إنشاء سجل Sign In

الجمعة العظيمة

صدى الجنوب

الجمعة العظيمة

بقلم: إيناس عزي

جهة النشر: صدى الجنوب

اعتادت صديقتي ذلك المشهد منذ الطفولة، لم يفتها مرةً، كيف لا وهي ابنة راعي الكنيسة. أما أنا فتلك كانت مرتي الأولى.
ورود وتماثيل، أعلام منكسة، صلبان متنوعة الأشكال والأحجام، فرق كشفية وموسيقية، قساوسة ورهبان. أطفال وشباب وكبار في السن. يسيرون في شوارع دمشق. يُذكّرون بآلام المسيح، يستعيدون ساعاتِه الأخيرة، تعثره، صراخ الجنود الرومان، تدافع الناس لرؤيته على طريق الجلجلة ليُصلب. آلام تحمّلها ليمنحنا الحياة الأبدية، وليحررنا من الخطيئة.
كانت تلك هي الجمعة الحزينة، وتسمى أيضا جمعة الآلام أو الجمعة العظيمة. وكان ذلك قبل سنوات طويلة.
بلا تصميم مسبق. تحول يوم الجمعة في السويداء إلى يوم ينتظره جميع السوريين، في الساحة، أو في البيوت، أو هناك بعيداً في بلاد اللجوء. وفود من القرى البعيدة والقريبة. من المدينة نفسها، عائلات بأكملها، أطفال وشباب وكبار في السن، طبول وأغاني ودبكات، خيول، أعلام ملونة وبيارق مطرزة.


يتحرك رَوَاد بخفة بين الحشود، لا يتوقف عن التقاط الصور. صور توثق لحظات شعب قرر الخروج من الكهف، كهف أفلاطون، رأى الضوء، الحقيقة، ولن يرضى بالعودة للعتمة ثانية.


يلتقط رواد صوراً لأحياء يغنون ويهتفون للآلام التي عاشوها، وصوراً لشهداء، لمغيبين ومعتقلي رأي، نورس أبو زين الدين، فراس العريضي، حمود عقيّل، ناصر بندق الذي لا تزال زوجته فريزة وولداه، اللذان أصبحا شابين، في انتظاره.

على شاشة هاتفه تظهر ديمة حاملة صورة والدها، وفاة ابنها قبل أسابيع لم تُثنِها عن المشاركة في الحراك، هي التي سرق النظام سنوات ثمينة وطويلة من حياة والدها.
سُرق منا كل شيء، وأثمن ما سُرق، تلك الأوقات الحميمة التي يُفترض أن يُمضيها البشر معاً!
يلتقط رواد صوراً يرفعها المتظاهرون لكمال جنبلاط، شبلي العيسمي، حمود الشوفي، فهد الشاعر الذي لم تشفع له رتبته العسكرية ولاوسام أمية ذو الوشاح في النجاة من الاعتقال، ليمضي بقية حياته وحيداً منعزلاً وعاجزاً عن وقف اهتزاز رأسه من شدة التعذيب.

يوثق رَواد صورةً لـ (مهسا أميني) الناشطة التي قتلتها قوات الأمن الإيراني. تحملها إحدى نساء الحراك وصباياه. أرادت ان تقول أن كل القضايا العادلة هي قضيتنا في ساحة الكرامة.
في مجتمع لا يزال إلى الآن يعاني من التمييز، من الإقصاء، من جرائم الشرف، تتصدر النساء حراك السويداء. بأثوابهن الملونة. تزين رؤوسهن أغصان الزيتون والأفكار الخلاقة، عن الحرية، عن القانون والدستور والديمقراطية، يتقدمن بقوة ستجعل للشرف مقاييس جديدة. ومعايير ترتبط بحرية المرأة، بفكرها وكرامتها لا بجسدها. الأمل بالتغيير وحده ما يدفعهن للقدوم.
تضحك إحداهن وهي تدعو لفنجان قهوة في منزلها. فقد تراكمت لديها أعمال المنزل، ينتقل الضحك لآخريات، جميعهن أهملن أعمال المنزل اليومية، لقد اكتشفن أن لهن دوراً أهم بكثير، دوراً في السياسة، في إدارة الحياة خارج المنزل.
يحمل وفد أم الرمّان صورة ابنهم أسعد، أسعد الهيب، شهيد الفزعة، الذي هب لنجدة جيرانه إثر اقتحام دورية أمنية لقريته، أسعد الهيب، شكلاً وروحاً، الذي صار لقبه لقباً لكل شاب خُطف وعُذب وقتل على أيدي عصابات أفلتها النظام لنبقى في دوامة من الخوف والذعر.
عشرات خُطفوا وقُتلوا في السنوات الماضية، بدءاً من ناصر، الطفل الذي ترك ليموت جوعاً، وانتهاء بيوسف الذي دُفن مرتين.
صور وصور، وصور، معتقلون مغيبون شهداء تحت التعذيب ضحايا لتفجيرات، وبين الفينة والأخرى يوثق رواد صوراً لأخيه صلاح أيضاً! الأخ الأصغر، الذي قُتل، أثناء غارة جوية للنظام على حلب بداية الحرب، بينما كان يشارك في توزيع هدايا على الأطفال هناك، يرسم ويلون ويلعب معهم

الجمعة العظيمة
الشهيد صلاح صادق مع أطفال حلب


أزياء رومانية يرتديها شابات و شبان يمرون عبر الساحة، يرفعون لافتات تُذكر بآثارنا، المنهوبة، المدفونة تحت شوارعنا، المهملة. حضارات تعاقبت على هذا المكان، كنائس ومدرجات بنيت على الطراز البيزنطي في عهد الغساسنة، حضارة سكنها أبناء السويداء لاحقاً. عاشوا بين آثارها وبنوا منازلهم من حجارتها، وها نحن الآن بلا ذاكرة، وبمتحف فارغ.!

في الكتاب المقدس الذي تركته لي صديقتي قبل أن تغادر كملايين السوريين أقرأ: “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون”. دروز ومسلمون ومسيحيون. نساء ورجال. أبناء المدن والقرى، نشطاء و رجال دين، ولا فرق، لا حشود على الجانبين للفرجة. الكل في الساحة. الكل معاً، هكذا هي ساحة الكرامة.
لافتات تُرفع للتضامن مع المدنيين الأبرياء في كل مكان، في حمص، إدلب، غزة.
صوت الحياة يطغى على صوت الموت، على آلام تحمّلها السوريون لنصف قرن، نريد أن نُخَلّص من الشر، نُريد أن نتذكر، أن لا ننسى، وأن نسامح

يهز صوت الساحة السويداء، ساحة أعادت الأمل للبشر، حلم التغيير، وأمل طال انتظاره لعقود.
ساحة زارتها قبل أيام روز، وَعمرها بضع ساعات فقط، يحملها والدها ضاحكاً رغم ما عاناه من قهر هو الذي عاد أخوه يوماً شهيداً تحت التعذيب، يحملها وكأنه يقول لنا، “هذه سوريا العظيمة”.
والجمعة العظيمة، لم تأت بعد.

المصدر.

المقالة السابقة
منحة Émile Boutmy للدراسة في فرنسا
المقالة التالية
عائلات المعتقلين والمفقودين.. تحديات قانونية ومعيشية وآثار نفسية اجتماعية (دراسة ميدانية لعيّنة من العائلات السورية)

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X