إنشاء سجل Sign In

العملية الدستورية في سوريا: كيف يمكن الاستفادة من التجربة اللبنانية؟

Syrians for Truth and Justice سوريون من أجل الحقيقة والعدالة

العملية الدستورية في سوريا: كيف يمكن الاستفادة من التجربة اللبنانية؟

جهة النشر: Syrians for Truth and Justice سوريون من أجل الحقيقة والعدالة

  1. مقدمة:

قامت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” وبدعم من “الصندوق الوطني للديمقراطية NED” بتنظيم وتيسير عدد من الجلسات الحوارية، تحت عنوان “الطريق نحو دستور سوري جديد: كيفية الاستفادة من تجارب الدول الأخرى”.

هدفت هذه الجلسات الحوارية إلى إطلاع مجموعة متنوعة من السوريين/ات على تجارب أربع دول مختلفة. بعض هذه الدول يبدو أنها نجحت إلى حدّ كبير في معالجة مسألة التنوع والشمول بصورة صحيحة أثناء قيامها بعملية صياغة الدستور، بينما لم يحظَ بعضها الآخر بمثل هذا النجاح، أو أخفقت تماماً. في بعض هذه التجارب، كان عدم الامتثال للمبادئ الأساسية في سيادة القانون، خطوةً متعمدة، انطلقت من دوافع سياسية، وهدفت لاستبعاد مجموعات معينة على أساس تمييزي، وإلى حرمان هذه المجموعات -بشكل منهجي- من بعض حقوقها الأساسية؛ لا كمجموعات فقط، بل كأفراد أيضاً.

جاءت هذه الحوارات التي قامت بها “سوريون” باعتبارها تتمة لجهود سابقة بُذلت في صورة سلسلة من الاجتماعات، بدأت عام 2020 تحت عنوان (أصوات سورية لدستور شامل)، وكانت تهدف إلى تعزيز الشمولية في عملية صياغة الدستور، وضمان التمثيل العادل والمناسب للمجموعات المهمشة ومجتمعات الأقليات. بناء على تلك الاجتماعات تم نشر مجموعة من الأوراق التي ركزت بالترتيب على المواضيع التالية: (1) آلية تشكيل وعمل اللجنة الدستورية السورية؛ (2) قضية الشمولية/التضمين والتعددية؛ (3) العدالة الانتقالية والعملية الدستورية في سوريا؛ (4) الحوكمة والنظم القضائية؛ وأخيراً (5) العدالة الاجتماعية – الإيكولوجية والتجارب الشخصية.

توزعت الفئات المستهدفة خلال جلسات المشروع الذي تم تنفيذه عام 2021 على منطقتي شمالي غرب وشمالي شرق سوريا. مع الأخذ بعين الاعتبار التنوع الجندري والعرقي، حيث تم إشراك النساء والرجال، والكرد والعرب والايزيديين والآشوريين والأرمن والسريان ومجموعات عرقية أخرى. وقد تم التركيز بشكل خاص على الأشخاص الذين لم يشاركوا مسبقاً في اجتماعات شبيهة، حول الدستور والمفاهيم الدستورية وعملية إعادة صياغة دستور سوريا.

وكجزء من المشروع، نُشرت ورقة تعالج التجربة الدستورية في العراق، وتركّز الورقة هذه على التجربة اللبنانية، على أنّ يتم نشر ورقتين إضافيتين لمناقشة تجربة تركيا والبوسنة والهرسك. تهدف أوراق المشروع إلى التعريف بهذه التجارب، ودراسة بعض جوانبها ذات الصلة بالسياق السوري. فمن شأن المقارنة الموضوعية لمسائل محددة بين هذه التجارب والتجربة السورية أن تسهّل إجراء مشاورات أفضل وأكثر استنارة، وهذا سيؤدي إلى التوصل لتوصيات مناسبة حول الطريقة المثالية لصياغة دستور سوري جديد أكثر توازناً وشمولاً.

بعد عدة جلسات نقاش مثمرة جرت بين المشاركين والمشاركات وعدد من الأكاديميين المعروفين والخبراء في هذا المجال، خصصت “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” هذه الورقة لمناقشة التجربة الدستورية في لبنان.

  1. مفهوم “الدستور” بصفته عقداً اجتماعياً:

بالنظر إلى الواقع السياسي في كثير من دول العالم، وأبرز الأحداث في تاريخ هذه الدول -كالحروب، والصراعات الداخلية، والثورات التي أعقبت ظهورها كدول مستقلة عن القوى الاستعمارية أو بعد سقوط بعض الإمبراطوريات- يبدو من الواضح أن الهويات الوطنية المصطنعة حديثاً في العديد من هذه البلدان، بحدودها السياسية الحالية، لا تمثل بصورة شاملة جميع المجموعات داخل المجتمعات المحلية. وعلى هذا النحو، فإنها لا تتوافق مع رغبات جميع الشعوب المقيمة في تلك المناطق ولا تعكسها.

وعلى العكس من ذلك، يبدو أن هذه الهويات تمثل وتعكس -حصرياً- هوية الأغلبية المهيمنة أو المجموعة الأقوى وحدها. علاوة على ذلك، فإن هوية كهذه -سواء كانت عرقية أو ثقافية أو سياسية أو دينية- تُفرض غالباً باستخدام القوة على بقية المجتمع، في محاولة لمحو الهويات الأصلية للجماعات والأقليات الأخرى، بهدف هضمها واستيعابها في الهوية الوطنية الواحدة الخاصة بالأغلبية أو بالمجموعة الأقوى. وفي نهاية المطاف، تؤدي هذه السلوكيات الاستبدادية إلى صراعات عنيفة طويلة الأمد. وفي هذا الإطار، ما زلنا نشهد تداعيات الأفعال والسياسات المنهجية على شكل حركات سياسية مطالبة بالاستقلال، أو على شكل حروب أهلية.

خلال العقد المنصرم، كان هناك عدة استفتاءات شعبية في العديد من المناطق حول العالم التي دعت لتصويت شعبي على الاستقلال، وأوصت بحق هذه الشعوب في تقرير مصيرها؛ كما حصل في كتالونيا واسكتلندا وإقليم كردستان العراق. وقد تبعت هذه الاستفتاءات عواقب سياسية واقتصادية وخيمة عانتها الشعوب التي طالبت بحقها في تقرير مصيرها.

هناك العديد من القضايا الأخرى، التي تمثل جذوراً مباشرة وشائعة لبعض الصراعات المعلقة في معظم الدول التي تشكلت خلال النصف الأول من القرن الماضي (بما في ذلك سوريا والعراق وتركيا). من قبيل استحواذ مجموعات معينة على السلطة، وقيام هذه المجموعات باحتكار رسم السمات الرئيسة للهوية الوطنية الأوسع وفرضها على مجموعات أخرى في المجتمع. لجميع هذه القضايا أبعاد دستورية يجب فهمها قبل البحث عن الحلول المعقولة لها. وعلى أي حلول مقترحة لهذه القضايا -خاصة خلال أي صيغة من صيغ العدالة الانتقالية- أن تتضمن معالجة دستورية متماسكة وشاملة في المقام الأول.

كيف وصلت الديكتاتوريات في سوريا والعراق ودول أخرى إلى السلطة، وكيف تمكنت من الانفراد بالحكم طيلة عقود دون منافسة؟ هل تعتبر سلطةٌ كهذه شرعيةً؟ كيف يمكننا قياس مدى شرعيتها؟ أين تكمن شرعية السلطة، ومن أين تُستمد، ومتى تُفقد؟ ما هو معنى مبدأ “سيادة القانون” وكيف يمكن تحقيقه؟ ما هي المؤسسات التي يتطلبها؟ ما هي القوة والسلطة التي يجب أن تتمتع بها هذه المؤسسات؟ ما هو دور المواطن، وما هو مفهوم المواطنة في خضم هذا كله؟

كانت الأسئلة أعلاه بمثابة نقاط الانطلاق والتركيز خلال النقاشات التي أجريت ضمن الجلسات الحوارية. وهي تهدف إلى خلق فهم أعمق لمفاهيم “الدستور” و”شرعية السلطة”، قبل الخوض في التجارب الدستورية المحددة. وهي تجارب تم اختيارها لاستخلاص ما يمكن الإفادة منه، أو تجنبه، في أي محاولة مستقبلية لصياغة الدستور السوري. وكي يتم ذلك بطريقة قادرة على جعله منسجماً مع قيم القرن الحادي والعشرين، وباحترام تام لمبدأ سيادة القانون باعتباره أساس شرعيته.

قبل مقارنة التجارب الدستورية للبلدان المختارة، وقبل الخوض في المفاهيم والمعايير والحقوق والحريات الواردة في دساتيرها؛ كان من المفيد للغاية العودة إلى النظريات والتيارات الفكرية التي تعتبر أصول الدستورية الحديثة. ولهذه الغاية، كان القرن السابع عشر الميلادي أنسب نقطة انطلاق لخدمة الغرض المنشود من هذا المشروع.

خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر، ظهرت العديد من النظريات الاجتماعية والسياسية التي تُعرف اليوم بـ”نظريات العقد الاجتماعي”، والتي مهدت الطريق لظهور التيارات الفكرية التي كان لها تأثير عميق على مفاهيم السلطة والمواطنة والشرعية كما نعرفها اليوم. من بين أهم هذه النظريات، كانت نظريات الفلاسفة الإنجليز أمثال “توماس هوبز” و”جون لوك” والكاتب والفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو”. استندت النظريات التي اقترحها هؤلاء الفلاسفة إلى افتراضات مختلفة حول الطبيعة البشرية والنموذج المثالي لمجتمع تتحدد فيه العلاقة بين الأفراد والسلطة الحائزة على القوة من خلال مفهوم “العقد الاجتماعي”. من خلال مثل هذا العقد الافتراضي، يمنح الأفراد الشرعية للحاكم كسلطة لممارسة القوة على المجتمع، وذلك في سبيل حماية مصالح المجتمع والأفراد بأفضل طريقة ممكنة. وقد أسست بعض هذه النظريات تياراتٍ فكرية ألهمت وأسهمت في صياغة مبادئ الثورة الفرنسية عام 1789 والثورة الأمريكية عام 1765.

  1. المفهوم الحديث للدستور والنظم الدستورية:

تمتلك أغلب دول العالم -إن لم تكن كلها- دساتير، والتي تعتبر القانون الأعلى في هذه الدول. وعلى الرغم من التشابه الكبير في دلالة المصطلح “الدستور” في كل الدول، والفهم المشترك للمبدأ وما يتبعه من متطلبات، إلا أن صيغه وأشكاله قد تتعدد وتختلف فيما تتضمنه فعلياً بين بلدٍ وآخر.

غالباً تصاغ الدساتير عقب وقوع أحداث كبرى تؤثر بالهوية الوطنية أو تشكلها (حين يتم اعتبار مجموعة ما على أنها شعب). هذه اللحظات المُحدّدة للهوية، والتي تعيد تعريفها، وتمثل بداية جديدة أو نقطة تحول؛ تعرف بـ”اللحظة الدستورية”. أفضل أمثلة على هذه الأحداث الكبرى هي الحروب، كالحربين العالميتين الأولى والثانية؛ أو الثورات وحركات الاستقلال، كالثورة الفرنسية والقيم التي نادت بها، والتي ألهمت لاحقاً تشكيل الدساتير عبر أوروبا. وكالثورة الأمريكية التي أدت إلى استقلالها عن القوى الاستعمارية المسيطرة، التي تمثلت بالمملكة المتحدة آنذاك.

خلافاً للاعتقاد السائد، ليس ضرورياً أن تتم كتابة الدستور أو تجميعه في وثيقة واحدة، لأنه قد يعتمد على اتفاقيات دولية أو إقليمية ملزمة، بالإضافة إلى أعراف أو ممارسات غير مكتوبة. ففي المملكة المتحدة مثلاً، لم يجرِ بعد جمع القوانين الدستورية في وثيقة واحدة.

أما بالنسبة لأغلبية الدول، فهي تمتلك دستوراً تم تجميعه كتابةً في وثيقة واحدة. بشكل عام، تكون هذه الوثيقة صارمة وصعبة التعديل، بكل ما تتضمنه من قواعد وقوانين، وتتمتع بمقام أعلى إذ أنها تحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها. تتضمن هذه الوثيقة مجموعة من القواعد التي تحكم صياغة القوانين، وهيكلية الحكومة ومؤسساتها، وفصل السلطات، ونطاق مهام كل منها ضمن الدولة. بالإضافة إلى ما سبق، فإن من أهم وظائف الدستور تحديد وحماية الحريات الأساسية وحقوق المواطنين، سواء كمجموعات أو كأفراد.

حتى في الدول التي تمتلك وثيقة واحدة تدعى الدستور، فإن ما ينص عليه الدستور في دولة ما قد يكون مختلفاً تماماً عن عن دساتير الدول الأخرى؛ سواء من حيث توزيع السلطات والفصل بينها، أو من حيث تحديد الحقوق والواجبات الموكلة للأفراد والمؤسسات، عدا عن تحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها.

  1. وظيفة الدستور في تحديد شكل الدولة ونظام الحكم:

لمعرفة شكل الدولة أو نظام الحكم المعتمد فيها، من البديهي الإشارة إلى دستورها والنظر ببساطة في كيفية توزيع السلطات ضمن هيكلية هذه الدولة. يتكون التقييم من خطوتين أساسيتين: الخطوة الأولى هي النظر في التوزيع -عمودياً- للصلاحيات والسلطات بين مركز تلك الدولة ومحيطها؛ وهذا هو ما يحدد شكل الدولة؛ ما إذا كانت غير مركزية، أم مركزية على جميع المستويات كما هو الحال في سوريا، التي تعتبر دولة مركزية لحد بعيد. حيث نرى فيها جميع السلطات والقوى مركزة ومكثفة في العاصمة، على عكس الجمهورية العراقية التي تبنت النموذج الفيدرالي. أما الخطوة الثانية، فهي التوزيع والفصل -أفقياً- بين المؤسسات الأساسية ضمن هيكلية السلطة في الدولة؛ كالفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتحديد حجم الصلاحيات الممنوحة لها على حساب المؤسسات الأخرى. وهذا هو الأمر الذي يجعل نظم الحكم متمايزة عن بعضها البعض؛ فبعضها رئاسي مثلاً، كالولايات المتحدة؛ وبعضها برلماني، كهولندا وكندا.

تولي بعض هذه الدساتير أهميةً خاصة لمفهوم الهوية الوطنية، وتصاغ مقدماتها عادةً على شكل قصة سردية، كما في الدستور الصيني. تجسد هذه القصة -في معظم الحالات- فكرَ مجموعة معينة، هي المجموعة التي تمسك بالسلطة وتحكم المجموعات الأخرى ضمن المجتمع نفسه. من ناحية أخرى، قد لا تتضمن الدساتير الأخرى أي مقدمة، بل تدخل بطريقة مباشرة وعملية في جوهر المواد التي تنص على الحقوق الأساسية، كما في الدستور الهولندي.

حرصت بعض الدساتير على إدراج مواد وفقرات تكون غير قابلة للتعديل، وذلك في سبيل حماية هذه البنود من سهولة التغيير خلال التقلبات السياسية، وقد جاء هذا كرد فعل طبيعي عند بعض الشعوب على تجاربها التاريخية، كما في الدستور الألماني. فعلى هذا النحو ينص الدستور الألماني في البند الثالث من المادة 79 أنه لا يجوز تقديم أو قبول أي تعديل على مواد الدستور المتعلقة بفيدرالية الدولة الألمانية بوصفها اتحاداً، وحق الولايات في المشاركة في العملية التشريعية. وعلى هذا الأساس، قد يكون من الضروري أحياناً أن تُبدي الدساتير بعض الحزم لأجل حماية بعض المفاهيم والمبادئ الأساسية من سهولة التغيير. لكن هذا يمكن أن يستخدم أيضاً لإدامة سلطة شخص أو مجموعة معينة، أو لتكريس مفاهيم عنصرية أو تمييزية ضد الأقليات والجماعات والأفراد الآخرين ضمن المجتمع؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى صراعات في المستقبل، تنتج عن التغيرات الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية. وهنا تكمن أهمية أن نعي حساسية وصعوبة صياغة أو تعديل وثيقة من قبيل “دستور دولة”، بحيث تتضمن مفهوماً أكثر شمولاً وعدلاً حول المواطنة، وتستند -في المقام الأول- على المساواة واحترام الآخرين، بموجب مبادئ سيادة القانون؛ وتبقى صالحة وقابلة للاستمرار في المستقبل أيضاً، وليس في زمن صياغتها فحسب.

  1. لمحة تاريخية:
5.1 . الحقبة العثمانية:

في عام 1517 أصبح لبنان جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وطور نظامه السياسي الخاص به حتى القرن الثامن عشر.[1] تنامى التأثير الأوروبي في المنطقة عن طريق التجارة خلال مرحلة الحكم العثماني. كان الموارنة، وهم جماعة مسيحية، دينية-عرقية، أكثر تأثراً بفرنسا على وجه الخصوص، نتيجة اندماجها ضمن الهيكلية الدينية للكنيسة الكاثوليكية. وخلال القرن التاسع عشر، تمددت المجتمعات المسيحية نتيجة انتشار المدارس التبشيرية التي أنشأها الفرنسيون والأمريكيون، مما أخلَّ بالتوازن الديني التقليدي. كان معظم لبنان حينها تحت الحكم العثماني المباشر، باستثناء سنجق (متصرفية) جبل لبنان الذي تمتع بحكم ذاتي (لكنه أُخضع أيضاً لحكم صارم خلال الحرب العالمية الأولى).[2]

الشكل 1: التقسيمات الإدارية العثمانية 1914 [3]

يستند دستور لبنان الحالي لعام 1926، إلى تقاليد جبل لبنان. عندما أعلن عن التشريع الأساسي للجبل عام 1861 من قبل اللجنة الدولية، تم تأسيس مجلس إداري[4] مثَّل حينها المجتمعات الدينية الهامة بالتساوي، ويمكن ربط هذا تاريخياً بالنظام الطائفي الحالي والتمثيل المتساوي ضمن مجلس النواب (الهيئة التشريعية المتعادلة). علاوة على ذلك، كان من المقرر أن يدير لبنان حاكم مسيحي عثماني يتمتع بسلطة تنفيذية كاملة، بينما يتلقى المساعدة والدعم من المجلس.[5] كانت الهيكلية المؤسساتية مماثلة لتلك التي تم تبنيها عندما أعلن عن دستور عام 1926: تناط السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية، ويساعده الوزراء. كما توجب أن يكون الرئيس مسيحياً (مارونياً على الأغلب) بحكم العرف المتبع. وأخيراً، اعتُبر جميع سكان جبل لبنان سواسية أمام القانون، الأمر الذي انعكس أيضاً في دستور عام 1926 (المادة 7).[6]

5.2 . الانتداب الفرنسي:

احتلت قوات الحلفاء لبنان مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ووضع تحت الإدارة الفرنسية.[7] أُضفيَ الطابع الرسمي على الانتداب الفرنسي عام 1923، وقد وافق الموارنة على هذا القرار إذ كانت لهم الأفضلية في ظل نظام الانتداب. بعد الحرب، تمدد لبنان عما كان عليه قبلها، وأصبح “لبنان الكبير”. تغير التوزع العرقي فبات كل من المسيحيين والمسلمين يشكل حوالي 50% من مجموع السكان، ولم يعد الموارنة أغلبية.[8] رسمت حدود لبنان لتناسب مصالح فرنسا الاستعمارية دون أن تعكس إرادة غالبية السكان.[9] كان من الجلي أن جزءاً كبيراً من السكان يفضلون العيش في ظل سوريا أو دولة عربية على العيش في ظل الحكم الفرنسي وعلى الاستقلال عن سوريا.[10] وقد استمرت التوترات المتعلقة بالانتماء الوطني بين الجماعات حتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.

5.3 . الاستقلال:

تزامناً مع تحسين الخدمات والتعليم في لبنان في ظل الإدارة الفرنسية، تنامى الوعي الوطني ضمن صفوف الطبقة الوسطى في بيروت، وقد شكل هذا في نهاية المطاف دفعةً باتجاه الاستقلال.[11] وفي انتخابات عام 1943 فاز الوطنيون وانتخب بشارة الخوري رئيساً. وفي العام نفسه، توصل الخوري، مع رئيس الوزراء رياض الصلح، إلى تفاهم شفهي غير رسمي، اعتُبِر بمثابة “ميثاق وطني” وقد كان وثيقة تأسيس دولة لبنان المستقلة.[12] ورغم إعلان الاستقلال في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943، لم يسحب البريطانيون والفرنسيون قواتهم قبل عام 1945، واكتمل الاستقلال عام 1946 حين أصبح لبنان دولة ديمقراطية برلمانية.[13]

أجري آخر إحصاء رسمي من حيث التوزع العرقي للسكان عام 1932، لذا فلا توجد إلا أرقام تقديرية تتعلق بالتوزع الحالي. وفقاً لكتاب حقائق العالم لعام 2021 الصادر عن وكالة المخابرات المركزية CIA فإن 61.1% من سكان لبنان هم من المسلمين (30.6% سنة، 30.5% شيعة، ونسبة قليلة من العلويين والاسماعيليين)، و33.7% مسيحيين (الغالبية من الموارنة، ويوجد أيضاً الأرثوذكس الشرقيون، والبروتستانت، والكاثوليك الملكيون..إلخ)، و5.2% دروز وأقليات صغيرة أخرى.[14]

5.4 . الحرب الأهلية:

استمرت الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، وقد سبقها عاملان رئيسان من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي. فأولاً، أجرى الرئيس اللبناني شارل الحلو (1964-1970) إصلاحات أدت إلى زيادة التحركات داخل المجتمع والانتقال من الريف إلى المدينة.[15] ورغم هذا، لم يتم إدماج المجموعات التي انتقلت نحو المراكز الحضرية مثل بيروت كما يجب. استمرت التناقضات بين المهاجرين الريفيين والطبقات الحضرية العليا والمتوسطة. وهكذا، أصبح “حزام المستوطنات الفقيرة” الذي نشأ بحلول منتصف السبعينيات حول مدينة بيروت، بمثابة مصدر لعدم الاستقرار السياسي. أما ثانياً، فمع انتقال المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان، بعد طردهم من الأردن، شهد التوازن السكاني تغيراً استمر حتى عام 1973، حيث شكل الفلسطينيون عُشْر السكان.[16] ونظراً لأن الفلسطينيين كانوا فقراء في معظمهم ولا يملكون أرضاً، تقاطعت مصالحهم مع مصالح الفئات الفقيرة والريفية، والتي كانت غالباً من الفئات المسلمة. وهكذا أدى ظهور الدولة الفلسطينية، بصفتها “دولة داخل دولة”، إلى تقويض المزيد من التوازن الهشّ بين الفئات الاجتماعية في لبنان.

يعتبر تاريخ 13 نيسان/أبريل 1975 بداية الحرب الأهلية. عندما قام حزب الكتائب المسيحي بمهاجمة حافلة ركاب تقل مجموعة فلسطينيين إلى مخيم لاجئين.[17] وقعت الحادثة في سياق تصعُّد العنف بين المسيحيين الموارنة والمسلمين نتيجة ازدياد بروز حزب الكتائب. وقف الدروز إلى جانب المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية خلال الحرب وفضلوا جانب العروبيين.[18] قاتل الدروز تحت قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان يقوده “كمال جنبلاط”، وإلى جانب الأحزاب اليسارية والفلسطينيين، ضد الجبهة اللبنانية التي تألفت من المسيحيين بشكل رئيسي (خصوصاً الموارنة).

تعارض عاملان رئيسان مع عملية السلام خلال الحرب الأهلية، تمثلا بالتدخل الخارجي في الصراع (من قبل سوريا وإسرائيل بشكل رئيسي) وبالصراعات على السلطة داخل المجتمعات الطائفية، ما أدى إلى تقويض المفاوضات. في نهاية المطاف، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في أيلول/سبتمبر 1989 بواسطة لجنة ثلاثية ضمت كلاً من الجزائر والمغرب والمملكة العربية السعودية، وتم توقيع اتفاق الطائف. اتُّفِقَ على بقاء القوات السورية في لبنان لمدة تصل إلى عامين، وذلك لمساعدة الحكومة الجديدة في توفير الأمن. الأمر الذي عارضه العماد عون قائد الجيش اللبناني حينها. وانتهت الحرب الأهلية بتاريخ 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990، عندما هاجمت القوات السورية الجنرال عون ونفته.[19]

  1. إضاءات على الدستور اللبناني:
6.1. سمات بارزة:

إن أبرز سمتين في الدستور اللبناني هما أساساته الفرنسية، وتركيزه على تحقيق التوازن بين مصالح المجموعات الدينية والعرقية المختلفة.[20] ونظراً لأن صياغته تمت في ظل الانتداب الفرنسي، فلا غرابة إذن في شبهه مع القانون الدستوري الفرنسي. ولم يقتبس الدستور من النصوص الفرنسية فحسب، بل أيضاً من الدستور البلجيكي (1830) والدستور المصري (1923)، والتي تأثرت بدورها بالممارسة الدستورية الفرنسية. كما أن محتوى الفصل الثاني، الذي يحدد حقوق الناس وواجباتهم، مستمد أساساً من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان. هذا ويعود الفضل في مركزية مبادئ الحرية والمساواة في الدستور إلى التأثير الفرنسي. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 7 على المساواة أمام القانون، وتكفل المادة 8 الحرية الفردية، وتؤكد المادة 9 على حرية المعتقد الكاملة، وتضمن المادة 15 حقوق الملكية.[21]

مع هذا، ورث الدستور اللبناني أيضاً تقاليد الليبرالية المتطرفة وما ترتب عليها من ضعف في النظام البرلماني في الجمهورية الفرنسية الثالثة سابقاً.[22] أدى الشكل البرلماني للحكومة، والذي تضمن في البداية هيئةً تشريعية ذات مجلسين، إلى استمرار عدم الاستقرار. غالباً ما تحكمت في لبنان التغيرات المتكررة في التحالفات الوزارية المبنية على تحولات الرأي العام والتحالفات السياسية. لقد ثبت أن الهيئة التشريعية التي أقرها دستور عام 1926، والمكونة من مجلسين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ (ألغي الأخير عام 1927) كانت مكلفة للغاية وبطيئة وضعيفة الفعالية في حالة لبنان.

ثانياً، بينما ينص الدستور اللبناني على المساواة بين جميع المواطنين ويهدف إلى تأمين الوحدة الوطنية، فإنه لا يتجاهل التقاليد المحلية للطوائف الدينية المختلفة.[23] إذ تنص المادة 24 والتي -عُدِّلت بالقانون الدستوري الصادر في 17 تشرين الأول/أكتوبر 1927، و21 كانون الثاني/يناير 1947، و21 أيلول/سبتمبر 1990- على أن يكون في مجلس النواب تمثيل متساوٍ من المسيحيين والمسلمين، وتمثيل نسبي للطوائف التي تتضمنها هاتين المجموعتين الدينيتين، وأيضاً تمثيل نسبي حسب المناطق الجغرافية.[24] لكن كي تعكس الوحدة الوطنية بوصفها هدفاً، تنص المادة 27 بصيغتها المعدلة في 17 تشرين الأول/أكتوبر 1927 و21 كانون الثاني/يناير 1947 على أن عضو المجلس يمثل الأمة بأسرها.[25] إن مجمل التنظيم السياسي للدولة يدور حول مسألة التمثيل العادل لجميع الطوائف الدينية ومقاعد تمثيلها والتوزيع المتناسب للمناصب العامة.[26]

6.2 . السلطة التشريعية:

السلطة التشريعية منوطة بمجلس النواب (المادة 16).[27] يتألف المجلس من 128 نائباً منتخبين بشكل مباشر. وتتوزع المقاعد بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين (المادة 24).[28] تشمل الطوائف الدينية الإسلامية: السنة، والشيعة، والدروز، والعلويين. وتشمل الطوائف المسيحية: الموارنة، والروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والأرمن الأرثوذكس، والأرمن الكاثوليك، والإنجيليين، والأقليات. يمتلك مجلس النواب السلطة على:[29]

  1. الموافقة على، أو رفض، تشكيلة مجلس الوزراء (المادة 64).
  2. الإشراف على أداء مجلس الوزراء، ومحاسبة أعضائه، والتصويت لعزلهم عن مناصبهم عند الضرورة (المواد 37، 66، 68، 69).
  3. انتخاب رئيس الجمهورية (المادة 52).
  4. المصادقة على معاهدات واتفاقيات دولية من فئات معينة (المادة 52).
  5. إقرار الموازنة السنوية للدولة (مادة 32).
6.3 . السلطة التنفيذية:

السلطة التنفيذية منوطة بمجلس الوزراء (المادة 17). لكن رئيس الجمهورية أيضاً يتمتع بسلطة تنفيذية شكلية. أعضاء مجلس الوزراء ليسوا أعضاء في البرلمان، لكن يمكن لأعضاء البرلمان أن يعملوا كوزراء.[30] يتم تعيين المجلس من قبل الرئيس بالاتفاق مع رئيس الوزراء (المادة 53). يرأس مجلس الوزراء رئيس الوزراء، وقد حُددت صلاحياته في المادة 64، وتشمل ما يلي:

  1. المشاركة مع رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة.
  2. عرض سياسة الحكومة أمام مجلس النواب.
  3. توقيع المراسيم مع رئيس الجمهورية.
  4. الإشراف على عمل مجلس الوزراء.

يمتلك مجلس الوزراء السلطات التالية، بناء على المادة 65:

  1. وضع السياسة العامة للحكومة.
  2. تنفيذ القوانين والأنظمة والإشراف على الإدارة المدنية والعسكرية والأمنية.
  3. تعيين وعزل موظفي الدولة.
  4. حل مجلس النواب بناء على طلب رئيس الجمهورية.

يُنتخب الرئيس “باقتراع سري، وبأغلبية ثلثي مجموع أصوات مجلس النواب” (المادة 49). صلاحيات الرئيس مبينة في المادة 53. لكن، بموجب اتفاق الطائف، جُرِّد من صلاحياته الدستورية، ولم تُترك له سوى سلطة واحدة هامة، تتمثل في تعيين أعضاء مجلس الوزراء مع رئيس الوزراء.[31]

6.4 السلطة القضائية:

تم تناول السلطة القضائية في مادة واحدة، هي المادة 20، التي تشترط ما يلي:

تُمارَس السلطة القضائية من قبل المحاكم، على جميع المستويات وفي جميع الأقضية، ضمن الإطار المنصوص عليه في القانون، الذي يوفر الضمانات اللازمة لكل من القضاة والمتقاضين […] القضاة مستقلون في ممارسة واجباتهم، وتصدر قراراتهم وأحكامهم باسم الشعب اللبناني“.[32]

رغم هذا، لم يتحقق معيار استقلال القضاء بسبب القوانين التي تم سنها.[33] فأولاً، يعاني القضاء من تدخل السلطة التنفيذية من خلال قيام وزارة العدل بتعيين القضاة وترقيتهم وإعادة تكليفهم. وثانياً، إن نطاق اختصاص المحكمة الدستورية التي أُنشئت بموجب تعديل عام 1990 محدود، وكذلك قدرتها على إعادة النظر. يحق فقط للرئيس ورئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء وعشرة نواب على الأقل، وكذلك رؤساء الطوائف الدينية المعترف بها، تقديم التماس إلى المحكمة لإعادة النظر.

6.5. النظام الانتخابي:

بما أن لبنان يتبع النموذج البرلماني، فإن مجلس النواب يُنتخب مباشرةً من قبل الشعب. كي يتمكن المواطن اللبناني من الانتخاب، ينبغي أن يتجاوز سنَّ الحادية والعشرين (المادة 21) وأن يكون منتمياً إلى إحدى المجموعات الطائفية المعترف بها، سواء كانت مسيحية أو مسلمة.[34] للنظام الانتخابي اللبناني خمسة عناصر أساسية:

  1. أساس الحق في الترشح طائفي: لا يمكن أن يتنافس على المقاعد إلا مرشحون ينتمون إلى الطائفة التي خُصصت لها هذه المقاعد.
  2. أساس الحق في التصويت غير طائفي: يمكن للناخبين التصويت لجميع المقاعد الطائفية المتاحة، بغض النظر عن المجموعة الطائفية التي ينتمون إليها.
  3. يمتلك الناخبون أكثر من صوت: يستخدم لبنان دوائر انتخابية متعددة الأعضاء. يمكن للناخبين التصويت لأكبر عدد من المرشحين طالما أن هنالك مقاعد متاحة.
  4. يدلي الناخب بصوته مستخدماً ورقة اقتراع واحدة: يختار الناخب الأسماء التي يود التصويت لها، ويدونها على ورقة اقتراع واحدة. يمكن للناخب أن يختار بعض الأصوات فقط من مجمل الأصوات التي تحق له.
  5. نظام أكثرية/أغلبية: فحين تمتلك طائفة ما مقعداً نيابياً واحداً، يفوز بهذا المقعد أي مرشح من تلك الطائفة يحظى بأكبر عدد من الأصوات. وحين تمتلك الطائفة أكثر من مقعد نيابي واحد، يفوز بهذه المقاعد مرشحون من تلك الطائفة، ممن حصلوا على أكبر عدد من الأصوات.[35]

7. أبرز التغيرات في الدستور اللبناني:

7.1. إعلان الدستور 23 أيار/مايو 1926:

عينت السلطات الفرنسية في تموز/يوليو 1925 لجنة لإعداد مشروع الدستور الذي أعلنه المفوض السامي الفرنسي في 23 أيار/مايو 1926.[36] نص الدستور على “تأسيس حكومة برلمانية على أساس المبادئ الديمقراطية وحماية الحقوق الفردية والحريات والفصل بين السلطات وسيادة القانون”.[37] تحول النظام السياسي اللبناني إلى فدرالية شبه دينية أو نظام طائفي بسبب متطلبات التمثيل الديني في المجلس التشريعي والوظائف العامة.

رغم إعلان المادة (1) من الدستور أن لبنان دولة مستقلة داخل حدودها الإقليمية، إلا أن المادة (90) منه تنص على أن “سلطة الانتداب يجب أن تحافظ على حقوقها وواجباتها بموجب المادة (22) من ميثاق عصبة الأمم وشروط الانتداب”[38]. وهكذا كان لفرنسا الحق في تعليق العمل بالدستور، وإغلاق مجلس النواب، وانتخاب رئيس الجمهورية، وإقالة مجلس الوزراء.

7.2 تعديل 17 تشرين الأول/أكتوبر 1927:

نظراً لعدم كفاءة الهيئة التشريعية ذات المجلسين لبلد صغير مثل لبنان، فقد ألغى التعديل مجلس الشيوخ أو المجلس الأعلى (تعديلات المواد 16، 18، 19، 22، 23، 24 وسواها). وبدلاً من ذلك، نص التعديل على وجوب ممارسة السلطة التشريعية من قبل مجلس النواب فقط. تم تقسيم المجلس إلى فئتين: الأعضاء الذين يتم انتخابهم بموجب المرسوم رقم 1307 لعام 1922 أو أي قانون لاحق، وأولئك الذين يعينهم الرئيس. (رغم هذا، فقد تطلب التعديل الدستوري في آذار/مارس 1943 أن يكون جميع أعضاء المجلس منتخبين).[39]

7.3 تعديل 8 أيار/مايو 1929:

تناول تعديل عام 1929 حق النواب في إثارة مسألة حجب الثقة، واختيار الوزراء من ضمن أعضاء مجلس النواب، وصلاحيات الرئيس، والإجراءات المتبعة في الانتخابات للمنصب. أثر التعديل على المواد 28، 37، 49، 55، 69. تم تعديل المادة 28 بحيث يمكن اختيار الوزراء من المجلس أو من خارجه، وألغي الشرط الخاص بنسبة الوزراء الذين يجب أن يكونوا من أعضاء المجلس.[40] تم تمديد الولاية الرئاسية من أربع إلى ست سنوات.[41]

7.4 الميثاق الوطني، عام 1943:

يمكن النظر إلى الميثاق الوطني على أنه حل وسط بين المسيحيين والمسلمين، للتعامل مع أزمة الهوية الوطنية في لبنان. منذ بداية الانتداب الفرنسي، كان هناك عدم توافق في الآراء بين المسلمين الذين تماهوا مع العرب/سوريا الكبرى، والمسيحيين الذين رأوا أنفسهم لبنانيين وأرادوا علاقة وثيقة مع الغرب. اقترح “بشارة الخوري” و”رياض الصلح” حلاً تمثل في “الاعتراف بعروبة لبنان وقبول شرعية واستقلال الدولة اللبنانية كوطن نهائي لجميع مواطنيها”[42]. وبذلك يتخلى المسيحيون عن ولائهم للغرب، ويقبلون بهوية عربية؛ بينما يتوقف المسلمون عن المطالبة بدولة عربية، ويقبلون بهوية لبنانية.

بعد الميثاق الوطني والاستقلال، تمددت ممارسة المحاصصة الطائفية حتى شملت تخصيص مكاتب حكومية معينة لمجموعات معينة. بينما أسند دور الرئاسة إلى مسيحي ماروني، ورئاسة الوزراء إلى مسلم سني، ورئاسة مجلس النواب إلى مسلم شيعي.[43] قام خلاف حول ما إذا كان هذا التوسع في الطائفية جزءاً من الميثاق الوطني،[44] بدليل أنه في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1946 تم انتخاب مسيحي أرثوذكسي (وليس مسلم شيعي) رئيساً لمجلس النواب[45]. وعلى الرغم من أن رئاسة أركان الجيش خصصت للدروز بشكل عام، إلا أنهم كانوا معزولين إلى حد كبير بسبب التعيين الجديد للمناصب،[46] ومع ذلك تمكنوا من معالجة مظالمهم السياسية من خلال الحزب التقدمي الاشتراكي وممثليه في البرلمان.

7.5 تعديلات عام 1943:

أزال التعديل المعتمد في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1943 جميع الإشارات إلى الانتداب الموجودة في الدستور.[47] كما وسع ممارسة المحاصصة الطائفية بسبب قرار ممثل الانتداب الفرنسي الذي أصدره في تموز/يوليو 1943 ونص على أن يتبع التمثيل الديني في مجلس النواب نسبة 6 إلى 5 (المسيحيون إلى المسلمين). نص التعديل الصادر في 7 كانون الأول/ديسمبر 1943 على تغيير العلم اللبناني.

7.6. تعديلات 21 كانون الثاني/يناير 1947:

هدف هذا التعديل إلى السماح بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية “بشارة الخوري”. تم تعديل الدستور مؤقتاً للسماح للرئيس بخلافة نفسه وتأمين ولاية رئاسية ثانية مدتها ست سنوات.[48]

7.7 اتفاق الطائف 23 تشرين الأول/أكتوبر 1989:

اجتمع من تبقى من أعضاء البرلمان اللبناني -الذين انتخبوا عام 1972- في الطائف بالمملكة العربية السعودية، وذلك لقبول حزمة إصلاحات دستورية. اقترح اتفاق الطائف “إعادة هيكلة متواضعة للنظام الطائفي في سبيل تهدئة الفصائل المتحاربة” وإنهاء الحرب الأهلية.[49] هدفت الاتفاقية إلى معالجة قضية الهوية الوطنية المشوشة في جذور الحرب الأهلية. وقد نصَّ اتفاق الطائف -بشكل عام- على القضاء التدريجي على الطائفية.

7.8. تعديل 21 أيلول/سبتمبر 1990:

هدفَ تعديل عام 1990 إلى تنفيذ أحكام اتفاق الطائف. وبناءً على متطلباته، تم اعتماد التعديلات التالية:

  • كل سلطة تتعارض مع ميثاق التعايش غير شرعية (الديباجة).
  • تقليص السلطة التنفيذية لرئيس الجمهورية، وتمت إناطة هذه السلطة بمجلس الوزراء (المادة 17).
  • يحتاج مجلس الوزراء إلى ثلثي الأصوات في كل القرارات الرئيسة (المادة 65).
  • إنشاء المحكمة الدستورية (المادة 19).
  • تغيير تقسيم المقاعد البرلمانية والمناصب الوزارية والمناصب الإدارية العليا، نسبة 6 إلى 5 (المسيحيون إلى المسلمين) إلى نسبة متساوية (المادة 24).
  • إنشاء مجلس شيوخ يمثل جميع الطوائف الدينية عندما يتوقف انتخاب مجلس النواب على أساس طائفي (المادة 22).[50]
7.9. تعديل أيلول/سبتمبر 2004:

صدر قرار عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قبل التعديل، استهدف سوريا وطالب القوات الأجنبية بمغادرة لبنان.[51] لكن سوريا رفضت القرار. ونتيجة لذلك، صوت مجلس النواب في أيلول/سبتمبر 2004 على تعديل الدستور لتمديد ولاية الرئيس “إميل جميل لحود” ثلاث سنوات. أثار التعديل مرة أخرى مسألة السيادة اللبنانية والتدخل السوري. إذ أجري التصويت تحت الضغط السوري، وتم جزئياً من خلال المخابرات العسكرية السورية. ونتيجة لهذا الضغط من قبل سوريا، منحَ مجلس النواب ولايةً أخرى للرئيس “إميل لحود”.[52]

  1. كيفية استفادة السوريين من التجربة اللبنانية:

رأى معظم المشاركين والمشاركات في الجلسة الحوارية المنعقدة في إطار مشروع “الطريق نحو دستور سوري جديد: كيفية الاستفادة من تجارب الدول الأخرى” حول التجربة اللبنانية، أنّ هذه التجربة مشابهة إلى حد ما للتجربة السورية، حيث عانى لبنان من النزاع ومن التدخلات الخارجية ومن توزيع السلطة على أساس طائفي. كما رأوا أن الوصول لحل سياسي يجمع فئات المجتمع كافة دون إقصاء أمر أساسي، إلى جانب أهمية تحقيق الديمقراطية المجتمعية لضمان حصول كافة أفراد المجتمع على حقوقهم دون تمييز، بغض النظر عن العرق، اللون، الانتماء، والنوع الاجتماعي.

كذلك أشار المشاركون والمشاركات إلى غنى التجربة اللبنانية من حيث التعددية السياسية والتي تتعلق بتعدد الأحزاب والتيارات السياسية، وأكدوا على أن إدارة التعددية تستوجب أخذ عدة إجراءات بعين الاعتبار، منها قاعدة الكوتا أو التمييز الإيجابي (أي تخصيص بعض المقاعد لجماعات معينة تجنباً للعزل الدائم)، إلى جانب الإدارة الذاتية الحصرية في بعض الشؤون، بالإضافة إلى سيادة الأنظمة الفيدرالية.

أما عن كيفية تطبيق التعددية السياسية في سوريا، فكان رأي بعض المشاركين والمشاركات بأنه لا بد من الاستفادة من الدساتير الأخرى، ومن تطبيق مبدأ حرية الأحزاب وهو مبدأ عام ويطلب مشاركة الجميع. كما أشار البعض إلى وجوب وضع ضوابط لمنع استغلال التباينات والاعتراف بها من أجل تخطيها. فالتعددية برأيهم يجب أن تكون شاملة، وهي ضرورية لنجاح أي دستور.

كذلك دار الحوار خلال الجلسة حول الديمقراطية في لبنان، ورأى بعض الحضور أنها كانت ملازمة للتاريخ اللبناني، فعلى سبيل المثال، عند وقوع المنطقة العربية تحت الحكم العثماني، قامت لبنان بتشكيل مجالس مؤلفة من جميع فئات المجتمع، وهو ما يعني تقاسم السلطات بين أطياف الدولة الواحدة، حيث ارتبط بقاء لبنان بتقسيم السلطة بين الطوائف المتعددة مع احترام مكانة ودور كل طائفة خاصة من ناحية حرية المعتقد وخصوصية التعليم.

هذا وقد تناول النقاش في الجلسة العلاقة بين ما حدث في لبنان وما يحدث في سوريا بالمنظومة الدستورية، وكيف أن المشكلة ليست بالدستور بل بنظام الدولة وممارسة الحكم وعدم الاستقرار أمنياً، حيث لا ينتظم أي دستور -حتى في أرقى المجتمعات- ما لم يكن الوطن يتمتع بالسيادة. وعليه، فقد أجمع المشاركون والمشاركات على أن الدستور اللبناني من أغني دساتير العالم، ولكنه الأسوأ من حيث تطبيقه، فهو دستور لا طائفي، محدد في منظومة متحضرة تضم حرية الاعتقاد المطلقة. كما أكدوا على أهمية تجميع الخبرة التاريخية الدستورية في سوريا، لتكون المنطلق في سبيل ترسيخ بعض المبادئ الأساسية.

ومن النقاط التي أضاء عليها المشاركون والمشاركات، المعايير العالية في الدستور اللبناني والمتمثلة في التركيز على أن لبنان دولة موحدة، وعلى أهمية الحفاظ على خصوصية المكونات (من حيث أنظمة الأحوال الشخصية والتعليم)، والحفاظ على تركيبة المجلس النيابي المتوازنة (بين المسلمين والمسيحين)، وإعادة توزيع المهام بين رئيس الجمهورية والمجلس النيابي. كذلك ينفرد لبنان بأن دستوره أعلى من النصوص الأخرى فلا يعلو عليه نص ديني أو طائفي. هذا وإن القاعدة الدستورية تنص على أن الشعب هو مصدر السلطات وأن حرية الاعتقاد مطلقة في الدستور.

ناقش المشاركون والمشاركات الثمن الذي دفعته دولة لبنان لإنهاء النزاع ألا وهو الوصاية السورية عليها، والتي أنهت سيادة الدولة عملياً وغيّبت العدالة حين حصل أمراء الحرب على عفو شامل. لذا ما حصل في لبنان لم يكن مصالحة حقيقية -وهو ما يجب عدم تكراره في سوريا- لأن النظام في لبنان عانى لاحقاً من المشاركة السياسية المبنية على الطائفية، وانتقاص الديمقراطية (حيث قامت مثلاً انتخابات غير نزيهة وازدادت سلطة المخابرات). كذلك عانى لبنان من اتساع الفجوة السياسية والاجتماعية فيما يتعلق بمسألة الميليشيات وبالتالي تزعزعت دولة القانون، ما أدى إلى إفراغ السيادة اللبنانية وانهيار النظم الدستورية. رأى بعض الحضور أن تطبيق النظام الفدرالي قد يكون مناسباً في سوريا، حيث أن نسيجها السكاني متنوع، كما أنها جغرافياً قابلة لتطبيق مثل هذا النظام، ولكن لا بد أولاً من أن يكون هناك توافق وتوفر للنية الفعلية لدى جميع الفئات لتعديل الدستور والحفاظ على جيش واحد للدولة والتخلص من التدخلات الخارجية التي تشكل نقطة ضعف في سوريا.

  1. التوصيات:

استناداً إلى النقاشات التي رافقت الجلسة التي عقدتها “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” حول التجربة الدستورية في لبنان، يمكن استخلاص التوصيات التالية:

  • على الدستور السوري أن يؤكد على وحدة الدولة والحفاظ على خصوصية المكونات الاجتماعية المتنوعة وحرية الاعتقاد المطلقة.
  • النص على التعددية وحماية الحقوق بالإضافة إلى تطبيق قاعدة الكوتا أو التمييز الإيجابي بتخصيص بعض المقاعد لجماعات معينة تجنباً للعزل الدائم لهم. مع استبعاد التعددية الطائفية لأنها قد تكون مدخلاً لإضعاف الانتماء الوطني للهوية، ولفتح الباب أمام بعض الدول الإقليمية والدولية لتنفيذ أجندتها في سوريا.
  • الاستمرار في عقد ورشات التوعية ورفع القدرات حول الدستور والمشاركة السياسية وتضمين مختلف مكونات الشعب السوري فيها على الدوام.

المصدر.

المقالة السابقة
بودكاست تعو نحكي-العبء النفسي من الصراعات والحروب وكيف نتعامل معها كنسويات!
المقالة التالية
ما بين الصراع السياسي والعنف السياسي، سورية نموذجًا

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X