إنشاء سجل Sign In

السلطة والتقدّم

موقع صفر

مراجعة لكتاب «السلطة والتقدم» – تأليف: دارن أسيموغلو وسايمون جونسون

بقلم: مايكل روبرتس

ترجمة: حاتم بشر

الناشر: موقع صفر

  • مراجعة لكتاب «السلطة والتقدم» تأليف دارن أسيموغلو وسايمون جونسون، الذي يقدّم وصفاً تاريخياً شاملاً للطريقة التي عملت من خلالها التكنولوجيا على الارتقاء بمستويات معيشة البشر وتحسين ظروفهم، وكيف تسبّبت في البؤس والفقر وتعميق التفاوتات الطبقية في الوقت نفسه.

دارُن أسيموغلو هو خبير بارز في المجال المعني بتأثير التكنولوجيا على الوظائف والأفراد والاقتصادات. سبق لي أن أشرت إلى أعماله في منشورات عدّة. وأصدر بالتعاون مع زميله سايمون جونسون كتاباً جديداً بعنوان «السلطة والتقدّم: ألف عام من الصراع على التكنولوجيا والرفاه». لا يتضمّن هذا الكتاب الكثير من الفصول والمقاطع التي تصف الشواهد التجريبية المتعلّقة بأثر التكنولوجيا على نمو الإنتاجية أو على دخول الغالبية مقابل القلّة. فقد سبق للباحثين القيام بذلك في الأوراق والأعمال السابقة المشار إليها في منشوراتي.

يقدّم لنا كتاب «السلطة والتقدّم» وصفاً تاريخياً شاملاً للطريقة التي عملت من خلالها التكنولوجيا على الارتقاء بمستويات معيشة البشر، وكيف تسبّبت في البؤس والفقر وتعميق التفاوت في الوقت نفسه. 

يطرح أسيموغلو وجونسون السؤال التالي: «ألسنا أكثر رفاهاً قياساً إلى الأجيال السابقة، التي كانت تكدح نظير أجرٍ زهيد وغالباً ما كانت تلقى الموت جوعاً، وذلك بفضل تحسين طُرُق إنتاج السلع والخدمات؟». وهما يجيبان: «بلى، نحن أفضل حالاً بكثير قياساً إلى أسلافنا. وحتى فقراء المجتمعات الغربية ينعمون اليوم بمستويات معيشة أعلى مقارنة بأوضاَعهم قبل ثلاثة قرون، ونحن نظفر بحياة أطول وأكثر صحّة، ونتمتع بوسائل الراحة التي لم تَدُر للأجيال التي عاشت قبل بضع مئات من السنين في خَلَد. ويشكّل التقدّم العلمي والتكنولوجي بطبيعة الحال جزءاً حيوياً من تلك القصة، وهو حجر الأساس لأي عملية مستقبلية تهدف إلى تحقيق الرفاه العام بلا ريب. 

بيد أنهما يجادلان بأن هذا لم يكن حصيلة التكنولوجيا بحد ذاتها، فلقد «نشأ الرفاه العام حينما استقل التقدّم التكنولوجي وطريقة المجتمع في اقتسام الخيرات عن الترتيبات المكرّسة أساساً لخدمة النخبة المحدودة. لقد انتفعنا بالتقدّم، ومردّ ذلك إلى حرص الأسلاف على تكريس هذا التقدّم لفائدة السواد الأعظم من الناس. وكما أدرك الكاتب الراديكالي جون ثيلوال في القرن الثامن عشر، حين يحتشد العمّال في المصانع والمدن يسهل عليهم الالتفاف حول المصالح المشتركة والمطالبة بالتقاسم المُنصف لمكتسباتِ النمو الاقتصادي. إن أوضاع غالبية الناس في جميع أنحاء العالم اليوم هي أفضل بالقياس إلى أسلافنا، لأن مواطني وعمّال المجتمعات الصناعية المبكرة تحدّوا خيارات النخبة المتصلة بالتكنولوجيا وظروف العمل، والأشكال الجائرة لتقاسم المكتسبات الناجمة عن التحسينات التقنية، ونظّموها على نحو أكثر إنصافاً».

ويشير أسيموغلو وجونسون إلى أن «الثورة الصناعية» التي شهدتها بريطانيا ثم أوروبا والولايات المتّحدة تالياً، لم تؤدِ إلى ارتفاع متوسّط الدخل الحقيقي لغالبية العمّال حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. 

ويتفقان مع التحليل الذي أوردهُ فريدريك إنغلز في كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنكلترا» المكتوب في العام 1844: فقد ابتُلى النسّاجون اليدويين وغيرهم من العاملين في الحرف اليدوية المختلفة في المدن بالبؤس حين استولت الآلات على وظائفهم، ولم يحصل الفلاحون الذين قصدوا المدن مع ذويهم من أجل العمل في المصانع سوى على أجورٍ زهيدة.

وبحسب المؤلفيْن، فقد استلزمت الزيادة الحاسمة في الدخول تدشين المنظمات العمّالية، واستحداث التشريعات الحكومية، والبدء في تعميم الرعاية الاجتماعية.

كما يشيران إلى أن «العصر الذهبي في أواخر القرن التاسع عشر تزامن مع حقبة التطوّر التكنولوجي الحثيث والتفاوت الرهيب في الولايات المتّحدة، كما هي الحال اليوم. لقد ازدهرت الشركات والأشخاص الذين بادروا إلى الاستثمار في التقنيات الجديدة واغتنمُوا الفرص، لا سيما ضمن القطاعات الاقتصادية الديناميكية، مثل السكك الحديدية والصلب والآلات والنفط والبنوك، وتمكّنوا من تحقيق أرباح طائلة. وبرزت شركات لا مثيل لها من حيث الحجم إبّان هذه الحقبة. فقد وظّفت بعض الشركات ما يقرب من 100 ألف شخص، وهو عدد فاق بكثير عدد المنخرطين في الجيش الأميركي في ذلك العهد. وعلى الرغم من ارتفاع الأجور الحقيقية بالتزامن مع توسع الاقتصاد، اتسعت فجوة اللامساواة بما لا يقاس، وتردّت ظروف عمل الملايين الذين كانوا يفتقرون إلى الحماية في مواجهة أصحاب العمل المتمتعين بالسلطة الاقتصادية والسياسية. حقّق البارونات اللصوص، كما كان يُطلق على أولئك الأثرياء عديمي الضمير، ثروات فاحشة، لا بفضل البراعة في استدخال التقنيات الجديدة فحسب، بل ومن خلال الاستحواذ على الشركات المنافسة. كما أدّت العلاقات السياسية دوراً مهماً في المساعي الرامية إلى الهيمنة على القطاعات التي يعملون فيها».

إنها نفسها ظلال أواخر القرن العشرين والحقبة الحالية.

ويتدبّر الكتاب في ما يمكن القيام به لضمان توزيع الثمار التي ينتجها «رَكْب» التكنولوجيا الحديثة مثل الروبوتات والأتمتة والذكاء الاصطناعي على الغالبية، بدلاً من قَصْرها على القلة دون سواهم.

ويرى كل من أسيموغلو وجونسون أن «المديرين من خرّيجي كليّات إدارة الأعمال لا يرون في التقدّم التكنولوجي أكثر من فرصة مواتية لخفض الأجور وخفض تكاليف العمالة، وذلك بفعلِ التأثير المستمر لمبدأ فريدمان القائل بأن الهدف الوحيد والدور الوحيد للشركات ينحصر في جني الأرباح». ولكن هذا رأيٌ ساذج. صحيح أن الهدف الرئيس للشركات الرأسمالية يتمثّل في تحقيق الأرباح، وصحيح أن ذلك هو بيت القصيد، ولكن ليست أيديولوجية فريدمان هي التي تتسبّب في هذا، وإنما الدافع الضروري لتحقيق الأرباح هو الذي يخلق أيديولوجية فريدمان.

وكما يشير المؤلفان، تنشأ التناقضات في ظل نمط الإنتاج المتمحور حول الربح: «تكمن المشكلة في وجود مجموعة غير متوازنة من الابتكارات التي تبالغ في إعطاء الأولوية للأتمتة والمراقبة، وتفشل في توفير المهام والإمكانيات الجديدة للعمّال. إن إعادة توجيه التكنولوجيا لا تعني بالضرورة الحدّ من الأتمتة أو حظر عملية تجميع البيانات؛ وإنما تعني العمل على تشجيع تطوير التقنيات التي تكمل القدرات البشرية وتعزّزها. بيد أنه في ظل الرأسمالية لا يحدث ذلك.

فكيف نستطيع التغلّب على هذا التناقض؟  يلجأ المؤلفان إلى «أدوات السياسة» المعتادة المتمثلة في فرض الضرائب ودعم الأبحاث والتنظيم والحد من الاحتكارات التكنولوجية الكبيرة وتعزيز النقابات العمّالية. ولكن كل هذه التدابير أخفقت بصورة أو بأخرى في تعميم ثمار التكنولوجيا في الماضي، وستنتهي إلى النتيجة نفسها في الوقت الحالي، لو حدث وتمّ اتخاذها.

يحرص المؤلفان على تفادي الوصول إلى الاستنتاج السياسي الواضح، الذي يفيد بأنه إذا كانت ثمار التكنولوجيا تؤول إلى الحائزين على السلطة، فإن تعميم تلك المكتسبات يستوجب سيطرة وامتلاك الغالبية وليس النخبة التقنية المحدودة على التكنولوجيا، وذلك عن طريق الملكية المشتركة. لا يكفي الاقتصار على محاولة القيام بإخضاع إيلون ماسك للضوابط، أو فرض المزيد من الضرائب عليه والإصرار على السماح بتكوين النقابات العمالية. هذه التدابير إذا فُعّلت قد تساعد، بيد أنها لن تحدّ على الإطلاق من سلطة رأس المال على التكنولوجيا.

يتشدّد المؤلفان في رفضهما للحلّ المتمثل في الدخل الأساسي الشامل باعتباره شكلاً من أشكال التعويض عن البطالة التكنولوجية. والحق أن الدخل الأساسي الشامل ليس فعّالاً في تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، لأنه يتيح الموارد لا إلى أولئك الذين يحتاجون إليها فحسب، بل إلى الجميع. وعلى النقيض من ذلك، اقتصرت غالبية البرامج التي شكلت أساس دولة الرفاه في القرن العشرين في جميع أنحاء العالم على إتاحة الموارد، بما فيها الإنفاق الصحّي وإعادة التوزيع، للمحتاجين دون سواهم. ونظراً لهذا القصور في الاستهداف، يتسم الدخل الأساسي الشامل بارتفاع التكلفة وانخفاض الفعالية قياساً إلى المقترحات البديلة»

وبالمثل، يشكّل الدخل الأساسي الشامل على الأرجح حلاً خاطئاً للمعضلة الحالية، ولاسيما بالمقارنة مع التدابير الرامية إلى خلق فرص جديدة للعمّال. تشير الكثير من الشواهد إلى أن الشعور بالمساهمة في إضافة القيمة إلى المجتمع، تُعمّق الشعور بالرضا عند الناس كما تعمّق انخراطهم في المجتمع. في الدراسات العلمية، يشير الأشخاص إلى تحسّن الصحّة النفسية عندما يعملون قياساً إلى الاكتفاء بتلقّي الدخل، ليس ذلك فحسب، بل إنهم يعربون عن استعدادهم للتخلّي عن قدْر كبير من المال بدلاً من التخلّي عن العمل والاكتفاء بالمداخيل البحتة».

والحقّ أن الدخل الأساسي الشامل يتسق مع رؤية نخبة البزنس والتكنولوجيا، التي تتلخّص في كونهم الأفراد المستنيرون والموهوبون الذين يتعيّن عليهم الجُود على البقية بالمال. وعلى هذا النحو، فهو يهدئ سائر السكّان ويعمّق الفروق في الأوضاع. وبعبارة أخرى، إنه لا يقضي على الطبيعة المنقسمة للمجتمع، بل يعاود التأكيد على هذه الانقسامات المصطنعة. 

هناك الكثير مما يمكن قوله في ضوءِ البيانات التجريبية الجديدة المتعلقة بأثرِ التكنولوجيا في حياتنا، وسوف أعود إلى تناول هذا الموضوع في المنشورات المستقبلية. أما ما يقوله كتاب «السلطة والتقدّم» عن التكنولوجيا وأثرها الإيجابي أو السلبي على حياتنا، فيتلخّص في أن من يملك السلطة هو الذي يُحرز التقدّم.

نشر هذا المقال على مدوّنة مايكل روبرتس في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

المصدر.

المقالة السابقة
العنف بين النَّبذِ المجتمعي والتّشريع السياسي: أيُّهما الواقع في تونس؟
المقالة التالية
دعوة – تعاقد مع مدرب/ة لتنفيذ تدريب حول اتفاقية الشباب من أجل الأمن والسلام

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X