بقلم: عماد الصحناوي
الزلازل البشرية على مقياس ريختر
على الرغم من المشهد الكارثي لزلزال 6 شباط، والذي هزّ قلوب الجميع، فإنّ أحداً لم يحقد عليه، وشعور الحقد لم يكن حاضراً بين الضحايا، هذا ما يشير إلى كون الجيولوجية ليست خصمَ أحدٍ، فلا أحد يحمل ضغينة اتجاهها. في هذه المنطقة تحديداً ـــ في امتناع الخصومة ـــ تظهر طبيعتنا الإنسانيّة العميقة، ففي اللحظة التي نشعر فيها بآلام الآخرين، تبدأ إنسانيتنا، الجميعُ عرضةٌ للخطر ومتساوون أمام جبروته، كما لا يمكننا الفرار منه. ولكن لماذا وجودنا يصبحُ إنسانياً عندما نتضامن مع الآخرين، أو نقف على آلامهم؟ هل لأن الألم ينتج الوعي بضرورة تجاوزه، وعدم تدوير أسبابه؟ في الحقيقة العالم الذي نعيش فيه مليء بالزلازل، وربما أقلها خطراً الكوارث الطبيعيّة، فالزلازل التي يخلفها الواقع، أقسى بما لا يقاس مما تخلفّه الطبيعة؟
زلزال1
بالنظر إلى معنى وَطَنَ، فإنه يحيل إلى سَكَنَ، واستوطن الأرض، سكنها. وسَكَنَ تحمل معنى السكون والسكينة، الأوطان هي ما يمنح وجودنا سكينةً وشعوراً بكينونتنا، إنها أماكنُ نفسيّة يمكن أن نقف فيها بثقة من دون أن تتهددنا المخاوف، وحين يشعر الإنسان بكينونته يصبح العالم أليفاً، فالمألوف والمتآلف، يتغذّى كلاهما من الألفة وهي المحبة. ولكن لماذا العالم الذي نعيش فيه ليس أليفاً؟ أو، لماذا نعيش في عالمٍ متوحش؟ التوحش هو نزع الألفة عن الأشياء، والأشياء المنزوعة الألفة هي المُوحِشة. فجأةً كلّ شيء يغدو رمادياً، لا ننتمي إليه، يتملكنا شعورٌ بأننا وحيدون في مهبه، منفصلون عنه وعن كلّ شيء. أن يصبح العالم موحشاً، يعني أنّ أبواب التوحش مشرعةٌ على اتساعها. هنا يجدر سؤالٌ: ما هي الأوطان التي صنعناها حتى الآن؟ أليست في أحسن الأحوال ملاجئ وملاذات آمنة، أو آلياتٍ صُممت لعزله عنّا؟ لكن الخوف يحدث رغم هذا، فهو يتغذى على تهديد ما لا يمكن كبحه، ولم تنجح الجدران في إبقائه خارجاً، الخوف الذي جعل العالم متوحشاً، سوف يحمل المسؤولية كاملةً عن كل الزلازل المحتملة
زلزال2
الناجون من تحت الأنقاض كانوا أكثر من صورٍ لألمٍ بعيد لا يشبهنا، لقد كانوا ألماً شخصياً، جعلنا نتنفس الهواء الضيّق للضحايا. كثيرون منّا كانوا يدركون أنّه لن تتوفر الفرص لإنقاذ الجميع، الانحياز والعقائد التي حالت دون وصول المساعدات في وقتها، كانت أقوى من الكارثة والألم، ففي هذه الأمكنة العقائدية لا يتوفر التضامن الإنساني، والعملة الوحيدة التي تستخدمها عملة النفي والاقصاء، مع ذلك، خارج هذه الحظائر والأسوار، كان الفرح إثر النجاح في خروج ناجٍ من تحت الأنقاض، يعادل فرحاً شخصياً كما لو كنّا نحن الناجون، النجاح زاد الثقة بإنقاذ المزيد، الكلّ أراد أنّ يمدّ يد المساعدة، لقد شاهدنا وسمعنا الكثير من القصص، كانت من نوع “من أحيا نفساً كمن أحيا النفوسَ جميعها”، ولكن لماذا لا يستمر هذا المشهد؟ لماذا هذا التضامن الإنساني لم يحمل طابع الديمومة يوماً؟ لماذا لم يراكم الألم عبر تاريخه الطويل الوعيَ بضرورة تجاوزه؟ ثم لماذا نعيد الأسباب نفسها التي تنتج الزلزال؟
زلزال3
الزلزال باعتباره كارثة طبيعيّة، لم يكن متحيّزاً إلى نوع الضحيّة، لم يعترِ المتضامنون مع الكارثة أيّ تحيّزٍ تجاه جنسِ أو نوع الناجي، من المهم فقط أن يخرج من يخرج على قيد الحياة، ذكراً كان أم أنثى، هذه المساواة الجندريّة لم يفرضها الزلزال، فالصفائح التكتونيّة لا تهتمّ ولا تكترث بذلك. هذه المساواة تظهر حين نكترث فقط بالإنسان كاملاً، وبأهميّة وجوده القصوى. يجب إدراك هذه المساواة كجزء أصيل من طبيعة وجودنا الإنساني، وأنّ انحرافنا عن هذه الطبيعة، يعني أن رختر الواقع سيسجل هزّات جديدة وغير مسبوقةٍ.
زلزال4
“رغباتنا وتفكيرنا/ هما الأيادي، التي بواسطتها يقودنا آخرون إلى حيث يريدوننا أن نرغب” فرناندو بيسوا ” راعي القطيع روبيرتو كايرو ـ
في كتابه “الشرّ السائل”، يشير “باومان” إلى أنّنا نعيش في عصر الخوف والسلبيّة والأخبار السيئة، فلا سوق للأخبار السارّة، فليس هناك من يهتمون بها ــــ وإن كانت قصص الكوارث الكبرى والتدمير الشامل الزاخرة بالابتهاج والمغامرة شيئاً مختلفاً تماماً ــــ وهذا ما يؤدي إلى الانتشار الشامل للذعر وصناعة الخوف، فالسرعة غير المسبوقة للحياة والتغيير الاجتماعي، تنطوي على نسيانٍ وفقدان للذاكرة الأخلاقيّة، تجعل البدائل غائبة وتمنع وجودها، وحين يصبح الإنسان مُستهلكاً، سيخفي حياده القيمي حقيقةَ انسحابه من الواقع.
هزّة ارتداديّة
إذا لم تقدم الحقائق حتى الآن سوى تأخرنا الإنساني
لماذا ننكر على الأوهام أن تكمل ما بدأته الحقائق.
الموتى كثيرون
لكن أقلّهم تحت الأنقاض
أضف تعليق