.

2. معيار النظام الملكي

وبالتطبيق على النظم العربية، نجد أن هناك ثماني دول مازالت تعبر عن خصائص النظام الملكي (السعودية، الكويت، قطر، البحرين، عمان، الإمارات، الأردن، والمغرب). ويُلاحظ أن هذا العدد يُعَدُّ كبيرًا نسبيًا، وبخاصة مع انحصار النظم الملكية على مستوى العالم، بل وعلى مستوى المنطقة العربية ذاتها، حيث شهدت الفترة ما بين 1950 و1970 سقوط خمسة نظم ملكية في كل من مصر، وتونس، والعراق، واليمن، وليبيا. وتُرجِع أغلب المصادر [28]  ارتفاع نسبة النظم الملكية في المنطقة العربية إلى كون تلك النظم قد استفادت من واقع الأمر من مجموعة من العوامل المواتية، أهمها أنها (وباستثناء كل من الأردن والمغرب) تعتمد في اقتصادها على النفط وتتمتع من ثم بفوائض مالية تؤمّن بها دعم مواطنيها، ولاسيما مع انحسار المدّ القومي الذي شهدته المنطقة في عقدي الخمسينيات والستينيات، ومنها تعلمها من تجارب النظم الملكية السابقة وسعيها إلى تطعيم المصادر التقليدية لشرعيتها بمصادر أخرى مثل العقلانية القانونية. وتشترك النظم الملكية العربية في عدة خصائص، أبرزها أن الوراثة فيها تسير في خط الأبوة وليس الأمومة. بمعنى أن صلة النسب تتحدد عن طريق الأب. كما أن تلك الوراثة تنحصر في خط الذكور وليس الإناث. والملاحظ أن من يقع عليه الاختيار لتولّي الملك لابد أن يحظى بمبايعة الأسرة المالكة له بالولاء أولًا، كما تشترك الملكيات العربية جميعها في غلبة الطابع العشائري القبلي عليها، وفي أنها وثيقة الصلة بالغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها، باستثناء المغرب، تتميز بالتجاور الجغرافي، وتقع في الجناح الشرقي للمنطقة العربية. بيد أن المُلاحَظ أن الملكيات العربية تختلف في بعض الخصائص الأخرى، من بينها اختلاف خط الوراثة من نظام إلى آخر. فهو في السعودية من الأخ إلى الأخ في أبناء الملك عبد العزيز آل سعود. وهو في المغرب، وقطر، والبحرين، وسلطنة عمان، من الأب إلى الابن، وهو في الكويت دائري تناوبي، وهو في الأردن يجمع بين وراثة الابن لأبيه (الملك عبد الله فالملك طلال فالملك حسين) والأخ لأخيه (الأمير الحسن ولي عهد الأردن شقيق الملك حسين حتى عام 1999 عندما انتقلت ولاية العهد إلى الأمير عبد الله بن الحسين الذي أصبح ملكا بعد وفاة أبيه، وأصبح شقيقه الأمير حمزة وليًا للعهد). كما أن حجم الأسرة الحاكمة يختلف من حالة لأخرى، وذلك بدءًا من أقصى درجات التعقيد والتشعُّب كما في السعودية، وانتهاءً بأكثر درجات الوضوح والتحديد كما في الأردن والمغرب [29] . وفيما يتصل بالنظم الجمهورية التي تنتظم فيها بقية الدول العربية، فلقد اشتركت بدورها في خاصية مهمة وهي تبنيها لأيديولوجيات اشتراكية بعد حصولها على الاستقلال، فلقد أعلت هذه النظم قيمتي المساواة والعدل الاجتماعي على قيمة الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي. بيد أن الملاحظة محل الاعتبار هي أن الدول العربية التي استندت إلى تنظيم سياسي واحد قد تفاوتت في مراحل التحول إليه. فقد شهدت بعض الدول العربية مرحلة من الحكم الليبرالي أعقبها تدخل عسكري ثم التحول إلى نظام الحزب الواحد بعد الاستقلال مباشرة كالجزائر واليمن الجنوبي (قبل الوحدة). ويُستثنى من الحكم السابق لبنان الذي أقام نظامه السياسي منذ الاستقلال على أساس التعددية السياسية. كما اشتركت تلك النظم في سياساتها الخارجية في نقطة معاداة الأحلاف، ومناهضة الاستعمار، والإلحاح على مطلب الوحدة العربية وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. لكن على صعيد آخر، اختلفت النظم الجمهورية في ما بينها من حيث نمط انتقال السلطة وتداولها. بمعنى أن هناك مجموعة من الدول اعتمدت في الأساس على نقل السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وقد تركزت الانقلابات أساسًا في الفترة التالية مباشرة للاستقلال، وذلك بعد أن فرضت حالة الفوضى والاضطرابات التي شهدتها البلاد ضرورة الاستعانة بالجيش لمنع تدهور الأوضاع. فنجد مثلا أن سوريا شهدت في عام 1948 وحده ثلاث انقلابات عسكرية قادها كل من حسني الزعيم، وسامي الحناوي، وأديب الشيشكلي على التوالي. كما شهدت الفترة التي تلتها ستة انقلابات عسكرية [30] . وبهذا يمكن القول إن سوريا كانت على رأس البلدان من حيث عدم الاستقرار السياسي. وشهدت ليبيا محاولتين انقلابيتين بعد ثورة الفاتح من أيلول/سبتمبر. ففي عام 1969 وبعد أقل من ثلاثة شهور على إعلان العقيد معمر القذافي مبادئ الثورة الثلاث: الحرية، والاشتراكية، والوحدة، وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة الأولى. وفي عام 1970، وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة الثانية لإعادة الملكية إلى ليبيا [31] . وفي مقابل ذلك كانت هناك مجموعة أخرى من الدول لم تعرف نمطًا واحدًا أو ثابتًا لتداول السلطة، وإنما عرفت خلال تطورها السياسي عدة أنماط مختلفة. ويندرج تحت هذه الفئة النموذجان المصري والجزائري. فلقد شهدت مصر خلال الفترة من عام 1952 وحتى عام 1999 نمطين أساسيين لتداول السلطة هما التدخل العسكري الذي أطاح بالنظام الملكي، والاستفتاء الذي جاء بالرئيس أنور السادات ومن بعده الرئيس حسني مبارك إلى السلطة. كما تقدم الجزائر نموذجًا خاصًا لانتقال السلطة في النظم العربية. ففي حين تعاقب على رئاستها ثلاثة رؤساء منذ الاستقلال في 1962 وحتى 1991، شهدت على مدى ثماني سنوات فحسب تعاقب أربعة أشخاص على رئاسة الدولة (الشادلي بن جديد، محمد بوضياف، علي كافي، الأمين زروال). ومن الممكن توجيه انتقاد أساسي لتصنيف النظم السياسية العربية من منظور شكل رئاسة الدولة. وذلك أن الوراثة هي النمط المعتاد لتداول السلطة في النظم الملكية لم يمنع استخدام القوة لتغيير شخص الحاكم وذلك نتيجة خلافات أو صراعات داخل الأسرة الحاكمة. وبالمثل فإن كون الانتخاب المباشر أو غير المباشر يُعدّ هو الأساس لتداول السلطة في النظم الجمهورية، فإن ذلك لم يحول دون وصول كثير من الحكام إلى مناصبهم عن طريق الانقلابات العسكرية. وعلى صعيد آخر، ليس ثمة ما يضمن أن يكون النظام الجمهوري أكثر احترامًا للحريات وحقوق الإنسان من النظام الملكي، بل إنه في الوقت الذي قد تشهد فيه بعض الملكيات قيام هيئات برلمانية، فإن بعض الجمهوريات لا تتردد في كثير من الأحيان في خرق الشرعية الدستورية [32] .

إن التمييز بين النظامين الملكي والجمهوري في الواقع العربي من حيث الفارق المفترض بينهما أصبح هو سند السلطة السياسية، على أساس أن النظام الجمهوري (خلافًا للنظام الملكي) يعتمد على الانتخابات. لكن حتى فيما يخص هذا الفارق، فقد تضاءلت أهميته على ضوء تحول الممارسة العربية في النظم الجمهورية من الانتخاب إلى التعيين (من خلال اختيار الرئيس النائب الذي يخلفه)، الأمر الذي جعل البعض يتحدث عن ”جمهوريات ملكية”، في تعبير عن غياب أطر مؤسسية مستقرة لتداول السلطة السياسية.

4. علاقة المجتمع العربي بالمؤسسة السياسية العربية

تتباين التنظيمات المجتمعية من حيث خصائصها القائمة على مؤشرات الرقي والتطور أو التخلف وكذا من حيث تأثيرها وطبيعة علاقتها بالدولة، وفيما يلي سنحاول الوقوف عند أهم هذه الخصائص وطبيعتها.

4. 1. إشكالية التلازم أو الانفصال

حتى حدود القرون الوسطى في المجتمع الغربي والقرن 19 في العالم العربي، قامت الدولة القديمة على التوحُّد والانصهار بين الدولة السياسية والمجتمع المدني اللذين لم ينفصلا بعد. ولعلّ من أسباب ذلك ما هو سياسي وثقافي وديني من جهة، ورفض التمييز بين السلطة والمجتمع المدني، نظرًا إلى أن مشروعية سلطتها متأتية من مزجها بين العام والخاص. وهناك أيضًا سبب اقتصادي يرجع إلى الربط بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية من جهة ثانية. وفي عصر النهضة استُخدم مفهوم “المجتمع المدني” ليدلّ على المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة، والتي قامت على أساس عدل اجتماعي بين الأفراد والدولة، ما يعني أن هذا المفهوم ارتبط في نشأته وتطوره بميلاد الدولة الحديثة وتطورها. كما أنه من غير المنطقي التفكير في المجتمع المدني مع إقصاء وإلغاء تأمين الدولة، وإنما هما مجالان مترابطان تمامًا، وإن كان يبدو للوهلة الأولى تباعد بينهما. فالملاحظ أنه لا يمكن الفصل بين المجتمع والدولة، أو عزل أحدهما عن الآخر، إذ أن الأول على الأقل يتطلب إطارًا سياسيًا وقانونيًا يمنح متطلباته الأساسية المعيارية الصيغة المؤسسية التي تتمثل في الحقوق والحرية وحكم القانون [33] . وسرعان ما أصبح هذا الارتباط يتفكك لكون الدولة أصبحت تتميز عن المجتمع المدني، حيث أصبح كل كيان قائم بذاته. وتعود البدايات الأولى لهذا التمايز إلى بداية القرن الثامن عشر، حيث نجدها متباينة في ثروة الأمم [34] . وبناء على هذا، فالمجتمع المدني يسبق الدولة من الوجهة المنطقية، ويتمحور حول السوق وآلياتها الطبيعية الناظمة، في حين أن الدولة نتاج المجتمع المدني، وأن كل مجتمع مدني محدد ينتج دولته المميزة كما يرى مونتيسكيو. وبالتالي فإن تنوع النظم السياسية ناتج عن تنوع المجتمع. أما هيغل فيرى أنه لابد من إنقاذ المجتمع المدني من نفسه، فالغاية في الحياة الأخلاقية هي التي تنظم المجتمع المدني وتضبطه، ووفقًا لذلك يكون حياد الدولة في هذه الحالة واجب، لأنها هي التي تفرض الشمولية في مقابل خصوصية المجتمع المدني [35] . فهو بذلك يركز على دولة موحدة لبناء أمة، وهنا نفهم نزعه القداسة عن المجتمع المدني، حيث أصبحت الدولة في نظره المجسِّدة للحرية والعقل [36] . ويقترح أن تكون الدولة هي الإطار القوي القادر على تحقيق هذه الغاية وإلا ساد الصراع والتمزق لأن القيمة التي يملكها الإنسان مستمدة من الدولة، والأفراد مجرد نتاج لها، وبذلك سخر هيغل من دولة الحاجة والتعاقد والإنتاج، منطلقًا من أن الدولة هي التي تحقق المجتمع المدني، ورافضًا التعاقد الذي يفيد أن المجتمع المدني يؤسِّس الدولة. وخلافًا لذلك، انتقد ماركس الرؤية الدولتية للمجتمع المدني، واعتبر أن الدولة ليست السبب المنشئ للمجتمع المدني، بل العكس أن المجتمع المدني هو القاعدة التي تحدد طبيعة البنية الفوقية. من هنا، أصبحت الدولة تجسد نظام العقل [37] ، بوصفه الأساس الواقعي للدولة ولكونه يشكل مجالًا للصراع الطبقي، وهو بذلك يتطابق عنده مع مفهوم البنية التحتية.

عبّر الفكر الماركسي عن اندثار المجتمع المدني نفسه مع تفكك الدولة الحديثة وهو توءمها السياسي، من خلال ثوابته القائمة على زوال الدولة بحصول ثورة البروليتارية، كنتيجة طبيعية لإنهاء الصراع الطبقي، ما يؤدي إلى انتفاء الصراع على المصالح، بمعنى ذوبان الدولة في المجتمع، وما يؤدي إلى زوال الحاجة إلى المجتمع المدني [38] . في حين أن غرامشي يرى أن المجتمع المدني ليس مجالًا للمنافسة الاقتصادية كما أبرزه كل من ماركس وهيغل باعتباره مجالا للتنافس الإيديولوجي، الشيء الذي يؤكد وعيه بخطورة مؤسسات الدولة الإيديولوجية التي تضيف إلى آليات القمع/الجيش، الشرطة، القوانين، طرائق الإقناع والإعلام والتعليم…الخ. وبذلك يكون المجتمع المدني مجالًا سياسيًا أيضًا، وليس مقتصرًا على الاقتصاد فحسب. فهو ذلك المجال الذي تهيكله المؤسسات، وتتكون فيه الإيديولوجيات المختلفة التي تشدّ الجسد الاجتماعي بعضه إلى بعض، ما يجعل علاقات المجتمع المدني بالدولة تأخذ معانيًا جديدة ومتسّعة مع المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي. على الرغم من ذلك، يبدو أن المجتمع المدني، على ضعف مجال تحركه واشتغاله، يلتحم بالأدوار الكبرى التي تلعبها الدولة التي تسعى لتقوية نفوذها وفرض سيطرتها على مؤسسات المجتمع المدني، لأن في نظرها تقوية مركز المجتمع المدني يشكّل تنافسًا على مستوى الشرعية للدولة. فهي تسمى بذلك السلطة السياسية الساهرة على حفظ مؤسسات الدولة، وحماية حقوق الإنسان، وأمن الدولة الداخلي والخارجي، من خلال مضامين الوثيقة الدستورية والمواثيق الدولية، فالعلاقة الجدلية بين الدولة والمجتمع المدني يطبعها الصراع. إن فكرة الفصل بين المجتمع المدني والدولة كان التأكيد عليها يجري بتقديم طرفي المعادلة أحدهما على الآخر في رؤية هذا المفكر أو ذاك، أو هذه النظرية أو تلك، استجابةً لما يتطلبه الواقع. وما يُثار اليوم من ضرورة الفصل التام بين الدولة والمجتمع المدني ومقابلة إحداهما بالآخر ليس إلا أحد الأساطير الإيديولوجية للفكر السياسي الغربي، وهي واهية بالنسبة لتاريخ الرأسمالية في كل مرحلة من مراحلها [39] . وهذا ما يتجلى في استمرار الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال لا الحصر، في صناعة الرأي العام لخدمة سياساتها وتوظيفه وفق آليات للدفاع عن مصالحها. إن إشكالية علاقة الدولة بالمجتمع تأخذ أبعادًا أخرى في ظل الدولة التي استوردت مفهوم المجتمع المدني، والاختلافات السائدة بشأنه، والتي تتّسم بالتوتر والغموض والقطيعة في بعض الأحيان، وهذا المعطى يثير عدة تساؤلات من قبيل الحديث عن أسباب اختفاء مفهوم المجتمع المدني وأسباب إحيائه في مقدمات التداول المعاصر.

تأتي أهمية التداول المعاصر لمفهوم المجتمع المدني من كونه لا يربط قضية المجتمع المدني بمسألة الديمقراطية كعلاقة متلازمة على مستوى الانتقال فحسب، بل تتمثل في مناقشة طبيعة مفهوم الديمقراطية، وتأسيس لمبدأ التشارك في تدبير القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في حين ارتكز النقاش الحالي حول إحيائه حيث اكتسب أبعادًا جديدة وأدوارًا تشاركية. وللتذكير فقد ارتبط مفهوم المجتمع المدني في التداول المعاصر بالتحولات التي شهدها العالم غداة انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، وما رافق ذلك من تداعيات والتي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:

1. المقاربة الأولى: تقوم على أساس النظر إلى المجتمع المدني في التداول المعاصر بوصفه جزءًا من تجليات النظام العالمي، ومواكبًا للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

2. المقاربة الثانية: تقوم على أساس النظر إلى مفهوم المجتمع المدني في التداول المعاصر بوصفه جزءًا من عملية أوسع وهي النضال المشترك من أجل العدالة الدولية والسلام العالمي ومن خلال هذه المقاربة يقوم المجتمع المدني بدور محوري في عملية التحويل الديمقراطي في الداخل من خلال النضال الضروري لاستلهام ووضع استراتيجيات ورؤى جديدة للتنمية والتطوير. وتجسدت هذه الرؤية في أحداث 15 فبراير 2003، إذ تجلى الدور الذي لعبه المجتمع المدني من خلال المسيرات الحاشدة والمتزامنة في نحو 6000 مدينة وأكثر من 70 دولة في العالم، لمناهضة الحرب الأمريكية على العراق. إن توسُّع المجتمع المدني واستقلاليته يشيران إلى تنامي قدرة المجتمع وجماعاته على الاستمتاع بشكل عادل على أساس مبدأ المواطنة دون غيره، والتحرك بشكل مستقل عن الدولة وأجهزتها التي يتقلص دورها المهيمن. فلا جدل في أن مفهوم المجتمع المدني قد تطوّر مدلوله في التداول المعاصر، حيث مرّ بثلاث مراحل رئيسية: الأولى اتّسمت بالانفتاح على المجتمع المدني من جانب الأحزاب والقوى السياسية بهدف إدماج نخب جديدة في السياسة وفي جمعيات وتنظيمات، والمرحلة الثانية تمثّلت في التعامل مع المجتمع المدني بوصفه منظمات مستقلة موازية للدولة ومشاركة في تحقيق كثير من المهمات التي تهم هذه الأخية بالتراجع عنها، يتوافق هذا المفهوم مع تداول مفهوم العولمة والانتقال نحو مجتمع تسوده الديمقراطية، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة طفرة المجتمع المدني وتحوّله إلى قطب قائم بذاته ومركز لقيادة وسلطة اجتماعية على مستوى التنظيم العالمي بشكل خاص. إن التداول المعاصر لمفهوم المجتمع المدني نجد صداه في تعريف إدوارد شيل/ Edward Shils الذي عرّفه بأنه مجموعة مؤسسات اجتماعية متميزة ومستقلة عن باقي دوائر الانتماء بما فيها: العائلة والطبقة والجهة والدولة.

ــــ يخلق المجتمع المدني شبكة من العلاقات، بما في ذلك العلاقة مع الدولة مع الاحتفاظ بدرجة من الاستقلال عنها وعن غيرها [40] .

ثمة ثلاثة محدِّدات تلخّص مفهوم المجتمع المدني لدى إدوارد شيلEdward Shils:

1. المجتمع المدني يفعِّل نمطًا من العلاقات بينه وبين الدولة.

2. المجتمع المدني جزء من المجتمع، يحتوي على مؤسسات مستقلة متميزة عن العائلة والطبقة والمنطقة والدولة.

3. المجتمع المدني هو المجال الأكثر اتساعًا وشمولًا للعادات المدنية، والتي يمكن أن نطلق عليها أو نصفها بالتحضّر [41] . ومن الواضح أن اتجاهات تعريف المجتمع المدني تأثرت بالرؤية التقليدية الضيقة والتي تستند إلى وجهة النظر.

أبرز من حدد ذلك على النحو التالي هو مارك شميتر Marc Schmitter. ويعدّ شميتر Tocquevillian التوكفيلية

1 – يتمتع بالاستقلالية نسبيًا عن السلطات العامة ووحدات الإنتاج الخاصة، أي العائلات والمشروعات.

2 – قادر على اتخاذ أنشطة جماعية للتعبير والدفاع عن رغباته ومصالحه.

3 – لا يسعى إلى أن يحلّ محل أجهزة الدولة أو أن يقبل مسؤولية تولي مهمات الحكم بشكل عام.

4 – يقبل العمل في ظل قواعد محددة سلفًا وذات طبيعة مدنية وتؤكد على الاحترام المتبادل [42] .

كما أن أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية في القاهرة سعد الدين إبراهيم يسير في الاتجاه نفسه حيث يعرّف المجتمع المدني بأنه “كل التنظيمات غير الحكومية وغير الإرثية التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة وتنشأ بالإرادة الحرة لأصحابها من أجل قضية أو مصلحة أو للتعبير عن مشاعر جماعية ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإرادة السلمية للتنوع والخلاف” [43] . يقوم المجتمع المدني بأدوار متعددة حسب “النيوتوكفيلية” التي تركز على دور التنشئة، فجمعيات المجتمع المدني تلعب أدوارًا مركزية لبناء المواطنة والتحفيز على استعمال مهاراتها وقدراتها [44] . إن ما يضمن قوة المجتمع المدني وقوة الدولة هي العلاقة الديمقراطية التي تؤطر الجانبين، فالمجتمع المدني لم يعد يلعب دور مقاومة الاستبداد، بل تحوَّل بفعل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى فاعل أساسي لتنمية الديمقراطية من خلال تداخل عدة عوامل منها التنشئة السياسية. وللإحاطة بالعلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية، سنتطرق إلى ذلك من خلال جانبين إلى المجال المؤسساتي لمساهمة المجتمع المدني في تنمية الديمقراطية (أولًا)، وإلى المجال القيمي لمساهمة المجتمع المدني في تنمية الديمقراطية (ثانيًا).

5. الوظيفة التشاركية للمجتمع المدني العربي في العمل السياسي

5. 1. المجال المؤسساتي لمساهمة المجتمع المدني العربي في التنمية

استأثرت علاقة المجتمع المدني ودوره في تنمية الديمقراطية باهتمام العديد من دارسي الديمقراطيات الجديدة خصوصًا الذين برزوا خلال العقد الماضي، حيث شدّدوا على أهمية المجتمع المدني القوي والنشيط من أجل ترسيخ دعائم الديمقراطية [45] . ذلك أن مسألة اتخاذ القرارات من جانب السلطات تقتصر عادة على مجموعات قيادية صغيرة، وهذه المجموعات تتشكل في هيئات إدارية حكومية أو اقتصادية تسترشد بالربح وتسود فيها قيم الفعالية، وهي قيم مصاغة عبر آليات معينة. من هنا فإن مبادئ الديمقراطية نادرًا ما تكون هي المعمول بها في هذه القطاعات التي تتجسّد فيها مسألة الديمقراطية في المشاركة [46] . يتّجه بعض المفكرين إلى إيراد الشروط التاريخية لنشوء فكرة المجتمع المدني في جملة من الأفكار المحورية والتي ترتبت تاريخيًا بحيث أعطت مفرزًا حداثيًا في العالم الغربي يدعي “المجتمع المدني” الذي يعدّ وجود شروط الديمقراطية تتمثل فيما يلي [47] :

1. التشديد على الفصل بين الدولة والمجتمع فصلًا مؤسساتيًا.

2. الوعي بالفرق بين آليات عمل الدولة وآليات عمل الاقتصاد كشرط متطور تاريخيًا مع الثورة الصناعية ونشوء البورجوازية. 3. تميز الفرد كمواطن وككائن حقوقي قائم بذاته في الدولة بغض النظر عن انتماءاته المختلفة.

4. التشديد على الفرق بين آليات العمل والأهداف والوظائف بين المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية.

5. رؤية الفرق بين التنظيمات المجتمعية المؤلفة _نظريًا على الأقل_ من مواطنين أحرار تآلفوا بشكل طوعي وبين البنى المجتمعية التي يولد الإنسان فيها.

6. التشديد على الفرق بين الديمقراطية التمثيلية في الدولة الليبرالية والديمقراطية المباشرة والمشاركة النشطة في اتخاذ القرار نظريًا على الأقل في الجمعيات الطوعية والمؤسسات المجتمعية الحديثة.

وأشارت العديد من الدراسات إلى أن “الديمقراطية الحديثة وجدت فقط باقتران مع المجتمع المدني باعتباره يشكل مجالًا مستقلًا عن مجال القوى السياسية، لقد كان المجتمع المدني شرطًا ضروريًا لوجود الأشكال والأنماط التمثيلية للحكم بما فيها الديمقراطية” [48] . لقد تطور مفهوم المجتمع المدني وارتباطه بالديمقراطية، وإنه يتطور بعد الانتقال من الدولة السلطوية إلى الدولة الديمقراطية، في حين أن هناك آخرين، ولاسيما رواد علم الاجتماع، يؤكدون على أن المجتمع المدني تطور قبل ذلك، بل أنه كان السبب الأساسي في الانتقال إلى النظام الديمقراطي [49] . ولعل المنظرين أودونيل O’donnell وشميتر Schmitter من خلال عملهما حول هذا الانتقال الديمقراطي، كان لهما دور بارز في تحرير الأنظمة السياسية السلطوية أو استعادة أو خلق الحقوق المدنية مثل حق التعبير والاجتماع والتجمهر، وحق التنظيم، فهذه الحقوق هي التي ساهمت بحسب الكاتبين في توسيع حقل الحريات قبل الحديث عن عملية الانتقال الديمقراطي [50] . تمثل إمكانية قبول ثقافة سياسية جديدة تدعم التحول الديمقراطي إحلالًا لنزعة البنية التوافقية في وعي ووجدان الأفراد ومن ثم مبدأ المشاركة الطبيعية للمجتمع محلّ التسلط والاحتكار والإلغاء. وبذلك فإن إعادة صياغة أسس ومرتكزات الثقافة السياسية السائدة، وتعميم نمط جديد من هذه الثقافة، لا ينال بالتغيير التوجيهات السياسية للأنظمة الحاكمة وحدها، بل يشتمل ذلك على تغيير نمط القيادة السياسية، ليظهر الدور والمكانة الطبيعية للمؤسسات في سياق عملية ممارسة السلطة. لهذا، فإن علاقة المجتمع المدني بالتحول الديمقراطي تنصرف إلى ضرورة تعزيز التماسك في المجتمع.

إن التطورات التي عرفتها أوروبا في القرنين 18 و19 ولاسيما في ميادين الصناعة والبحث العلمي والتقني شكلت مفهوم المجتمع المدني. وعليه، بأي معنى من المعاني يمكننا أن ننقل هذا المفهوم إلى مجتمعات عربية لم تعش الأحداث والتطورات نفسها فظلت تحافظ على مفاهيم من قبيل القبيلة والعشيرة كمكون أساسي لبنية المجتمع؟ [51] 

إن مرجعية المجتمع المدني في الفكر العربي المعاصر دخلت حيّز التداول في الوطن العربي بدءًا من ثمانينيات القرن الماضي، إذ لم تركز على خلفية فلسفية تؤسّس نظريًا له؛ فقد جاء التعرف إلى المفهوم من خلال الاهتمام المتزايد الذي لاقته مؤلفات غرامشي في العالم العربي بعد سبعينيات القرن الماضي [52] . فهو ليس متداولًا في الخطاب النظري السياسي أو في الخطاب الإيديولوجي العربي سواءً في الفكر القومي الاشتراكي أو الفكر الماركسي -الشيوعي- أو الفكر الإسلامي، وهذه ليست الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهوره وحسب، فهناك أسباب سياسية واجتماعية أكثر من كونها أسباب فكرية وتعود إلى جذور الأمة العربية. وما يزكي أن الفكر العربي لم تكن لديه تلك الخلفية المذكورة هو انقسام الفكر العربي إلى تيارات متعددة في التعامل مع هذا المفهوم، أدت إلى حرب فكرية عميقة بين هذه التيارات الثقافية العربية. واستنادًا إلى ما سبق ذكره، فالمجتمع المدني شكّل واقعًا جديدًا على الحياة العربية، بل مازال يعاني من آلام الولادة وعسرها. فنحن لا نملك نسخة متحقّقة منه، لدينا ما يكفي من الشجاعة السياسية والأخلاقية للقول إن هذا المجتمع المدني لم يبرح طور التكوين بعد، ولايزال يشقّ طريقه بصعوبة [53] . إن صيرورة تشكُّل ما تمكن تسميته “المجتمع المدني في المغرب المعاصر”، هي معقدة، ولاتزال تتداخل فيها وتتشابك عدة عوامل، منها العوامل الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية. إن الحديث عن المجتمع المدني يستمد مشروعيته من مجرد الوعي بضرورة تاريخية يفرضها التطور الحالي للمجتمعات البشرية [54] . ومن ناحية ثانية، فالتراكم العلمي الذي تركه منظرو المجتمع المدني الأوائل في الغرب مثل هوبز، بوفندروف، كانط، هيغل، لا تمكن مقارنته بكتابات مفكرين عرب منذ مطلع القرن ونخص بالذكر على سبيل المثال: أكنسوس، الضعيف، الناصيري، إلخ. إن تأصيل المفاهيم يختلف باختلاف العوالم [55] . وتبقى أبرز التعريفات التي منحت للمجتمع المدني في العالم العربي هي تلك المنبثقة عن الندوة التي نُظِّمت في بيروت سنة 1992، والتي عدَّت المجتمع المدني مجموعة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تزاول نشاطاتها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أهداف سياسية وثقافية ومهنية كما هي الحال في النقابات للارتقاء بمستوى المهنة والدفاع عن مصالح أعضائها. فالملاحظ هو أن هذا التعريف يتصف بشموليته، لكنه يخلط بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، هذا الأخير الذي يضم الأحزاب السياسية، والذي يمكن اعتبار مجال عمله مختلفًا عن مجال اشتغال مؤسسات المجتمع المدني من حيث الأدوات والأهداف والعلاقة مع الدولة. يشير الباحث عبد الله ساعف إلى أنه في مواجهة الدولة يوجد مجتمع مدني هادئ أو ساكن ينتشر في مدن الصفيح والبوادي، وهو غير رسمي يتكّون من الزوايا والطوائف التي تمارس عبر الإيحاء والإشارة والإلقاء الشفوي، بالإضافة إلى العصبية القبلية والهوية الثقافية المحلية، فيتكون المجتمع من المجتمع المدني الرسمي وغير الرسمي [56] . في حين يميز المفكِّر محمد عابد الجابري بين مؤسسات المجتمع البدوي التي تتميز بكونها مؤسسات طبيعية يولد فيها الفرد، ولا يستطيع الانسحاب منها كالقبيلة، ومن بين مؤسسات أخرى إدارية. وهكذا فهو يلخص المجتمع المدني في كونه مجتمع المدن، وأن مؤسساته هي التي يُنشئها الناس فيما بينهم لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية فهي مؤسسات إدارية وشبه إدارية [57] . فالبحث في حضور مؤسسات المجتمع المدني أو غيابها في قطر من الأقطار لابد أن ينطلق من النظر في وضعية المدينة في ذلك القطر، هل هي التي تهيمن على سلوكيات المجتمع باقتصادها ومؤسساتها، أو أن المجتمع القروي هو السائد بمؤسساته وسلوكياته وقيمه وفكره؟ وهل نتحدث عن المجتمع الذي تنبثق منه الدولة (المنظور الهيغلي)، بوصف الدولة تعبيرًا عن سمو الإنسان إلى الكونية والذي يجعل من المجتمع المدني لا يكتمل إلا بوجود الدولة؟ أو هل المجتمع المدني هو سمو القانون، أي القانون المنظِّم للحرية لا القانون المُحِدّ منها؟ إن المفهوم “الهيغلي” للمجتمع المدني باعتباره مجموع الروابط القانونية والاقتصادية التي تربط الأفراد بعضهم ببعض في نطاق علاقات تجعل بعضهم في حاجة إلى بعضهم الآخر، ينطبق على المجتمع المغربي، الذي كان منذ ثلاثة عشر قرنًا [58] . و على الرغم من الحديث عن الإطار الفكري الأمثل، فإن طبيعة السؤال تقتضي مراعاة الملاحظات التالية [59] :

– المجتمع العربي لم يتمكن من التفريق بين المجتمع والدولة حتى النصف الثاني من القرن 19 م عندما ظهرت مجموعة المنظمات المستقلة عن الدولة مثل الجمعيات والصالونات السياسية والفكرية.

– يمكن اعتبار أن مفهومي المجتمع والدولة حديثان في الفكر السياسي العربي، فمفهوم الدولة ورد في النصوص القديمة ولا علاقة له بمفهوم الدولة الحديثة، في حين أن مفهوم المجتمع استُعمل حديثًا (الخلافة، الإمارة، الإمامة).

– عودة انتشار المفهوم في الفكر السياسي المعاصر منذ مطلع “السبعينيات” بشكل خاص بعد مرحلة بروزه أوروبيًا. على الرغم من أن المجتمع المدني عرف تطورًا مهما إلا أن غياب التوصل إلى مواقف مشتركة عربيًا أثَّر بشكل سلبي على تبيئته وتطوره، ويمكن التطرق إلى هذه الصعوبات التي تعيق هذا التواصل في العوامل التالية [60] :

– الاستخدام غير الدقيق للمصطلحات والمعاني المنقولة عن ثقافة سياسية أخرى.

– التغير السريع نظريًا للمصطلحات الناجمة عن التحولات السريعة للتجربة العملية للمجتمعات العربية.

– المجال العام والسياق الذي تُستخدم فيه، والذي يرتبط بالمجال السياسي والعملي.

وبالعودة إلى برهان غليون، نجده يحدد المصادر الثلاثة [61]  لهذا الاختلاط. يتحدث غليون عن [الاختلاط الأول الناجم عن الاستخدام الذي يجعل المجتمع المدني رصيدًا لقيم الحرية ويضعه في موضع النقيض من السلطة والدولة، مع العلم أن الخطأ الكبير هو الاعتقاد بأن الحرية بمعناها السياسي المعاصر هي من أسباب تطور المجتمع المدني وليس الدولة. في حين ينبع الاختلاط الثاني من مطابقة مفهوم المجتمع المدني مع مفهوم الشأن الخاص. أما الاختلاط الثالث، فيتجلى في محاولة جديدة لوضع مفهوم المجتمع المدني في مقابل المجتمع الأهلي وتوظيفه توظيفًا سياسيًا. وبناءً على هذه المعطيات، يشير الباحث الطاهر لبيب إلى كون المجتمع المدني لا يحيل إلى ممارسة تم تنظيرها، ولا إلى تنظير واقع تمت ممارسته، لقد طفا متسيسًا وراج رواجًا سريعًا بفعل توظيفه، وقبل أن يتقيّد بمعنى أو استعمال، حتى الدولة التي نشأ ضدها تستعمله لتحديد من هم أعضاؤه ومن هم “خارجون عنه” [62] . ومما يزكي فكرة “استيراد” مفهوم المجتمع المدني من الغرب ما أشار إليه الباحث عزمي بشارة عندما أكَّد أنه ليس لدينا اقتصاد سوق يعيد إنتاج هذا المجتمع، فأي مجتمع مدني نقصد؟ إن تدعيم المجتمع المدني يعني وجود مجتمع ينتج ذاته خارج الدولة، وهذا غير قائم عندنا [63] . وهناك من الباحثين العرب من ربط بين فكرة وجود المجتمع المدني والديمقراطية، وهذا ما أشار إليه الجابري الذي أكّد على أن غياب الديمقراطية يعني غياب المجتمع المدني، إلا أن الديمقراطية التي يقصدها ليست شكلية كما تعرفها عديد من الدول العربية [64] . يرفض الجابري ما تعرفه البلدان العربية من مظاهر الحداثة وأشكالها، حيث يرى أن بنى الدولة الحديثة قد أقحمت إقحامًا في معظم البلدان العربية، وما تعرفه هذه البلدان من مؤسسات وأحزاب وبرلمانات ونقابات وجمعيات ما هي إلا أشكال مشوهة لما تعرفه المجتمعات الغربية الديمقراطية [65] . لهذا، تمكن الإشارة إلى أن فكرة الديمقراطية ليست نتاجًا للتطور التاريخي والاجتماعي في المنطقة العربية ولكن للخارج بعض التأثير في وجودها ونشأتها [66] . غير أن ما يطرحه نقل المفاهيم والمصطلحات الغربية إلى الثقافة العربية من إشكاليات، خاصة في المجال المعرفي والفلسفي، لا يمكن أن يكون مبررًا لغلق الأبواب لمنع دخولها، أو تجنب استعمالها، أو البحث عن بدائل يكتنفها الغموض، ولا تستوعب المفهوم المقصود، خاصة وأن هناك ظواهر كونية تشترك فيها المجتمعات، ومن هذه الظواهر نزوع الإنسان بطبيعته إلى العمل الجماعي لتحقيق منافع مشتركة. إن تجليات المجتمع المدني تختلف من مجال سياسي إلى آخر، فإشكالية المجتمع المدني في أوروبا الشرقية ترتبط بالعجز السياسي والاجتماعي، وبشكل عام بالفشل الاقتصادي. وفي أمريكا اللاتينية يرتبط المفهوم بإشكالية الانتقال من طبيعة سلطوية إلى وضعية اجتماعية تؤكِّد هويتها بمواجهتها لمفهومين أساسيين: السلطوية والشعبوية.

6. المجتمع المدني العربي وترسيخ الديمقراطية التشاركية

1.6 مفهوم الديمقراطية التشاركية

لقد تناولت الكتابات السياسية الحديثة مفهوم الديمقراطية التشاركية بشكل مستفيض بعدما أسهمت التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها العالم بعد انهيار القطبية الثنائية في بروز أنظمة ديمقراطية صاعدة. إن تغيُّر دور الدولة في علاقتها بالمجتمع الذي أصبح أكثر تعقيدًا قد ولَّد “أزمة المصلحة العامة”، ودفع الأنظمة إلى تبنّي استراتيجيات جديدة تجعل المواطن ينخرط في السياسة بشكل أعمق [67] . لقد أظهرت التجارب محدودية برامج التنمية الموجهة إلى الأفراد نتيجة عدم إشراكهم في مسلسل صياغة السياسات العمومية، ما يؤكد فشل نظرية من الأعلى إلى الأسفل في القرار العمومي. تمثّل الدولة في هذه الحالة مصدرًا لصياغة القرار العمومي، وإن مرحلة تنفيذ السياسات العمومية تأتي عبر إشراك المواطن والجمعيات. ونتيجة تطور المجتمع المدني تزايدت النداءات التي دعت إلى فتح مجال أوسع أمامه للمشاركة في صياغة القرار.

ظهرت ملامح الديمقراطية التشاركية المحلية بفعل تزايد مساهمة المنظمات غير الحكومية ومطالب المجتمع المدني، حيث اتسعت مساحات الحوار والتشاور، وتطورت اختصاصات الفاعلين المحليين، لتشمل أشكالًا جديدة تتمثل في استقراء رأي سكان الجماعة المحلية، واستشارتهم للوقوف على اهتماماتهم ومتطلباتهم للانطلاق منها عند وضع البرامج [68] . إن الاهتمام المتزايد بالديمقراطية التشاركية المحلية أدى إلى دسترة مشاركة المواطنين وتأسيسها في الفعل العمومي، سواء أكان ذلك على المستوى الوطني أم المحلي، من خلال إحداث مجموعة من الآليات كمؤتمرات الإجماع، توافق الرأي، لجان المرتفقين، مجالس الأحياء، الميزانية التشاركية أو غيرها من الآليات التشاركية التي تُقوّي حضور المواطنين ومشاركتهم، مع استحضار قاعدة عامة وهي أن تنمية الإحساس أو الرغبة في المشاركة لدى السكان يتأكد بتعزيز وضمان انخراطهم في البحث عن تحقيق المصلحة الجماعية. إن هدف الديمقراطية التشاركية على المستوى المحلي هو فسح المجال أمام منظمات غير حكومية للمشاركة فعليًا في تدبير الشأن العام المحلي في مراحله ومناحيه كافةً بدءًا بوضع المخططات وانتهاءً بالتقييم [69] . إن معيار نجاح أو فشل أي مشروع تنموي رهين بمدى قابلية السكان للتعاطي معه، وهذا لن يأتي إلا من خلال إشراكهم بشكل فعلي في جميع مراحل اتخاذ القرار التنموي المحلي، لكون الصالح العام يتحدَّد من طرف أفراد المجتمع. إن ما يحرك الناس ويدفعهم إلى المشاركة في عملية تنمية مجتمعهم المحلي الذي يعد ملكا لهم هو الحس الجماعي، الذي تنبغي المحافظة عليه، والتعبئة الشاملة من أجل مواجهة الإشكالات المرتبطة به كافةً [70] . لهذا، فإن للمكون الإنساني دورًا أساسيًا في إنجاح سيرورة الديمقراطية التشاركية على الصعيد المحلي، غير أن هناك أهدافًا أخرى مرتبطة بالمنتخب من جهة، أو الناخب من جهة ثانية.

6. 2. أهداف الديمقراطية التشاركية

تتجلى أسس الديمقراطية التشاركية في الشروط التي لا يمكن من دونها تصوُّر هذه الأسس أو الحديث عنها، بوصفها خصائص ومميزات تُشكِّل ماهيتها، وتُمكِّنها من أن تتبنى بُعدًا فلسفيًا في تنازل الإشكالات المجتمعية من خلال شرطي النقاش العام والاتفاق بين مكونات المجتمع المحلي كافة. إن عمق الديمقراطية التشاركية نابع من عمق خياراتها الاستراتيجية المحلية، لتحقيق أعلى مستويات الشفافية والأخلاق بهدف تجاوز أزمة التدبير المحلي من جهة، والرفع من مستويات الحضور الإيجابي للمواطن في السياسات العمومية سواء أكان منتخبًا أو ناخِبًا من جهة أخرى.

6. 2. 1. الديمقراطية التشاركية والمنتخب المحلي

يُعَدُّ التنظيم الجماعي المحور الأساسي الذي تعتمد عليه الإدارة، والإطار الملائم للممارسة الديمقراطية، لأن الحرية لن تمارَس بصفة ملموسة إلا على الصعيد الجماعي [71] . لقد تزايدت اختصاصات المجالس الجماعية ورؤساؤها بسبب الحصيلة التشريعية المكثفة، والتي حفزت المنتخب الجماعي وجعلته في مواجهة المشاكل المحلية أثناء مزاولته لمهماته الانتدابية، فالمنتخب مواطن حظي بثقة مجموعة من السكان. ويكون تمثيله داخل المجلس تعبيرًا عن وجهات نظر السكان والدفاع عن مصالحهم. ففي بعض الدول يختلف أسلوب اختيار أعضاء المجالس الجماعية باختلاف الأنظمة السياسية للدول، نتيجة اختلاف تطورها الاقتصادي والاجتماعي. وبعض الدول تعتمد على أسلوب الانتخابات لكونه أسلوبًا ديمقراطيًا يسهم في المشاركة السياسية للناخبين، في حين أن العديد من الدول الأخرى تفضل أسلوب التعيين، الذي يُمكِّن السلطات العمومية من انتقاء الكفاءات المؤهلة لتدبير قضايا السكان تدبيرًا محليًا عقلانيًا. وهناك صنف ثالث من الدول يمزج بين أسلوب الانتخاب والتعيين ويطبّقه كلما توافرت شروطه الموضوعية [72] . إن مشاركة السكان طبقًا لمبادئ الديمقراطية التشاركية تبقى في إطار الديمقراطية التمثيلية، وتُعَدُّ مكمِّلة لها، بحيث تكون مساهمتهم في بلورة أفكار عامة تخصّ المشاريع التي تهمّ جماعاتهم، وتحقِّق الانسجام بين متطلبات الساكنة وإرادة المنتخبين، فالديمقراطية التشاركية قد جاءت بمجموعة من الأهداف لتسهيل هذه العملية، من بينها تمكين السكان من المساهمة في صناعة القرار المحلي عبر إنشاء مكاتب للاتصال لتلقي اقتراحات السكان وتصوراتهم، واعتماد أسلوب الإقناع لاكتساب خبرة العمل الجماعي. إن من بين أبرز أساليب نجاح تدبير الشأن العام المحلي هو اعتماد أسلوب الانفتاح بين المنتخبين المحليين على الساكنة الجماعية، والتواصل معهم، فالمنتخب النموذجي هو الذي يعتمد على الاتصال بالساكنة بشكل مباشر وبصفة منتظمة لطلب المشورة منهم فيما يخصّ الحلول المناسبة والواقعية والملائمة، لبناء علاقة ثقة بين الساكنة ومجلسهم المنتخب، وبالتالي ضمان مساهمتهم في التنمية المحلية. ولتحقيق هذه التحديات ومواجهة مختلف الإكراهات، فإن النخبة السياسية المحلية مطالبة بخلق فضاء للتواصل الإيجابي بين جميع مكونات المجتمع.

6. 2. 2. أهداف الديمقراطية التشاركية

إن صياغة أي تصوُّر يهمّ السياسات العمومية لا يمكن أن يتم إلا بناءً على وجود مجتمع يؤمن بقيم الديمقراطية التشاركية ويسعى إلى تنزيلها من خلال تنمية ثقافة المشاركة وتشجيعها، من خلال وضع أسس تمنح المواطنين إمكانية التفاعل الإيجابي مع القرار المحلي، والمساهمة في خلق فضاء للتواصل والنقاش (الفقرة الأولى). وذلك بهدف التداول في بيئة محلية تعبِّر عن رؤى مشتركة وتعزِّز ثقافة الاهتمام بما هو مشترك بين كل الفاعلين للوصول إلى خلق ثقافة الاتفاق حول المشترك.

جاءت الديمقراطية التشاركية لبلورة ديمقراطية القرب، ولتقوية العلاقات بين الناخب والمواطن والبحث عن سبل تعبئته، ولمواجهة تنامي أزمة التمثيلية. فإن تجسيد الديمقراطية التشاركية المحلية من خلال ديمقراطية القرب تتطلب نقاشًا مباشرًا مع السكان، وتنظيم لقاءات معهم للتعبير عن احتياجاتهم الحقيقية، وتأطير مشاركتهم في صناعة القرار المحلي. ويُعَدُّ النقاش العام الوسيلة التي تُمكِّن من الوصول إلى أفضل السبل لتحديد القضايا أو الأمور التي يجب أن تكون موضع اهتمام العامة، وجعل القرارات والسلوكيات التي تُتَّخذ حيالها تستجيب لانشغالاتهم. غير أن المشاركين في النقاش العام ينبغي أن يكونوا على علم بالمعلومات الكافية المتعلقة بموضوع النقاش لفتح المجال للمساهمة في إبداء الرأي وبلورته إلى معطيات ومقترحات من شأنها المساهمة في تبنيها كمشاريع تنموية.

ويتطلب تنظيم اللقاءات وتحضيرها التنسيقَ الدقيق بين جميع المشاركين، ووضع جدول أعمال يتضمن الأهداف من اللقاء، حيث ينبني هذا الجدول على مجموعة من المبادئ المتمثلة أساسًا في توسيع حرية التعبير عن الرأي، ومساواة الجميع في النقاش، ثم درجة الاستقلالية في التعبير عنها، بوصفه دعامةً أساسيةً أثناء صياغة قرارات متعلقة بالديمقراطية التشاركية. ويجب الإعداد له بشكل علمي، إذ يعدّه البعض آلية لتنسيق الديمقراطية التشاركية من أجل توسيع دائرة الفاعلين في صنع السياسات [73] . وقد صنَّف منظري الديمقراطية التشاركية مشاركة المواطنين إلى أربع فئات:

1. نشر المعلومات بين المواطنين، وإحاطة المواطنين علمًا بالمشاريع التي ستنجز أو بتلك التي في طور الإنجاز، من أجل إضفاء الشفافية والموضوعية والمصداقية على السياسات العمومية.

2. الاستشارة، والمقصود بها استشارة المواطنين لمعرفة رأيهم حول مشروع معين، وبعد أخذ الاستشارة، يُجرى هناك نقاش لاعتماد رأي موحَّد بشأن مشروع معين.

3. التشاور، يسعى القائمون على المشروع إلى إدماج المواطنين المعنيين مباشرة، لأخذ آرائهم في الحسبان في جميع جوانب إنجاز المشروع، وتبنّي تنفيذه بشكل مشترك.

4. القرار المشترك/ La codécision، يسعى القرار المشترك إلى إعطاء دور مؤشر للمواطنين لتوزيع المسؤولية بينهم وبين السلطات، والوصول إلى إجماع حول قرار مشترك أو حول رغبة الساكنة في إنجاز المشروع وتحمل أعبائه المستقبلية، بهدف تقوية الديمقراطية التشاركية وتعزيزها.

تركيب واستنتاج

سعى المجتمع المدني إلى خلق التوافق والانسجام بين من يسعى إلى توفير الحقوق الأساسية للفرد وبين من يمثل البعد الاجتماعي ويعكس الحاجة إلى السعي في تحقيق الصالح العام، فالديمقراطية التشاركية تجعل من المواطن صانع القرارات التنموية، إذ تُعَدُّ مشاركة المواطن حقًا يتخِّذ من خلاله قراراته في مجرى حياته. غير أن مشاركته في اتخاذ القرارات تمسّ حياته، وترفع من روحه المعنوية، وتعزِّز من شعوره بالانتماء إلى مجتمعه، وتنمّي شعوره بالمسؤولية تجاه أمور حياته. ويهدف التوافق العام إلى توحيد الرؤى المختلفة بين الفاعلين في أفق بلورة فلسفة التوافق والتعاقد السياسي والاجتماعي، وذلك بإشراكهم مشاركة حقيقية وفعلية في جميع مراحل القرار التنموي. يُعَدُّ مفهوم التوافق العام أرضية لخلق قبول اجتماعي للقرار العمومي، (cceptation Social. ويضفي المشروعية على الخيارات السياسية العمومية. إن الميزة الأساسية التي تطبع توجه الديمقراطية التشاركية محليًا هي رغبة الدولة في البحث عن الاحتياجات الحقيقية للساكنة المحلية، وهذا ما ميَّز عدة تجارب دولية كانت تعقد مؤتمرات للإجماع أو مؤتمرات توافق الرأي الهدف، يُصاغ فيها رأي جماعي بواسطة هيئة من الخبراء حول موضوع معين من خلال جلسات استماع عمومية. ولتطبيق آلية التوافق نكون أمام خيارين، إما الاعتماد على الآلية المفتوحة من خلال توسيع المشاركة لجمهور عريض، على الرغم مما يعترض ذلك من معيقات في الاستماع إلى آراء جميع المشاركين، أو خيار التوافق عبر الآلية المغلقة أو المحدّدة من خلال الاعتماد على عدد قليل من المشاركين. إن الاعتماد على النقاش والحوار العام والتوافق هو من أولويات قيام ديمقراطية تشاركية محلية تدفع المواطن إلى الالتزام بثقافة المشاركة لرسم ملامح السياسة العمومية المحلية.

المصدر.

المقالة السابقة
حزب الله وحرب تحرير جديدة على الحريات
المقالة التالية
منحة تنافسية من الشبكة العربية لمدققي المعلومات من أريج و FPU

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X