إنشاء سجل Sign In

الكرامة والإذلال: تكوين الهوية بين اللاجئين السوريين

مركز حرمون للدراسات المعاصرة Harmoon Center for Contemporary Studies

الكرامة والإذلال: تكوين الهوية بين اللاجئين السوريين

جهة النشر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة Harmoon Center for Contemporary Studies (ترجمة)

ملخص

منذ عام 2011، أُجبر نصف سكان سورية على الفرار من ديارهم. وركزت بحوث كثيرة على التحديات على المستوى الكلي، وعلى خطط إعادة الإعمار لمرحلة ما بعد انتهاء الصراع. في هذا البحث، أركّزُ على المستوى الجزئي من خلال دراسة جدلية “الإذلال” و “الكرامة”، كدينامية تُشكّل وتُحوّل هويات اللاجئين السوريين من خلال التفاعل المستمر، وأحيانًا من خلال النضال، مع السوريين الآخرين، الذين يمكن أن يكونوا مؤيدين للنظام أو للمعارضة، أو مؤيدين للاجئين أو مناهضين لهم في البلدان المضيفة. من الناحية المنهجية، أستخدم مقاربة تفسيرية تركّز على المعاني الخاصة بالسياق وعلاقتهم بالسلطة، بحثًا عن تفاهمات متعددة الأوجه لخبرة اللاجئين المعيشة. يستند هذا البحث إلى العمل الميداني الإثنوغرافي ومقابلات باللغة العادية أجريت في الولايات المتحدة، ومقابلات شبه منظمة ومفتوحة مع السوريين في ألمانيا وتركيا. أبينُ أن البحث عن صنع المعنى، لدى بيئات المشاركين الخاصة، يكشف عن ديناميات الإذلال والكرامة، باعتبارهما متشابكتين جدليًا في سياقات ظرفية محددة تشكّلها تجربة اللاجئين المعيشة في كل من بلد المنشأ (في الماضي)، والبلد المضيف (في الوقت الحاضر).

مقدمة

غيّرت انتفاضة 2011 والحرب اللاحقة تصوّر السوريين للهوية الوطنية تغييرًا جذريًا؛ إذ أصبحت البلاد مقسمة بحكم الواقع بين مجموعات مختلفة، لكل منها رؤيتها الخاصة لمستقبل سورية، ومخزونها الخاص من الرموز وممارسات الإدماج والإقصاء. نجح الآلاف من الجهاديين غير السوريين، وكثير منهم يقاتلون تحت راية تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضًا باسم داعش)، في السيطرة على مساحات شاسعة من سورية والعراق. واشتدت التوترات الطائفية بين مختلف شرائح المجتمع السوري، مع تزايد تدخل القوى الإقليمية والعالمية. وُلِدت أجيال من السوريين في المنفى لا يمتلكون أي ذكريات عن سورية ما قبل الانتفاضة والصراع. وأُجبِر آخرون على مغادرة مدنهم وقراهم المدمرة وهم لا يحملون سوى ملابسهم فارين إلى الدول المجاورة لسورية[1]، أو إلى ملجأ أبعد مثل السودان[2] أو أوروبا. فالأسر والأفراد المتأثرون ذوو الوضع الاجتماعي والاقتصادي الأدنى لا يستطيعون تحمّل تكاليف الرحلة المكلفة والمحفوفة بالمخاطر، حيث لم يتبقَ أمامهم سوى خيار إيجاد مأوى في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. وفي كل الأحوال، يجب على المشردين السوريين أن يأخذوا في الحسبان ديناميات تشكيل الهوية، بين الموالين للدولة أو الموالين للنظام من ناحية، والمؤيدين للمعارضة أو الصراع الداخلي من ناحية أخرى. ويتطلب فهم ذلك مزيدًا من الحساسية إزاء التحديات المنهجية لدراسة أثر الحرب والتشرد على الناس العاديين.

كان التغيير الأكثر دراماتيكية هو اجتثاث السكان[3]. بحلول نهاية عام 2015، قُتل أو أُصيب ما يقدر بنحو (11,5) في المئة من سكان سورية (عدد السكان قبل الحرب، 23 مليون) بسبب الصراع المسلّح. وفرَّ أكثر من (4,8) مليون سوري من البلاد، وتشير التقديرات التقريبية إلى أن أكثر من (7,6) مليون سوري هم الآن مشردون داخل البلاد[4]. يعيش أكثر من (80) في المئة من السكان السوريين تحت خط الفقر. وفي ما يتعلق بالتعليم، “انخفضت النسبة الوطنية للالتحاق بالتعليم الابتدائي، من (98) في المئة عام 2010، إلى (70) في المئة عام 2013، ثم إلى (61,5) في المئة عام 2015”[5].

تُنبئ هذه الأرقام بمستقبل قاتم. وقد ركّزت كثير من الأبحاث على التحديات على المستوى الكلي macro-level التي تجعل أي خطط لإعادة إعمار بعد الصراع تبدو غير قابلة للتصديق على المدى القصير. ويركز هذا البحث بدلًا من ذلك على المستوى الجزئي micro-level. تختلف التجربة المعيشة للاجئين، والحاصلين على اللجوء، ومن هم قيد انتظاره، والمعتقلين، اختلافًا كبيرًا من مكان إلى آخر، بناءً على مكان وجودهم[6]. في كثير من الحالات، هجِّر السكان عدة مرات، وهو ما يزيد من تعقيد أي تخطيط لإعادة نسج أي شيء يمكن وصفه بجدية بأنه نسيج اجتماعي سوري.

تميل تغطية “أزمة اللاجئين السوريين” إلى أن تُلقي بظلالها على الأزمات والصراعات الأخرى في الجنوب العالمي. وبالأحرى، يجب فهمها من حيث السياق الأوسع لهذه الأزمات والصراعات. تجاوز عدد المشردين قسرًا في العالم، ابتداءً من عام 2016، (65,6) مليون شخص. وفي عام 1997، كان هذا العدد (33,9) مليون شخص فقط[7]. في حين أن الأعمال والتقارير الإحصائية الكبيرة التي تنشرها المنظمات غير الحكومية والدول المضيفة والمنظمات الدولية، مثل المفوضية (مفوض الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين)، تكتسب أهمية حاسمة لتأكيد الضرورة الملحّة لمعالجة أزمة اللاجئين العالمية، وأجادل بأن أي جهد جاد للتصدي لأي جزء من السكان المتضخمين من المشردين قسرًا ينبغي أن يأخذ في الحسبان ممارسات صنع المعنى للأشخاص المعنيين مع تطور هذه الممارسات، من خلال تجارب المشردين وظروف التشرد الخاصة بهم.

إن جمع مجموعات متنوعة من الأشخاص، بتجاربهم وخلفياتهم وطبقاتهم وثقافاتهم المختلفة، تحت الفئة المتجانسة “المهاجر” أو “اللاجئ” يجعل تجاربهم المعيشية غير مرئية. إن البرامج من أعلى إلى أسفل التي لا تجسد أصوات وتجارب اللاجئين وطالبي اللجوء تخفي تجاربهم مرتين[8]. ويؤدي هذا إلى اغتراب عميق للاجئين وطالبي اللجوء أنفسهم، كما يؤدي إلى أن تكون لتصميمات البرنامج هذه نتائج عكسية بشكل عام، وغالبًا ما تزيد من الاستياء بين السكان المضيفين والمستضيفين.

“الإذلال” و”الكرامة” جانبان حاسمان في تجربة اللاجئين السوريين المعيشة. أَولى الباحثون والممارسون، حتى علماء النفس، القليل من الاهتمام لدور الإذلال والكرامة في عمليات تكوين الهوية بين اللاجئين، وكثيرٌ منهم ناجون من تجربة الرضة النفسية (تروما). قد يكون أحد الأسباب المحتملة لهذا النقص في الاهتمام هو تحوّل حالة الإذلال الأولية، الناجمة عن تجربة مباشرة، إلى كتلة من المشاعر. يتأرجح كثير من اللاجئين المصابين برضات نفسية بين قطبين من الإذلال: الشعور بالحزن واليأس لفقدان الأمل، والأحبّة، والأماكن من جانب؛ والغضب والحاجة إلى الانتقام من جانب آخر[9]. يمكن أن تستمرّ القوة التدميرية للإذلال، إذا تم تجاهلها، لأعوام بشكل مستقلّ عن سببها الأصلي. أفهمُ جدلية “الإذلال” و”الكرامة”[10]، بوصفها دينامية تشكّل وتحوّل هويات اللاجئين السوريين من خلال التفاعل المستمر، وأحيانًا من خلال النضال، مع الآخرين الذين يمكن أن يكونوا سوريين مؤيدين للنظام أو للمعارضة، أو مؤيدين للاجئين أو مناهضين لهم في البلدان المضيفة. من الناحية المنهجية، أستخدم مقاربة تفسيرية تركز على المعاني الخاصة بالسياق وعلاقتها بالقوة، والسعي إلى فهم متعدد الأوجه للتجربة البشرية بدلًا من السعي لاستنباط قوانين تنبؤية عامة/ تعميمية[11]. يستند هذا البحث إلى العمل الميداني الإثنوغرافي ومقابلات باللغة العادية[12]، أجريناها في الولايات المتحدة، ومقابلات أخرى شبه منظمة ومفتوحة مع السوريين في ألمانيا وتركيا[13]. هناك عدد متزايد من علماء السياسة، وخاصة في مجال السياسة المقارنة، الذين يؤسسون عملهم الميداني وتحليلاتهم بـ “حساسية إثنوغرافية” التي تتطلب التزامًا بالانغماس في مجال البحث والحياة الاجتماعية للأشخاص موضوع الدراسة[14]. هذه المقاربة الإثنوغرافية التفسيرية واعية بـ “الفهم المتعاطف” لمعاني وأفعال المشاركين و”أخلاقيات القوة”[15].

انطلاقًا من تجربتي الخاصة كسوري في المنفى وكعالم اجتماعي، أرى أن أي محاولة لدراسة عمليات تكوين الهوية بين السوريين بعد عام 2011، وكيفية فهم اللاجئين أنفسهم لتشرّدهم، تخاطر بمضاعفة العنف الدلالي الهائل الذي يعانيه اللاجئون. ولتقليل هذا الخطر، من الضروري التعامل مع هذه العمليات بطريقة تتناسب مع التجربة الحية للسوريين قبل الانتفاضة وبعدها، ومع شبكة المعاني التي بناها السوريون بأنفسهم من خلال تاريخ سورية المعاصر.

العلاقة الجدلية بين الإذلال والكرامة

في كانون الأول/ ديسمبر 2010، كان العالم العربي يوشك أن يشهد سلسلة من الحركات الاجتماعية الجماعية المعدية التي اجتاحت مصر وليبيا واليمن والبحرين والعراق والمغرب وسورية ودولًا عربية أخرى. وأطاحت، وإن كان ذلك بطرق مختلفة، زعماء استبداديين، منهم زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، وعلي عبد الله صالح في اليمن، ومعمر القذافي في ليبيا. في جميع الحالات تقريبًا، واجهت الأنظمة القمعية موجات الاحتجاج السلمي الأولية بهجمات قاتلة وقمع، أما في ليبيا واليمن وسورية، فقد تحولت الاحتجاجات السلمية إلى مواجهة مسلحة، ثم إلى حروب بالوكالة أدت إلى موجات غير مسبوقة من اللاجئين.

في 15 آذار/ مارس 2011، نظمت مجموعة من الناشطين الشباب تظاهرة في دمشق، مرددين “الله، سورية، حرية وبس” [Allah, Souriya, Houriya w Bas]، وهو شعار تحدى الشعار البعثي: “الله، سورية، بشار وبس” [Allah, Souriya, Bashar w Bas]. يعدُّ كثير من الناشطين السوريين تلك اللحظة بمناسبة ولادة “الثورة السورية”. ويحتفل آخرون بميلاد الثورة بعد ثلاثة أيام، عندما توفي الناشطون الأوائل -المعروفون منذ ذلك الحين باسم “شهداء الثورة”- في جنوب سورية خلال احتجاج “جمعة الكرامة”[16]. عند إجراء المقابلات في آب/ أغسطس 2014، ميّز ناشط شاب حضر احتجاج 15 آذار/ مارس بين التاريخين على النحو التالي: “احتجاج سوق الحميدية [15 آذار/ مارس] نظمه ناشطون ألهمهم الربيع العربي، في حين أن الاحتجاجات في درعا [18 آذار/ مارس] كانت أكثر عفوية، وقادها أشخاص عاديون يريدون إطلاق سراح أطفالهم على الفور من سجن الأسد”.

جاءت هذه الاحتجاجات بعد سلسلة من الاحتجاجات من قبل السوريين تضامنًا مع الشعبين الليبي والمصري. قبل شهر، في 17 شباط/ فبراير 2011، وقع حادث غير متوقع في دمشق: اعتدى ضابط شرطة بوحشية على ابن صاحب متجر في سوق الحريقة، وفي غضون دقائق، تجمّع مئات السوريين للاحتجاج على قوات الأمن وصرخوا معًا “حرامية حرامية”، و”الشعب السوري ما بينذّل”، وهو شعار سيصبح لاحقًا شعارًا شعبيًا[17]. أوقف وزير الداخلية الاحتجاج بوعده بمعاقبة الضابط المخالف. ومع ذلك، في غضون ساعات، انتشر مقطع الفيديو الخاص بالتظاهرة على منصتي (فيسبوك) و(يوتيوب).

هذا الشعار -“الشعب السوري ما بينذل”- له مستويات متعددة من الأهمية، على عكس الشعارات التي ستصبح قريبًا أكثر تنظيمًا، وكذلك الجهود المنسّقة بين الناشطين والفاعلين السياسيين -أي الجهات الفاعلة التي كانت أعضاء في الأحزاب السياسية والسجناء السياسيين السابقين الذين قاوموا نظام الأسدين (الأب والابن)- حيث غدا هذا الشعار تعبيرًا عن مقاومة دلالية، وهي إعادة الاستيلاء على خطاب نظام الأسد الخاص بالمقاومة ومناهضة الإمبريالية الذي استخدمه لأغراض الشرعية الذاتية. قبل احتجاجات سوق الحريقة وبعد الثورتين التونسية والمصرية، أكد بشار الأسد بثقة في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال، في 31 كانون الثاني/ يناير 2011، أن سورية كانت مختلفة: لدينا ظروف أصعب من معظم الدول العربية، ولكن على الرغم من ذلك سورية مستقرة. لماذا؟ لأنه يجب أن تكون مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمعتقدات الناس. هذه هي القضية الأساسية. عندما يكون هناك اختلاف بين سياستك ومعتقدات ومصالح الناس، سيكون لديك هذا الفراغ الذي يخلق الاضطراب. لذلك، لا يعيش الناس فقط على المصالح؛ إنهم يعيشون على المعتقدات، وخاصة في المناطق الأيديولوجية للغاية[18].

وهكذا، كان هذا الشعار في الوقت نفسه “ردة فعل” عفوية من الناس العاديين على المعاملة المهينة لأحد أفراد حيّهم على يد شرطي من ناحية، و “عملًا” تجاوز لحظية الحادث لاستعادة الكرامة لجميع السوريين من ناحية أخرى. جرى الاحتجاج علنًا في العاصمة السورية خلال “الربيع العربي”، حيث تحدى أكثر من أربعة عقود من الخوف الذي زرعه حافظ الأسد وخليفته وابنه بشار[19]. كان الاحتجاج استنكارًا للمواجهات اليومية للتخويف والإذلال من قوات الأمن أو المدنيين الذين لهم صلات (الواسطة wasta).

وصف كثير من الذين قابلتهم فئة “اللاجئ” بأنها تسمية “مُهينة”، وكثيرًا ما استشهد الناشطون/ طالبو اللجوء على وجه الخصوص بهذا الشعار، بكونه تعبيرًا عن الدافع الأساسي للاحتجاج على النظام السوري. تقول ريم، وهي ناشطة/ تنتظر لجوئها في الولايات المتحدة: كان احتجاج الحريقة بمثابة صرخة داخل قلب كل سوري عاش في خوف وتعرّض للإذلال من قبل المخابرات [قوات الأمن] لعقود في عهد كلا الأسدين. لم أكن هناك، ولكن عندما شاهدت مقطع (فيديو) على موقع (يوتيوب) وسمعت الناس يهتفون “الشعب السوري ما بينذل”، شعرت بالذهول! أنا إنسانة وأنا فخورة بكوني سورية. لا تنس التوقيت لأن البوعزيزي ألهمنا بالفعل[20]. لكننا الآن عدنا إلى المربع الأول، مهانين في بلدنا ومذلولين خارجه[21].

وعندما سألت ناشطة أخرى، ياسمين، تعمل مع منظمة سِلمية مقرها غازي عنتاب في تركيا: “ماذا يعني أن تكوني سورية؟” التزمت الصمت لفترة من الوقت قبل أن تجيب: حسنًا… لا أعرفُ حقًا. إنه سؤال صعب. أنتَ تعلم أنني أشعر بالذنب والخجل لكوني سورية في الوقت الحاضر. لقد دمِّرت البلاد بعد الثورة. سأخبرك بمثال شخصي. لقد ضعتُ منذ بضعة أيام في غازي عنتاب. سألتُ ضابطًا تركيًا في محطة المترو عن الاتجاهات. سألني عن جنسيتي. التزمتُ الصمت! تجاهلت سؤاله لأنني اعتقدت أنه سيوصمني بالعار، إذا علم أنني سورية[22].

ياسمين وشقيقتها لاجئتان في ألمانيا منذ حزيران/ يونيو 2015. عندما سألتها عن تجربتها الجديدة، قالت: لم أحبّ غازي عنتاب، لأنها كانت مدينة محافظة بشكل عام، لكنني أحببت إسطنبول. إنها مدينتي المفضلة، لكن في ذلك الوقت لم يكن لدى السوريين وضع قانوني واضح… كنت بحاجة إلى وثائق، أعني جواز سفر غير سوري، لأنني لم أستطع السفر أو فعل أي شيء، ولهذا قررت التسجيل في مركز المفوضية في كانون الثاني/ يناير 2014 […] هنا، لدي تأمين صحي، أتعلم اللغة، لكني أكره كلمة لاجئ باللغة الألمانية، إنها تستفزني… لماذا تصرّ على تذكيري بأنني لاجئة؟ … أنت لا تشعر أنهم يعاملونك على قدم المساواة وينظرون إليك بازدراء[23].

وبالمثل، فإن سليمان، وهو لاجئ أعيد توطينه مع عائلته في ماساتشوستس/ الولايات المتحدة، لا يشعر بالراحة عندما يسمع كلمة لاجئ: لا أحد يريد أن يكون لاجئًا. حتى إنني أكره كلمة لاجئ، أو حقيقة أن أطفالي لاجئون، وأنه كان علي الفرار من بلدي، لأن لدينا شخصًا يقتل الناس ولا أحد يوقفه! إذا كنتم تريدون حل أزمة اللاجئين، فلا تعطوني الخبز، بل أوقفوا الكارثة في بلدي[24].

ومع ذلك، لا ينبغي اختزالُ الشعور بالإذلال، والدلالة السلبية التي يعزوها بعض اللاجئين إلى تصنيفهم لاجئين، وعَدُّه شعورًا سلبيًا أو سمة دائمة “قابلة للتعميم” لتجربة اللجوء. الواقع أن كثيرًا من الأشخاص الذين قابلناهم تعاملوا مع الإذلال جدليًا، من خلال إظهار الاعتزاز بما دافعوا عنه، ولا سيما الناشطين الذين أشاروا مرارًا إلى الانتفاضة السورية باسم ثورة الكرامة Thawrat al-Karama، أو إلى تاريخ سورية القديم، أو إلى كرم ضيافة كثير من السوريين تجاه اللاجئين الآخرين في الماضي. في حين أن سليمان، الذي نقلت عنه أعلاه، يكره تصنيف اللاجئين، فقد استبدلها بكلمة أخرى باللغة العربية: ضيف (daif). يعكس هذا التحول اللغوي تجربته الشخصية على المستوى الفردي، والتجربة السورية على مستوى الدولة، مع لاجئين آخرين (فلسطينيين وعراقيين ولبنانيين) فرّوا من الحروب وجاؤوا إلى سورية. وفقًا لسليمان: نحن لسنا لاجئين، نحن ضيوف. جئنا إلى أميركا، التي فتحت لنا قلبها ودعمتنا، نريد أن نكون هنا [فاعلين] إيجابيين تجاه أميركا […] أريد أن أعمل وأفعل أشياء جيدة، وأن نندمج في المجتمع الأميركي، وأن ننقل حضارتنا العربية إلى الولايات المتحدة[25].

على عكس ما تعنيه فئة اللاجئين (العثور على وطن جديد)، فإن الضيف يدلّ على الشعور بالطابع المؤقت، معربًا عن رغبة كثير من اللاجئين السوريين في الاعتقاد بأن وقتهم في المنفى محدود، وبمجرد انتهاء الحرب سيعودون “إلى الوطن”. على الرغم من أن سليمان وغيره من اللاجئين يعتقدون، أو يريدون أن يعتقدوا، أن وجودهم في بلدان إعادة توطينهم مؤقت، فإنهم يرفضون التمثيل المهيمن للاجئين باعتبارهم فاعلين سلبيين أو عاجزين يعتمدون على الآخرين. وبدلًا من ذلك، حتى مع تصاعد الهوس المحموم بتنظيم (داعش)، فإنهم يعتقدون أن ثقافاتهم ذات قيمة ويساء فهمها في الغرب، وأنهم يمكن أن يكونوا مساهمين فعالين وإيجابيين في المجتمع عندما تُمنح لهم الفرصة.

على العكس من ذلك، أعاد اللاجئون الآخرون التفكير في حياتهم السابقة كلها في سورية، وأصروا على أن الولايات المتحدة هي “وطنهم” الحقيقي، وفي ذلك يقول إسماعيل، وهو شاب في أواخر العشرينيات من عمره[26]: “لأول مرة أشعر أنني إنسان محترم يتمتع بالحقوق والكرامة”. جاء إسماعيل إلى الولايات المتحدة كطالب دراسات عليا في عام 2014، لكنه ترك برنامجه، لأنه لم يستطع تحمّل الرسوم الدراسية ونفقات المعيشة: اعتقدتُ أن أعمامي الأثرياء سيساعدونني، لكنهم لم يساعدوني! إنهم مواطنون أميركيون وشخصيات صريحة في دعمهم للثورة السورية واللاجئين السوريين في الأردن، يا لهم من منافقين! كادوا أن يطردوني من المنزل من دون سبب. انتهى بي الأمر بلا مأوى لعدة أيام، أنام على المقاعد في الحدائق العامة حتى ساعدتني إحدى المنظمات الخيرية، ووجدت لي مكانًا مع عائلة. تقدّمت بطلب للحصول على اللجوء في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، ولكن بعد بضعة أشهر، ربما في كانون الثاني/ يناير 2015، أعلنوا تمديد وضع الحماية المؤقتة لسورية، لذلك تقدّمت بطلب، وهكذا حصلت على رقم الضمان الاجتماعي وتصريح لعملي. بعد الانتظار لمدة عامين، أجريتُ مقابلتي التي استمرت ساعة واحدة، وتلقيت القرار النهائي بعد ثلاثة أسابيع. يجب أن أخبرك أنه مع كل الصعوبات والتحديات التي واجهتها هنا في الولايات المتحدة، فأنت تعلم أن أحدًا لا يساعد أحدًا، وعليك أن تكون معينًا لنفسك، لكن هذا وطني الآن. تذكرني سورية فقط بكل أنواع الإذلال والقمع في كل بقعة، حتى قبل الثورة… في المدرسة، في الكلية، في الجيش، حتى عندما تدفع فواتيرك، سيتم تذكيرك بأنك لا شيء!

هناك فرق صارخ (مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبقة) بين اللاجئين الذين يعدّون أنفسهم ضيوفًا “يعتزمون” العودة إلى “وطنهم الدائم” عندما تنتهي الحرب، واللاجئين، وطالبي اللجوء، الذين يبنون إحساسًا بالمكان والعمل لإيجاد وطن جديد في البلدان المضيفة. غالبًا ما يتخطى هذا الاختلاف العائلات والمجتمعات، ويضيف مزيدًا من التعقيد إلى العمليات المعقدة بالفعل، لتشكيل الهوية التي يجب أن يخضع لها الأشخاص في المنفى. يكشف بحث المشاركين عن صنع المعنى في سياقاتهم الخاصة عن ديناميات الإذلال والكرامة المتشابكة جدليًا في سياقات ظرفية محددة شكلّتها تجربة اللاجئين الحية في كل من بلد المنشأ (في الماضي) والبلد المضيف (في الوقت الحاضر).

“الآخر” المرئي

كانت أعداد اللاجئين السوريين الهائلة في البلدان المجاورة لسورية غير مرئية عمليًا في وسائل الإعلام الغربية بين عامي 2011 و2014. وهذا يعكس ملاحظة حنة آرنت Hannah Arendt بأنه “كلما زاد عدد الأشخاص الذين لا حقّ لهم، أصبح إغراء أن يكون الاهتمام أقل بأفعال الحكومات المضطهِدة أكثر من اهتمامهم بوضع المضطهَدين”[27]. بالمقارنة مع الدول المجاورة لسورية، نجد أن أكثر من (10) في المئة بقليل فقط، من إجمالي عدد اللاجئين السوريين المسجلين، سعوا إلى طلب اللجوء في أوروبا. ومع ذلك، فإن ظهور “أزمة اللاجئين السوريين” -كما عانت منها الدول الغربية- كان مبالغًا فيه[28] في البرامج الإعلامية والسياسية، ومن ذلك الحملة الرئاسية الأميركية لعام 2016[29]. زاد اهتمام السياسيين وصانعي السياسات والمنظمات غير الحكومية بشكل كبير بعد أن تصدرت صور جثة أيلان، الطفل السوري البالغ من العمر ثلاثة أعوام، عناوين الصحف العالمية، بعد غرقه في 2 أيلول/ سبتمبر 2015. أثارت هذه الصور انتباه الجمهور إلى أزمة قاتمة، كما حفزت كثيرًا من المنظمات الإنسانية وجمعيات الإغاثة الخيرية والأفراد على التطوع لدعم الوافدين الجدد عبر البحر الأبيض المتوسط إلى الجزر اليونانية[30].

ناشد كثيرٌ من الناشطين والمنظمات المجتمعَ البشري المتخيّل، مخاطبين فيه “ا الشعور الإنساني”، لمساعدة “الآخر” الضعيف والفقير (الذي لا حول ولا قوة له). اللاجئون وطالبو اللجوء والمهاجرون هم الفئات المعرَّفة بالمجموعات المتجانسة الممَثلة على أنها مشرّدة إقليميًا وثقافيًا. تنتقد عالمة الإثنوغرافيا، ليزا ملكي، مثل هذا الغموض القاطع الذي يعتمد على الممارسات الجوهرية والاختزالية الأوروبية القديمة: إن كونية “أسرة الإنسان” تنزع الطابع السياسي عن أوجه عدم المساواة والظلم الأساسية، بنفس الطريقة التي تعمل بها الصور الإنسانية المتجانسة للاجئين التي تعمل على إخفاء ظروفهم الاجتماعية والسياسية الفعلية التي تمحو السياسات المحلية المحددة والتاريخية للاجئين معينين، وتتراجع بدلًا من ذلك إلى سجلّ غير سياسي وغير تاريخي لمعاناة أكثر تجريدًا وشمولًا[31].

عادةً ما تركز وسائل الإعلام اهتمامها على اللاجئين السوريين، لكنها في الواقع تخلط بين اللاجئين والمهاجرين، وبالكاد تذكر الجنسيات الأخرى أو الأعداد الأكبر من اللاجئين في البلدان غير الأوروبية[32]. ركز تمثيل اللاجئين السوريين، بعد انتشار صورة أيلان، على النساء والأطفال كضحايا للعنف والوحشية عاجزين وسلبيين ولا صوت لهم. على الرغم من التفاخر الليبرالي بالعالمية المجرّدة لحقوق الإنسان، وبالعالم المترابط وبتزايد العولمة، فإن تصوّر “الإنسان” و “الثقافة” ظلّ ضمن نطاق الإقليم إلى حد بعيد، ولا يزال متجذرًا في نظام الدولة القومية[33]. يجادل سلافوي جيجيك، في كتابه الأخير عن أزمة اللاجئين، بأن اللاجئين يؤمنون بمبدأ الاتحاد الأوروبي في “حرية التنقل” الذي يأخذونه على محمل الجد. هذا الحق مضمون فقط لمواطني أعضاء الاتحاد الأوروبي، ولا يشمل جميع الناس. ويصف جيجيك هذا النظام بحق بأنه شكل جديد من أشكال الفصل العنصري، حيث “يتم تداول السلع وتنقلها بحرية، لكن ليس الناس”[34]. ومع ذلك، يقلل جيجيك من تحليله للتحديات التي تواجه الحكومات الأوروبية، وخاصة الألمانية، في جهودها لدمج اللاجئين اجتماعيًا وثقافيًا في ما يبدو مشكلة لا يمكن حلّها: “ما هو عدد الذين يريدون حقًا الاندماج؟”[35]. في الواقع، على عكس مخاوف جيجيك، التي يشاركها أيضًا كثير من الألمان والأوروبيين، فإن السوريين الذين أعيد توطينهم في ألمانيا منذ عام 2015 أقلّ هوسًا بالاختلافات الثقافية. كما لاحظت ويندي بيرلمان خلال بحثها الميداني في ألمانيا، فإن أهم مصدر للقلق لعديد من اللاجئين وطالبي اللجوء السوريين هو البيروقراطية الحكومية، التي تشكل مخاوفهم اليومية، وفي بعض الحالات، تفرض عقبات تمنعهم من استعادة الشعور بالحياة الطبيعية[36].

تقدّم الإثنوغرافيا السبيل الوحيد غير التخميني non-speculative الذي يمكن من خلاله مقاربة الإجابة على مثل هذا السؤال. سيحاول علماء الإثنوغرافيا التفسيريون “فهم” وتحليل ممارسات صنع المعنى من الأسفل، من خلال الانغماس في الحياة والسياق الذي يعيش فيه اللاجئون. إنهم يستنطقون الافتراضات المسبقة لـ “الاختلافات الثقافية” الثابتة، وفئات وتصنيفات محددة مثل “المسلمين” و”الأميركيين” و”الأوروبيين” أو “العرب” و”الأكراد” و”اليهود” أو “الثقافة الإسلامية” و”الثقافة العربية”، ويتعاملون أيضًا مع الثقافة على أنها «ممارسات دلالية/ سيميائية»، ويوفرون فهمًا غنيًا ومعقدًا للحياة الاجتماعية والسياسية[37].

يمثّل التحول الخطابي الفوري “ضدّ” اللاجئين عمومًا، والسوريين على وجه الخصوص، بعد هجمات تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 في باريس، “اضطرابًا مؤقتًا”، ولكن ليس بالنسبة للحياة اليومية العادية وللثقافة الغربية كما يدعي جيجيك[38]، إذ يوضّح كيف يمكن القول إن الموقف المناهض للاجئين هو القاعدة وليس الاستثناء، في نظام الدولة القومية، حيث إن اللاجئين عديمي الجنسية وطالبي اللجوء يطمسون الحدود القومية المصطنعة، ويزعزعون “التمييز العريق والضروري بين المواطنين والأجانب”[39]. وكذلك يشير زيغمونت باومان إلى اللاجئين والمهاجرين، ويعدّهم “تجسيدات لانهيار النظام”، وهذا ما يفسّر جزئيًا أسباب تصاعد الهجمات العنصرية على اللاجئين وكراهية الأجانب. شجّعت مثل هذه الهجمات القادةَ والحركات الشوفينية، في أوروبا والولايات المتحدة، على تحويل غضب “المهمّشين” الناشئ في الدول الغربية، و”إحساسهم المهين بعدم اليقين الوجودي وبعدم القدرة على مقاومة التهميش المعوق”، نحو تحقيق مكانتهم/ دورهم في العالم[40].

لذلك، تحوّلت التغطية الإعلامية والخطاب السياسي المهيمنين، ولا سيما في الولايات المتحدة، بشكل كبير وغير مفاجئ، إلى تشويه صورة اللاجئين، والترويج لإمكاناتهم بعدّها تهديدًا أمنيًا خطيرًا للغرب. كان هذا الخطاب واضحًا عندما كتب دونالد ترامب، قبل أقل من شهرين من الانتخابات الرئاسية الأميركية، تغريدة على (تويتر)، حول صورة تقارن اللاجئين السوريين بالحلوى الشعبية، وهو ما يُشير إلى وجود إرهابيين خطرين يدخلون الولايات المتحدة كلاجئين.

قبل أقل من عام من تغريدة ترامب، أصدر حكام (31) ولاية (الجمهوريون 30 والديمقراطيون 1) بيانات قالوا فيها إنهم سيمنعون اللاجئين السوريين من الاستقرار في ولاياتهم، بسبب مخاوف أمنية غذّتها هجمات (داعش) في باريس[41]. في حين أنّ تصريحات الحكّام كانت انفعالية ومثيرة للجدل وليست قانونية -حيث رفض مسؤولو برنامج اللاجئين الفيدرالي رسميًا تصريحاتهم[42]– فإنها ساهمت في تطبيع الخطاب المعادي للأجانب واللاجئين. بعد انتخاب الرئيس دونالد ترامب، في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، عانى اللاجئون في الولايات المتحدة من خوف هائل من التمييز والترحيل.

تجسّد خوفهم عندما أطِّر الخطاب المناهض للاجئين، الذي استهدف صراحة السوريين والمسلمين، على أنه خطاب أمني. في 27 كانون الثاني/ يناير 2017، أصدر الرئيس ترامب أمرًا تنفيذيًا تحت عنوان (حماية الأمة من دخول الإرهابيين الأجانب إلى الولايات المتحدة)، حيث منع دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة لمدة (90) يومًا على الأقل؛ وأوقف دخول اللاجئين السوريين إلى أجل غير مسمى؛ وأوقف دخول جميع اللاجئين إلى الولايات المتحدة لمدة أربعة أشهر[43]. تسبب حظر السفر أو المعروف بشكل غير رسمي باسم “حظر المسلمين Muslim Ban” في حدوث فوضى وارتباك في كثير من المطارات. احتلَّ المتظاهرون ومنظمات حقوق الإنسان المطارات، وطعن المدعون في الأمر التنفيذي. في النهاية، أُوقِف الأمر التنفيذي في 3 شباط/ فبراير، عندما أصدر قاضي المقاطعة الأميركية، جيمس روبارت، حكمًا يمنع تنفيذه مؤقتًا، تلاه قرار وزارة الأمن الداخلي بالتوقف عن إنفاذ الأمر التنفيذي[44].

بعد المحاولة الفاشلة لإنفاذ الأمر التنفيذي رقم (13769)، أصدر الرئيس ترامب أمرًا تنفيذيًا جديدًا رقمه (13780) بتاريخ 6 آذار/ مارس 2017، ليحلّ محل الأمر التنفيذي السابق. كذلك، طعنت المحاكم الفيدرالية في الأمر الجديد، الذي استبعد العراق، ومنعته حتى 26 حزيران/ يونيو 2017، عندما قررت المحكمة العليا رفع الوقف جزئيًا، وأنها ستستمع إلى المرافعات الشفوية في تشرين الأول/ أكتوبر[45].

بناءً على مقابلاتي وتجربتي الخاصة[46]، شعر اللاجئون والطلاب السوريون في الولايات المتحدة بعدم الأمان بشكل متزايد، ووجدوا أنفسهم في موقف دفاعي. سلمى (طالبة لجوء من سورية في أواخر العشرينيات من عمرها) تحدثت عن تجربتها: عندما طبِّق حظر السفر الأول في كانون الثاني/ يناير [2017]، أمضيت اليومين الأولين أبكي. منذ ذلك الحين نحن [هي وزوجها من العراق] لا نعرف ماذا نفعل. أتيتُ إلى الولايات المتحدة من أربيل [عاصمة كردستان العراق] في أيلول/ سبتمبر 2015. طلبتُ اللجوء في حزيران/ يونيو 2016، بعد ولادة طفلي هنا في الولايات المتحدة في كانون الثاني/ يناير 2016. لا تزال قضيتي معلقة، وزوجي لم يرَ ابنه بعد. اعتقدنا أن العملية برمتها ستستغرق عامين، كما أخبرنا كثير من الأشخاص الذين نعرفهم، ولم يكن لدينا كثير من الخيارات على أي حال. لكن الآن بعد حظر السفر والقيود الجديدة المفروضة على السوريين، لم أعد متأكدة. قد يرفضون طلب زوجي بعد الانتظار لمدة خمسة أو سبعة أعوام، على افتراض أنني سأحصل على المقابلة وسيُوافق على طلبي. فكرت في العودة إلى كردستان، لكن لا يمكنني ذلك. لا توجد دولة تصدر تأشيرات للسوريين. في كل مرة يلغون فيها حظر السفر، يتوصلون إلى حظر جديد وقواعد أكثر صعوبة. أردت التقدم إلى مدارس الدراسات العليا، لكنني سألت نفسي: “ماذا لو أجبروني على المغادرة بعد ستة أشهر؟ لماذا يجب أن أتقدّم؟ ” أنا ضائعة تمامًا، وليس لدينا مكان نذهب إليه[47]. مع عدم وجود إحساس بالمستقبل، سيستمر اللاجئون وطالبو اللجوء في التأرجح بين قطبي الإذلال[48]، وسيواصلون نضالهم لبناء إحساس بالوطن ومعنى له.

الخاتمة

الإذلال، والكرامة، والخوف، والشعور بالخسارة، والشعور بالخيانة، وانعدام الأمن، والاغتراب، والتفكك، وعدم القدرة على الحداد، أمور حاسمة في عمليات تكوين هوية اللاجئين وصنع معانيهم، وهي تشكل تحديات منهجية، ولا يمكن تمثيلها إلا جزئيًا ببيانات كمية. ويجب على الباحثين أن يأخذوا في الحسبان مثل هذه التحديات، عندما يسعون إلى اكتساب رؤى عميقة، بخصوص عمليات إعادة التوطين والاندماج في البلدان المضيفة من جهة؛ وكيفية التعامل مع التخطيط لإعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع في ما يتعلق بالنسيج الاجتماعي السوري من جهة أخرى. توفر المقاربة الإثنوغرافية التأويلية، التي تهتم بالفهم المتعاطف لمعاني المشاركين وأفعالهم وأخلاقيات القوة، منهجًا لا يُقدر بثمن يُتيح لعلماء الاجتماع وصانعي السياسات فهم تعقيد ودينامية العالمين الاجتماعي والسياسي بشكل أفضل. ومن شأن هذه المقاربة، بحساسيتها للطابع غير القضائي لمعاني الحقائق الاجتماعية، أن توسّع إمكانات اعتماد سياسات أكثر ملاءمة، تعالج خصوصية تجارب اللاجئين في سياقات مختلفة، وكيفية نظرهم إلى هذه السياسات، واستجابتهم لها.

*- الآراء الواردة في هذا المادة لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز وموقفه من القضية المناقشة

اسم المادة الأصليDignity and Humiliation: Identity Formation among Syrian Refugees
الكاتبباسيليوس زينو، Basileus Zeno
مكان النشر وتاريخهBRILL، 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017
الرابطhttps://brill.com/view/journals/melg/9/3/article-p282_282.xml?language=en
عدد الكلمات6786
ترجمةوحدة الترجمة/ أحمد عيشة

المصدر.

المقالة السابقة
تقرير برنامج النساء صانعات القرار – جولة تونس
المقالة التالية
الاقتصاد النسوي في مجابهة لعبة الرأسمالية الصفرية

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X