إنشاء سجل Sign In

التحليل النفسي حبر أحمر

«تشير جوديث بتلر إلى أن جسد فوكو كموقع للمقاومة ليس سوى النفس (أو الروح) ’Psyche‘ بالمفهوم الفرويدي. ومن المفارقات، أن الجسد هو الاسم الذي وضعه فوكو للجهاز النفسي بقدر ما يقاوم سيطرة الروح. فـ فوكو في تعريفه المعروف للروح على أنها سجن الجسد، قالِباً التعريفَ المعياري الأفلاطوني المسيحي للجسد على أنه سجن الروح، فإنه يقول عملياً إن الجسد ليس هو الجسد البيولوجي، ولكنه ذاك العالق بالفعل في نوع من الأجهزة النفسية السابقة على الذات»

سلافوي جيجك

عن الحرية الزائفة وإمكانية التحرر المُلغاة، يروي سلافوي جيجك في كلمته أمام محتجي حركة «احتلوا وول ستريت» نكتة المواطن من جمهورية ألمانيا الديمقراطية الذي يحصل على عمل في سيبيريا، وللتحايل على الرقابة على البريد، يتفق مع أصدقائه: «دعونا نخترع رمزاً؛ إذا كانت الرسالة التي تصلكم مني بالحبر الأزرق العادي فهذا يعني أن مضمونها صحيح، وإذا كانت بالحبر الأحمر فمعنى ذلك أن المضمون كاذب». بعد شهر يتسلّمُ أصدقاؤه رسالة مكتوبة بالأزرق: «هنا كل شيء رائع.. المخازن ممتلئة والمنازل مدفأة، سينما وجميلات ينتظرنك للمواعدة، لكن الشيء الوحيد غير المتوفر هو الحبر الأحمر…».

والمفكر السلوفيني، الهاجسُ بالتحليل النفسي وضرورته في فهم السياسات السيكولوجية للرأسمالية المعاصرة، يستخدم هذه الأمثولة مشيراً إلى وضعنا الراهن، حيث إن كنا «نشعر بأننا أحرار، فبالتحديد لأن ما ينقصنا هو الحبر الأحمر: اللغة نفسها تلك التي تسمح لنا بأن نُعبّر عن انعدام حريتنا (..) وهذا يعني أن كل المفاهيم التي نستخدمها لنُشير إلى حاضرنا»، أسئلته وصراعاته، «.. هي زائفة، تشوه إدراكنا للحالة بدل أن تسمح لنا بالتفكير فيها. والمهمة هي توفير الحبر الأحمر».

بالتدقيق في مفارقة النكتة، فقد يكون أحد الجوانب الأبعد إقذاعاً فيها هو أن السلطات بطبيعة الحال تدرك الشيء المتعلق بالإمكانية البديلة للتعبير، وتُوفِّرُ فقط الحبر الذي يجعل كشف حقيقة الأشياء مستحيلاً!

وهذه النقطة التي هي -عملياً- مدارُ المبحث التقليدي لنقد الإيديولوجيا في النظرية الماركسية، وبشكل أوسع لدى جميع منظري مؤسسة التنوير، هي أيضاً كل المسألة في فكر جيجك: فالأفكار والمعتقدات الأوسع انتشاراً بين الطبقات الأكثر تضرراً من النظام القائم هي أفكار مدروسة ومُوجَّهة بغرض الهيمنة، وذلك هو الدور الفعلي للإيديولوجيا. والهيمنة كما تَصوَّرها أنطونيو غرامشي ليست السيطرة العنيفة، بل القدرة الفاعلة للطبقات الحاكمة على تبرير الأوضاع القائمة وعلى إسباغ المعنى، ومن جهة أفراد المجتمع هي الامتثال والقبول، الخضوع السلبي الذي يكفي لتستمر هيمنة الإيديولوجيا المُهيمِنة.

ولا يتعلق هذا بلعن الهيمنة، بل بفهمها بما هي منطق الإيديولوجيا، وبإعادة تأسيس هيمنةٍ إيديولوجية تحررية تعمل على تمكين مَلكَات التفكير النقدي وتحرير الفرد بالإفادة من هذا الفهم.

الواقع الإيديولوجي

عندنا هنا في تركيا المجنونة، حيث كل تركي يولد سلطاناً،2 ليست أزمة الحبر الأحمر خافية، تتبدى تومئ من وراء عياء اليمينيين واليساريين أمام الكاميرات، يتذمرون من اللاجئين أو يدافعون عن اللاجئين، يمجدون بلادهم وشعبهم أو يُذنّبون بلادهم وشعبهم، مع وضوحِ حقيقةِ أن اللاجئين ليسوا هم المسألة، ودون أن يكونوا قد قالوا كل ذاك الذي يريدون قوله: من وراء هذا، ومن وراء كل كلام فردي، تناجي روحٌ تُريد أن تُسمَع، ليس أيٌّ منها سيئاً أو شريراً. وهذه الذات المدفونة تَستخدم اللغةَ العامةَ لغةً خاصةً لتقولَ نفسها، وتحتاجُ اللغةُ الخاصةُ هذه إلى تحليل: فذلك كان الإنجاز الفكري الاستثنائي لفرويد، الذي يعني أمراضياً وثقافياً الكثير، حيث أن المفهوم الفلسفي للذات في الاستخدام التحليلي يُحيل إلى ذات اللاوعي، وليس إلى الذات الواعية (الأنا).

فالمفهوم الحديث للنفس، الذي طَوَّره سيغموند فرويد في نحته مصطلح تحليل النفس «Psychoanalysis»، مُستمدٌ من أسطورة إغريقية عن سايكه «Psyche» إلهة البراءة الإنسانية أو الجهل الجميل، وهي أسطورة يتردد صداها في أقاصيص كثيرة مثل قصة (بياض الثلج): فتاةٌ من بنات البشر على قدر مبهر من الجمال، وبدافع الغيرة من بنت الإنسان ترسل آلهةُ الجمال ابنها إيروس ذا السهام، إله الحب والرغبة، في مهمة لِجعلها تقع في حب وحشٍ بشع، ولكن إيروس وما إن يرى سايكه الجميلة حتى يشرد فيصيبَ نفسه بسهامه فيقع هو في حبها، ويعيشان قصة عاصفة ومليئة بالمصاعب، تنتهي بصعود سايكه محفل الخالدين في جبل الأولمب، بحكمٍ من زيوس إله المحاربين وكبير آلهة اليونان، حيث ينجبان أطفالاً خالدين بينهم هيدوني (المتعة).

وفي تأملاته في قصة سايكه وإيروس، يقول الكاتب الفرنسي لوك فيري إن أهل الأزمنة القديمة التي كانت تتداول هذا الموروث، كانوا حين يسمعون القصة يُعلّقون عند أن سايكه ستقع في قبضة وحش بشع بشيء للتوكيد من قبيل: أي والله، أو بلى ستفعل، إدراكاً منهم أن الوحش البشع هو الحب نفسه، لتَصُبَّ الأمثولة في هذا التأويل في معنى التشكّي من آلام الحب التي فيما هي تحرر الإنسان من نفسه، تُخلِّفُ آلاماً بالغة.

قبل وبعد التحليل النفسي لطالما فُهِمَت الأعراض النفسية على أنها مثلها مثل الأعراض الجسدية، تُحيل إلى اضطراب «Disorder»، وهو ما يَفترض نظاماً سابقاً «Order»، لكنَّ فرويد رأى أن الأعراض غير المفهومة التي يُبديها المريض «تصير مفهومة فقط بدراسة تاريخها، فشكُلها الصدمي الأصلي الذي ظهرت فيه أولَ مرة هو المعنى اللاواعي، وطالما أن السياق كله لم يُعرَف بعد فلا يمكن فهم الأحداث في حياة المريض التي تشير إليها الأعراض. الأعراض الهستيرية والسلوكيات القهرية غير المفهومة تصير مفهومة بتَتبُّعِ تاريخها».3

وبعد، فلَدى سؤال جاك لاكان حول إلى أي مدى كان فرويد، كما يَشيع، مُكتشِفاً من نوع داروين وكوبرنيكوس، صَحَّحَ أنه لربما أن فرويد أقرب إلى شامبليون، العالم الفرنسي الذي تمكّنَ من فكّ رموز الكتابة الهيروغليفية في حجر رشيد، وهذا التشبيه كفيلٌ بتوضيح معنى الأعراض فرويدياً: فقبلَ التمكُّن من ترجمة الهيروغليفية التي استخدمها الفراعنة في تأريخهم، كان الكم الهائل من المعلومات والأخبار التاريخية والمعارف المتعلقة بالحضارة الفرعونية، المكتوب على جدران المعابد والبرديات والمسلّات والأوابد الفرعونية، موجوداً ومعروفاً جيداً للباحثين كرسوم وتصاوير، دون التَمكُّن من معرفة معناه. ولكن فقط مع العثور على حجر رشيد الذي تضمَّنَ نصوصاً بالهيروغليفية وباليونانية القديمة مقابلها، كان ممكناً فهم حضارة وسياق ثقافي بأكمله: الأَعراض هي الكتابة الهيروغليفية قبل اكتشاف معناها، وفرويد هو شامبليون. يقول لاكان في هذه النقطة إننا لو حاولنا أن نفهم الكتابة الهيروغليفية بالاستناد إلى معارفنا فلن نستطيع استنتاج الكثير: صورٌ لرجال ورماح وطيور وحيوانات مفترسة، وماذا إذن؟ قد تُحيل هذه الرموز إلى معاني معينة لدينا لكن ذلك مشروطٌ بنظام المعنى الخاص بنا وبسياقنا الثقافي، والذي لن يساعدنا كثيراً في فهمٍ فعليٍ لمعناها.

«قارّةُ اللاوعي» كما يحب الفرويديون التعبير: ما اكتشفه فرويد كان أن ما هو مكبوت تحت الترتيب الرمزي للحضارة، يعود في أَعراض، وهذه الأعراض4 بطبيعتها مُنافية لمثاليات وترتيبات الحضارة (النظام الرمزي) الذي ينبني على المبادئ الذكورية والحقائق المأساوية التي يتأسس المُشترك الإنساني على تنظيمها، فيما الأَعراض، القادمة من العلاقة المُلغاة مع الأم، هي قوى وجودية تمردية دافعة لقوى الحياة.

فالحضارة متأتيةٌ نفسياً من العلاقة مع الأب، الذي يرمز للتحريم الأساسي والقانون والوعي ويمثل الدالَّ الأول للّغة الصحيحة، بينما الأخرى، أي المكبوتات العائدة في أعراض، قادمةٌ من العلاقة بالأم، الرامز الأساسي للطبيعة المُقصاة إلى الأبد والمستحيل استعادتُها، والتي تُلخِّص نفسها للذات في وجوه الاضطراب في حياتها النفسية المُعاشَة: حلم، فكرة مستحيلة، عارضٌ يُشتت انسجامَ الذاتِ المتخيل، فشلٌ متكرر قادم من حقيقيِّ الذاتِ المُقصى إلى الأبد بمجرد الاضطرار إلى استخدام اللغة. لقد لازمَ وصف المستحيلِ اسمَ النظام الحقيقي في اللاكانية، فالحقيقيُ يُشير تقنياً إلى الواقعة البيولوجية المحضة (الجسد)، وإلى الخصائص الأصلية والسمات الوجودية للفرد في كينونته النظرية المطلقة.

ويتنزّلُ اهتمام لاكان بالنظام الحقيقي في المرحلة الأخيرة من تعليمه، بينما يُشدّد شُرّاحه على أن نموذج الحلقات الثلاثة المترابطة: الحقيقي (الجسد) والخيالي (التصور) والرمزي (اللغة)، نموذجٌ رياضيٌ مرتبطٌ بنظرية المجموعات في الرياضيات. في الرياضيات فإن مجموعة الأعداد الحقيقية هي مجموع كل الأعداد الطبيعية (الأعداد الصحيحة الموجبة 1، 2..) والصحيحة (الأعداد الطبيعية وسوالِبها) والعشرية (الأعداد البينية التي تُكتبَ على شكل فاصلة عشرية)، مضافاً إليها القيم الرياضية غير القابلة للكتابة مثل الجذر التربيعي لـ 2 والنسبة فاي والقيم التقريبية ورمز اللانهاية.. إلخ.

يأتي التكرار المرضي (الأعراض) «من الحقيقي» الذي هو «الفجوة في قلب النظام الرمزي». مهمة الرمزي هي نسيان هذه الفجوة، التي حدثت قبل الخيالي والرمزي، وعَبَّرَت عن نفسها في الموضوع الكلّي المجهول للرغبة اللاواعية التي تدور حولها حياة الأنا الواعية. «الحقيقيُ» هو «ما كان دائماً هناك»، ولكن مع ذلك فإنك لو رأيته ستندُّ عنك صرخة من الأعماق استفظاعاً، وستسقطُ مغشياً عليك: إنه جسمٌ خارجيٌ ومجهولٌ هو أنت، لم يُشمَل بأيٍّ من اللغة أو صورتك الذاتية.

هناك صورٌ نمطية عن التحليل النفسي، لكن واحدةً منها حقيقية: أن التحليل يجعلك «تواجه الحقيقة»، وشدَّ ما يفعل. من الضروري أن تكون لحظات نهاية التحليل النفسي، على المستوى الشعوري، لحظات بِهول شعور أوديب في المسرحية التراجيدية أوديب ملكاً، حين يدرك أنه قتلَ أباه وأنجبَ من أمه. وأيضاً، فشكْلُ القفزة الأخلاقية البطولية التي يتطلّبها التحليل النفسي ليست أقل ألماً من بتر عضو من الجسد، في حالة أوديب اقتلاعُه عينيه بدبابيس فستان أمه المنتحرة للتو، وفي حالة التحليل النفسي إدراكُ وظيفة الخصاء: «الخصاء الرمزي»، حيث نسبَ أرسطو في فن الشعر إلى التراجيديا وظيفة التنقية، قاصداً ما نستشعره وندركه عند مشاهدتنا لمأساة على المسرح أو الشاشة.

يتحول أوديب إلى قديس، ويتحول المُحلَّل نفسياً إلى إنسان فاهم سعيد بكونه على قيد الحياة، مُتمتّعٍ بالكينونة وحسب، والتي نسيانُها اغترابٌ كان هو موضوعَ النقد الهايدغري للحضارة الحديثة وللميتافيزيقيا الغربية والعصر التقني، الذي في تركيزه على الحقائق النظرية «ينسى الوجود». تطورت ما تُعرَف بالفلسفة الوجودية من تَذكُّر الوجود، وكانت الهايدغرية إحدى المفاتيح الفلسفية التي فَعَّلَها لاكان في قراءته الاستعادية لفرويد.

ما حدث لأوديب بعد ذلك أنه أخذ على عاتقه مسؤولية رغبته، وعاش حياةً واتَّصفَ موقفُهُ بعدم التنازل.

وفي هذا الجانب، ليس أقل من أن تطلب من نفسك المستحيل، على الذات أن تجد خلاصها..

مفهومان حاسمان في التحليل النفسي

1- الخصاء!

ينتظم العالم الرمزي الإنساني وفق مركزية فالوسية (قضيبية).

والمفهوم الأخير، الذي يستخدمه فرويد ولاكان بمعنى القوة الأسطورية والرمزية المنسوبة إلى الذكورة، يعني في العالم الإنساني عكسَ معناه الحرفي: فهو رمز القوة التي يتشاركها الإنسان مع الآخرين في المجتمع ما إن يلجم رغباته الضيقة مقابل متعة الرغبة في الشرف الاجتماعي وحَمْل اسم الأب، أي مقابل المتعة الفالوسية، التي يصفها لاكان بـ«المتعة التافهة»، أي المتعة المُصمَّمة بمحدودية: مثل متعة احتساء القهوة، أو القيام بالواجبات الاجتماعية.

ومعظم الناس عصابيون، لأن معظمهم يسيئون فهم مبدأ الخصاء، ويلتزمون به مع شيء من غضب يُنتِجُ عودة المكبوت في أَعراض، حينَ الظنِّ بأن الخصاء مفروضٌ فيما الحقيقة أن «للتمتع حدوداً طبيعية» كما يقول لاكان، وكان فرويد قد اختار لهذه الحدود الطبيعية اسم الخصاء. وبتحديد أكثر، صنعَ فرويد مفهوم الخصاء للدلالة على ظاهرة رآها غريبة، حيث عند حدّ معين تتوقف قدرة المريض على التعامل الذهني لأسباب وثيقة الصلة بتاريخ تطوره النفسي. يفترض تصور القرن التاسع عشر عن الإنسان، والذي عاصره فرويد، أن طبيعة الإنسان هي العقل، وأن العقل قوة مطلقة مثل الآلهة لا تعرف الحدود، فكان فرويد حينئذ يتعامل مع واقع مختلف، فهذا الشخص القادر على ذائقة لغوية عالية أو مهارة في مجال معين، يتسم بعجز إزاء مجالات أخرى. وبشكل عام أعطى فرويد اسم الخصاء لهذا الحدّ الطبيعي. يرتبط هذا الحدّ بالجدلية النفسية الطفولية (الأوديب)، وبالخوف المرضي لدى الرجال من الفقدان الفوري للقوة، «والذي بمجرد حدوثه يُرتّب نتائج في الواقع»، ويؤسس لامتلاك ذاتية (فالوس) في مجتمع. يَخاف العصابي من الخصاء، لكن إدراك الخصاء، أو الخصاء الرمزي الذي هو النهايةُ الواقعيةُ لتحليل نفسي ناجح عادةً، هو في الحقيقة إدراكُ الكيفيات الاجتماعية لحقيقة الحضارة: أن الطريقة الوحيدة السوية إنسانياً لامتلاك الذاتية هي الانتماء إلى الافتقار المتساوي إليها، أي الانتقال من سجلّ المتعة الأمومي إلى سجلّ الرغبة الأبوي، والتخلي عن الوهم المراهق بوجود متعة أخرى تتجاوز النظام الاجتماعي،5 والتهذّب العميق والحس الاجتماعي التالي المتطور، الذي عادة ما يُكنى عنه بتعبير الوصول إلى سن الثلاثين؛ احتضانُ واقع الانقسام باللغة، بصفته أصلاً للذات لا أصلَ قبله، وإدراكُ الطبيعة الاجتماعية بالكامل للرغبة.

وتُفهم القيمة التحررية للخصاء الرمزي بالإحالة إلى جدلية السيد والعبد، الفكرةِ الهيغلية، وكذلك فكرة اسبينوزا عن الحرية بما هي فهمُ الضرورة. منذ امتلك الإنسان وعياً بذاته، يقول هيغل، سعى إلى فرض الاعتراف به على الآخرين، وأفضى ذلك إلى انقسام العالم إلى سادة وعبيد. بقبول القَدَر يسترد العبد حريته، ويحصل لنفسه على الاعتراف من انخراطه في الإنتاج مستغنياً عن غيره مكتفياً. وعلى العكس، يستعبد السيد نفسه بإنكار الخصاء. وهكذا كما هو واضح، فالعبد العامل لا السيد الفارس هو بطلُ العصور الحديثة. جوهر الممارسة اللاكانية الكلاسيكية هو وضع الشخص الخاضع للتحليل في موضع العبد العامل تجاه الآخر الكبير (الذات السيادية للنظام الاجتماعي)، مع إدراك عدم وجود الآخر الكبير، ليتعلم الدخول في علاقة مباشرة برغبته، ويتعلّمَ عدم التأثُّرِ برغبة النظام الاجتماعي (الآخر الكبير) كما عدم التأثير في رغبة الآخرين الفعليين (الذين يسميهم لاكان الآخر الصغير، أي موضع المشاعر الصغيرة الإسقاطية للغيرة والحب والكره والتمثّل النرجسي والسمة الجزئية المرغوبة).

فالترتيب الذكوري يتغذى على الاستثناء المُنحرف (هامش الانتهاك الممنوح للرجال في مجتمع ذكوري)، بينما يتقوّض بالالتزام: «(..) إن الذات هي بشكل فعّال عالقة في شبكة السلطة والوظيفة الفالوسية، فقط وعلى وجه التحديد بقدر ما تحتفظ بنوع من المسافة تجاهها، بحيث تفترض الاستثناء وتنغمس في الانتهاك المتأصّل للقانون العام. على الجانب الآخر، يتم تقويض نظام القانون العام والاقتصاد الفالوسي بشكل فعّال من خلال التماهي التام معه.. يمكن تَبيّنُ ذلك في مفارقات الحياة في السجن، فالشائعُ أن الحياة في السجن تسحقني عندما تحتلني لدرجة أنني لا أستطيع تَخيُّلَ الحرية والحياة في الخارج، وبحيث يؤدي إطلاق سراحي إلى انهيار نفسي كامل. ومع ذلك فإن الجدلية الفعلية لحياة السجن أكثر دقة إلى حد ما، حيث إن السجن يدمرني ويسيطر عليَّ بشكل تام، على وجه التحديد، عندما لا أوافق تماماً على حقيقة أنني في السجن، بل أحافظ على مسافة داخلية منه وأتمسك بالوهم بأن الحياة الحقيقية في مكان آخر. وعندما يتم إطلاق سراحي في نهاية المطاف، فإن الاختلاف البشع بين الواقع والخيال يُحطمني، وبالتالي فإن الحل الحقيقي الوحيد هو القبول الكامل لقواعد الحياة في السجن، ومن ثم داخل الكون الذي تحكمه هذه القواعد، العملَ على طريقة للتغلب عليها».

تُقابل شخصاً على شيء من نُبل في المسلك والظهور، تسأل نفسك عن السر. سؤالك هذا هو السؤال الأوديبي الأصلي: ما الذي تريده الأم (ما الذي يريده المحبوب لأكونه) وهو يفترض وجود شيء غير موجود، وبالأحرى فإن الجواب الصحيح هو: «تريدُ الأمُّ اسم الأب». والحرية هي إدراك أن السرّ هو بالضبط عدم وجود هذه الاستثنائية للشخص الاستثنائي.

والخصاء الرمزي، بصفته مَعبَراً إلى المشترك الإنساني، هو الاعتراف بالآخر، والتحرر من التبعية للجدلية الأوديبية مع الآخر الكبير. بالمقابل، فإن إنكار خصاء الآخر، أو الإنكار على الآخر خصاءَه، هو الآلية الدفاعية التي تُميز الانحراف (الانحراف بالمعنى المشار إليه أعلاه، أي تغذية فكرة الحق في الاستثناء كما هو حال الرجال الذكوريين في بنية اجتماعية ذكورية مثلاً). يمكن رؤية إنكار خصاء الآخر في الأساطير العنصرية المنتشرة مثل أن الفلسطينيين باعوا أرضهم، أو ما تسمعه من الأتراك أن السوريين في تركيا يتقاضون مرتبات من الحكومة ويقضون وقتهم في الاستجمام على البحر. أو مثلاً، في التسريب الشهير حين يقول أحد رجال النخبة العسكرية المصرية شيئاً مثل أن الخليجيين الفلوس عندهم زي الرز.

من ناحية أخرى، تنظّم آليةُ الخصاء كمَعبَر إلى ذاتية الاعتراف الاجتماعي حقيقةَ استحالة العلاقة الجنسية، المفهوم اللاكاني الآخر، أي حقيقة انعدام الأصل الطبيعي للجنسانية البشرية، وكون المتعة في النهاية مسألة تتعلق بالذات وبتحقق الكينونة، لا بوهم التمتّع بالآخر، الذي هو التصور الرومانسي البسيط عن العلاقة الغيرية. إن الانحراف المتأصّل في الجنسانية الطبيعية هو ما يُقطَع الطريق عليه من خلال قيام مجتمع وحضارة:«وبينما يُعزز التحليل النفسي حقيقةَ استحالة العلاقة ساعياً إلى تحرير الاختلاف المطلق للرغبة عند الأشخاص، فإن التخييل التقليدي للعلاقة الجنسية في المجتمعات يتجه إلى خدمة هدف الإنجاب وطاعة البرنامج البيولوجي».

ويعني قبولُ استحالةِ العلاقة رعايةَ الآخر في وحدته، وإدراك الحقيقة الاجتماعية البسيطة لكون إمكانِ العلاقة هو الخيال الأساسي في سوء الفهم، وأن استحالة العلاقة هي الشرط النفسي للعلاقات الاجتماعية اللائقة.

2- التمتّع: الكلمات والأَعراض

«ذلك الجزء من المعنى الذي تتخلله متعة غبية، هو ما أَطلقَ عليه لاكان في المرحلة الأخيرة من تعليمه ’le sinthome‘. ليس العَارضُ هنا، كما نظر إليه فرويد ولاكان نفسه من قبل، تلكَ الرسالة المُشفَّرة التي يجب فكّ شفرتها عن طريق التحليل، بل هو الرسالة التي لا معنى لها وغير المُوجَّهة لأحد، والتي تكتسب فوراً معنى الاستمتاع بالمعنى أو الاستمتاع بالمقصد: ’حسّ جويس‘ 9 ومتعة المعنى».

سلافوي جيجك من كتابه استمتع بأَعراضِك

طوّرَ جاك لاكان مفهومه المتأخر عن العارض «Symptom\Sinthome»، أحد أعقدِ المفاهيم اللاكانية والتي ليس أيٌّ منها أقلّ تعقيداً، من تأمّل أزمةٍ شاملة كانت تعصف حروباً ومآسيَ وأزمات اجتماعية وانهياراً مدوياً وإفلاساً أخلاقياً للعالم الرمزي الأوروبي التقليدي.

كان تعليم لاكان قد بدأ في عقد الخمسينيات بمَفهَمة النظام الخيالي، ما كان فرويد يسميه الأنا، أي الصورة الذاتية المُتأسِّسة على اغتراب نرجسي يبدأ في «لحظة المرآة»، حين يدرك الطفل لأول مرة وجود صورة موحَّدة له تمده برغبة إنكارية في تجاوز واقع التفكك الجسدي والنفسي الذي يعتري كيانه في تلك المرحلة. ثم تركَّزَ اهتمامُ لاكان طوال العقدين التاليين على النظام الرمزي، المتعلّق باللغة والقانون، بالتوازي مع الاكتشافات النوعية في مجالات اللسانيات والأنثربولوجيا الفرنسية. وما يمكن تسميته تياراً لاكانياً محافظاً، مثلما في حالة فكر سلافوي جيجك أو مصطفى صفوان، يدور حول التعليم المركزي للاكان بشأن مسألة العلاقة بالنظام الرمزي وتحرير الذاتية المُتكلِّمة. فالتحليل النفسي في أبسط تعريف له هو «العلاج بالكلام»، وحيث أنه ليكون هناك شخصٌ فإن الأمر يتطلّبُ جسداً (الحقيقي)، وتصوراً (الخيالي)، ولغة (الرمزي) تربط الحقيقي بالخيالي، فإن الكلام هو البُعد الذي من خلاله يتم دمج الذات في المستوى الرمزي.

قبل أن يبدأ كل شيء، كان فرويد قد لحظ الحقيقة المبهرة لكون مرضاه الهِستيريين، والهِستريا بالتعريف صراعٌ نفسي يعبر عن نفسه في أعراض جسدية غيرِ ذات منشأ عضوي، كانت الأعراض الجسدية تختفي لديهم ما إن يتوصلوا إلى قولِ أو سردِ الذكريات الصدمية في سياق التحليل. ولما لحظَ لاكان أن الأَعراض كانت تستمر في التعبير عن نفسها في كلام المرضى حتى بعد انتهاء التحليل وعبور المريض مخياله الأساسي، فإنه طَوَّرَ مفهومه عن نهاية التحليل لمصلحة مزيد من المتعة.

كي يمكن لـ الرغبة (الرمزية) أن تسبب البهجة (في الخياليّ، الأنا)، يجب أن يكون هناك تمتّع (حقيقي)، وبينما في مرحلته الوسيطة الفرويدية اعتبرَ لاكان أن الخِصاء الرمزي هو المَعبَرُ المشتركُ إلى ذاتية الاعتراف الاجتماعي المساواتية، وهو الطريقةُ السليمةُ لتنظيم التمتع، فإنهُ تناهى في إعادة قراءة فرويد إلى ربط المرحلة الأخيرة من تفكيره بإعادة تعريف الأَعراض النفسية من حيث كونها في نهاية التحليل، أي في جزئها غير القابل للتحليل، ممراً إلى ذاتية بَدَائلية يكون فيها الاستمتاعُ القصووي (المتعة الأخرى، غير المؤطرة بالبنية الاجتماعية الفالوسية) ممكناً.

ذلك من خلال التماهي الإبداعي بالأعراض بطريقة جيمس جويس، وهو الكاتب الذي طرح لاكان مفهومه المتأخر عن الأعراض من خلال توضيح حالته على ما سنرى لاحقاً، فالـعَرَض هو الثابت الوجودي والنمط الفريد للتمتُّع، القادم من العلاقة الملغاة مع الأم التي تستمر في فرض نفسها في اللغة. في هذا التصور الجديد، تتموقع الأعراض كرابط رمزي بديل، كحلقة رابعة تَشدُّ عُرى الحلقات الثلاث الأخرى: الرمزي والخيالي والحقيقي، في اللحظات الصَدمية التي تتفكك فيها الذات إلى واقعها الأصلي. الأعراض، هي ما يُمكِّنُ شخصاً «من أن يحب الحياة التي لديه». هي ما سيتذكرك به الآخرون، وما من أجله يُحبك أصدقاؤك: ضعفُك، ظرفُك، وصور علاقتك المباشرة بلاوعيك في طبيعته الاجتماعية؛ كيف تتحدث وتمزح.10

عبر ربط اللغة بسجلِّ الحقيقي، كان لاكان يستبدل سلّة المفاهيم المتعلقة بالنظام الرمزي ووعي الموت وإنشاء الرغبة وظهور الكلام الممتلئ أو الذات، بالمفاهيم المرتبطة بالمتعة، وبالحقيقيِ في إطلاقية وجوده، وبالمتعة الأخرى.

وإذن، إذا كانت اللغة ضاربة في التمتع، فما هو بُعدها الحقيقي هذا الذي تَنبَّه إليه لاكان؟

كلماتٌ تثير تمتُّعاً على مستوى الحقيقي، أي على مستوى الجسد، يسميها لاكان «lalangue / لغة لا لا»، أي لغة الأصوات الأولى التي يصدرها الطفل في سياق تَعلُّمه الكلام. فاللغة «المنظمة وفق مبدأ الخصاء أو الحظر الرمزي، تعمل كمكَابح على التمتّع، يتم استخدامها للتحدث والتواصل وبناء مروياتنا. ولكن «لالانغ» الخاصة هذه هي المادة التي تتكون من الأصوات والفونيمات والكلمات في حالتها الأولية، والتي هي غير متمفصلة في بُنية الخطاب. مادة تصطدم بالأجسام الحية. شيء نحمله ونعاني منه كعَارِض. البشرُ مرضى هذه المواجهة بين لالانغ والجسد، إنه شغفٌ يترك علاماته على الجسم. ما يسميه لاكان السينثوم/العارض هو جوهر هذه العلامات، وهي أحداثٌ جسدية».11

والتمتع ليس البهجة المرتبطة بالإشباع المعقول للحاجات، والتي تنتمي لسجلّ الأنا، بل هي «ما يتجاوز مبدأ اللذة» الفرويدي، فهذا المبدأ ينص على أن الإنسان غريزياً يسعى لأقصى قدر من اللذة مع أدنى قدر من الألم، وهذه الوظيفة منوطة بالأنا كما افترضَ فرويد. بهذا، فالتمتع هو المتعة التي تنطوي على ألم. وقد اختار لاكان لهذا الشيء كلمة «jouissance» الفرنسية التي يُعتاد أن تُترَك كما هي حتى في الترجمات الإنكليزية، بسبب كون الكلمة الأقرب في الإنجليزية «enjoyment» لا تؤدي المعنى تماماً نفسه. فقد قصد لاكان تلك المتعة الفائضة التي في شكلها الليبيدي الخام تُحَسّ كشيء مفرط الكثافة، تأوهات الجنس والأصوات البدائية لاستطابة الطعام والازدراد وما إليها. إنه ما لا يحتمل.

في صيغتها العليا، إن هذه المتعة التي يطالبُنا لاكان بإنجاز علاقة معها، من حيث علاقتنا مع أعراضنا، هي المتعة الأخرى تلك، التي لا تحدُّها الرغبة في الشرف الاجتماعي، وغير المنظمة وفق الوظيفة الرمزية للخصاء واسم العائلة، أو اسم الأب، والتمتع الفالوسي المحدود. فبحكم كوننا نعيش في مجتمعات ذكورية، فإن نظامنا الرمزي متأسس على فهم الرجل للعالم، وبالأساس على الجنسانية الذكرية، فيما تأنيث المريض بالخصاء، ثم بالتماهي مع الأَعراض كمتعة أنثوية للذات، هي استراتيجيات تقويض.

والمتعة الأنثوية «feminine jouissance»، أو «المتعة الأخرى» كما أسماها لاكان، أي متعة غير مؤطرة بالنظام الفالوسي، تشير أساساً إلى الطبيعة المختلفة للجنسانية الأنثوية12 التي يتم تصويرها كشيء منتهِك (خلال الأيام الماضية انتشر خبر فصل مذيعة مصرية بعد «جدل» على وسائل التواصل الاجتماعي لظهورها في مقابلة تلفزيونية بهيئة «التسبيل» مع الضيف، كناية عن ارتخاء العيون ورِقّة الصوت).

وتشير «المتعة الأخرى» تالياً إلى نمط مختلف من الوجود والتمتُّع. في جُملة المتعة الأنثوية، يُدخِلُ لاكان متعة الزهّاد غير المرتبطين بالمؤسسة، ومتعة كل علاقة أُخرى مع اللغة والوجود الاجتماعي: تكلم الهامشيين والناس العاديين والفاهمين والمحللين، وكل تكلّم من موقع عدم الوجود.

والمتعةُ الأخرى هذه هي أحد مدارات الجدل الأكثر طرافة للتحليل النفسي منذ انبرى لها لاكان مُمفْهماً، ففيما يذهب معظم المحللين إلى قراءة النص اللاكاني بحَرفية مشيرين إلى متعة صوفية غير قابلة للترميز في اللغة، تعرفها النساء بحكم الطبيعة غير المقيدة لكينونتهن ودون أن يعلمنَ شيئاً عنها بالضرورة، يذهب محللون نقديون مثل جيجك إلى أن المتعة الأنثوية هي مخيال ذكوري عن الآخر الأنثوي، مخيالٌ مثير للحنق والكراهية الذكورية إزاء كل مظاهر حياة المرأة مما هو غير محدَّد بتبعيتها للرجل، مثلما يمكن استيضاحه في نقد جيجك للمشهد الأخير من مسلسل لعبة العروش (جنون دينيريس فانتازم ذكوري).

هكذا، فببساطة إن المتعة الأنثوية هي علاقة غير عُصابية مع الوظيفة الرمزية، تجدها في الكوميديات غير الصحيحة سياسياً والتي ليس فيها مشكلة في الحقيقة، لكونها تنطوي على إدراكِ واعتبارِ خصاء الآخر. تختبرها النساء كونهنّ، بحكم أدوراهنّ الاجتماعية، غير معنيات بمسألة الخصاء وغير ذوات مصلحة في علاقات السلطة. فالرجل دائماً ما يلجم نفسه عن مواصلة الكلام عند نقطة ما بدافع قلق الخصاء، بينما المرأة أمامها دائماً خيار عدم الصمت، متعتها التي وصفها لاكان هي محض مجاز13 «لمتعة الاستطراد، إنها متعة في الكلام»، وهي، بكونها متعة في الكلام أي في الرمزي، متعةٌ تشمل الآخر، تعترف به وأكثر تنطوي على الحب الكوني، وهذا بُعدها الصوفي. 

وكتخييل تحليلي، فهي مجازٌ لمتعة الحرية لإنسان يدرك الطبيعة المطلقة لرغبته الذاتية، ويعيش ويتصرف بحرية انطلاقاً من انسجامه مع رغبته، مدركاً أن الآخر الكبير لا يوجد: أن المعايير الرمزية مجازية، مُدرِكاً وظيفتها أو وظيفيّتها.

في نص أدائي لجيجك تجد أجمل تعريف ضمني لمتعة الأَعراض، في تعليقه على مفهوم السعادة، حيث يقول جيجك إنه يلحظ في قراءة سير علماء الأشعة والفيزياء الدقيقة وفيزياء الكم وما إليها.. أنهم كانوا كثيراً ما يعملون حساب تعرضهم للموت خلال التجارب والعمل، دون أن يكون ذلك شيئاً ذا بال، مُؤكِّداً بناءً على ذلك أن السعادة ليست من ما يَهتم به الفاهمون، وواضعاً العارِضَ في مكانه الدقيق كما نظر إليه لاكان من حيث أنه ما يقابل المتعة البدائية أو التلذّذ. ففيما الأخيرة متعة حسّية قصوى لحظية غير قابلة للمشاركة، فالعارض لذةٌ قصوى من التمتع بالمعاني والفكر الحقيقي والمقدرة على إحداث تغيير في العالم.

مقاربات تحليلية عربية

في النتائج التي يتوصل إليها المحلل النفسي المصري مصطفى صفوان، الذي تتلمذ على يد لاكان ويمثل اليوم أحد أهم مرجعيات التحليل المعاصر، في دراسته لواقع الثقافة العاميّة العربية بالمقارنة مع تطور المجتمعات الديمقراطية الغربية، يبين 14 أن نشأة الديمقراطيات الغربية وَاكبَها جوهرياً جهدٌ ثقافيٌ للانفصال عن اللغة اللاتينية، عبر الكتابة والإنتاج الثقافي باللغات التي كانت تُفهَم كعاميّات للعالم اللاتيني، كالإيطالية والألمانية والإسبانية. كان دانتي أليغييري، أحد أوائل من كتبوا أعمالاً أدبية بالإيطالية، قد عرّفَ اللغة الرسمية على أنها تلك التي تتعلمها في المدرسة واللغة الأم تلك التي تتعلمها في المنزل.

من خلال هذه المناقشة يؤكد صفوان أنه ما لم تنجز الثقافة العربية خطوة مماثلة، عبر تكثيف الإنتاج الثقافي بالعاميّات العربية واستخدام الأخيرة كلُغات كتابة، فنحن سنظل نعيش في حالة قبل ديمقراطية، حيث اللغة العربية الفصحى التي نكتب بها ثقافتنا وآراءنا هي شكلٌ من اللاتينية، لغة نخبوية يتلقاها الإنسان العربي بصفتها آخراً مطلقاً. بصفتها «آخراً كبيراً»، هو ذلك الذي لا يوجد، وحيث دائما مثل التحليل النفسي فرصة لتمرير حقيقة عدم وجود هذا الآخر إلى وعي المريض، ما يُخلّصه من عبء الطاقة النفسية المصروفة على الصراعات العصابية للجدل الأوديبي مع الآخر الكبير.

واعتباراً للجوهر الرمزي للوجود الإنساني بتعبير سلافوي جيجك، أو بالأحرى للدرس اللاكاني الأساسي حول كون الإنسان كينونة مُتكلِّمة تنشأ بالجدل مع النظم الرمزية، يقول مصطفى صفوان إن على لغة الثقافة أن تكون هي نفسها اللغة التي يتعلمها الإنسان «على صدر أمه». غير ذلك، فإن لدينا إنساناً مغترباً ومشلولاً، وفقط بتحرير لغة الكتابة يصير ممكناً للأعراض أن تُرمَّز، أي لحرية الفكر والتعبير والحوار الديمقراطي أن تتبدى واقعاً ملموساً ومُنتِجاً في المجال الاجتماعي.

من ناحية أخرى، يَخلص درس المحلل النفسي التونسي الفرنسي فتحي بن سلامة إلى نتائج ليست أقل جوهرية، مُشدِّداً على جانب آخر من علاقة الإنسان العربي والمسلم بالحداثة، الجانب النفسي المتمثل في مسألة علمنة المحرم، أي إضفاء العقلانية على التحريم الديني، والجانب الاجتماعي المتمثل في قِدَم الأدوات المفاهيمية المتاحة لاستيعاب العالم بصورة مطابقة، والعصاب الموروث من تضارب المرجعيات في الدولة العربية الحديثة، والفصام الأصلي للسيكولوجيا المسلمة بين تشريع عصابي ذي مركزية ذكورية مفرطة وثقافة شديدة الدنيوية. «في كلمة إسلام لا نرى في العادة إلا الدين، بينما نغفل ثقافةً نشأت ونمت على خرق الشريعة، بل إنني أزعم أن الثقافة الإسلامية في أجلى مكوناتها، وبالخصوص في شعرها وفنونها وعلومها، قد تشكلت في مواجهة التشدد الديني».15

فالدين يوطد ارتباطاته في النفس بنيوياً، في إجابته العاطفية على الكرب الطفولي (يأس الطفل المتروك)، مؤسِّساً للتحريم والرمزيّ، وحالّاً الجدل الأوديبي. هذه الأهمية النفسية تلمسها في المأثور واسع الانتشار الذي ينسب إلى هذا وذاك من المشاهير: «لو لم يكن الله موجوداً فإن كل شيء مباح»، وفي حين أن خياراً آخر لبناء نفسي غير عصابي ممكن، فإن الدين يربح في غالبية الحالات لأن المحرم الديني يمتلك الحرارة الكافية لتلبية الاحتياج الكربي، الأمر الذي يعوزُ المحرَّمَ العلمانيَ القائمَ على روابط اجتماعية سليمة ومتينة، وطفولة أقلّ عصابية وأكثر حباً غير مشروط يحصل عليه الطفل، والقائم أيضاً على التدبر والتأمل الفلسفي ضمن بيئة صديقة للفرد لينمو فيها، على الأنا المفكرة والوعي المأساوي بالمعنى الذي ينسبه أرسطو إلى فن المأساة كتطهير «ما  يسمّيه فرويد التأسيس الاجتماعي للمحرَّم الثقافي».

وعدا ذلك، فأيضاً هناك ما يرثه الأطفال من عُصابات سببها اختلال العلاقات في العالم الحديث وتضارب المرجعيات، الذي يعاش نفسياً كاضطراب في الوظيفة الأبوية: «على المستوى العياديّ، لاحظتُ عند تحليل كثير من حالات المرضى من ذوي الديانة الإسلاميّة، العملَ النفسي الشاقّ لترجمة المحظورات الدينيّة بتأثيراتها العاطفيّة، إلى محظورات مُعَلْمَنَة (..) وما لم يتمّ تحليل الانفعالات والصراعات الطفوليّة والتغلّب عليها، فإنّ الخوف الشديد من خرق المحرّمات والبحث عن التكفير عن ذلك الخرق، يَبقيان راهنَين. ولكنّ المعتقدات البدائيّة يصعب التغلّب عليها لأنّها تشمل، حيثما كانت، بُعدَ الاعتراف الرابط بين بقاء الفرد وانتمائه إلى الجماعة التي وُلدَ فيها، كما لو كانت تلك الجماعة، هي النوع البشري نفسه (..) إنّها حداثةُ ظِلٍّ، بل هو تحديث لاواعٍ بالنّسبة لغالبيّة أبناء العالم الإسلامي. فعمل الثقافة الحديث لم يتقدّم بنفس وتيرة التحوّل المادّي لذلك العالم. بل إنّ حقيقة أن يظلّ التحليل النفسي إلى الآن متلجلجاً في العالم المُسلم، لهو من أعراض هذه الحالة، كما لو أنّ المُسلم اليوم لا يمكنه النفاذ إلى جهاز قراءة تتوافق مع ظروف نفسه (psyché) الراهنة. وبالتالي، فإنّه لا شكّ في أنّ عدم قدرة المُسلم على قراءة هويّته وعالمه، هو أصل ما نراه من تمرّد جماعي ميتافيزيقي يائس يريد استعادة تأويل الأسلاف اللاهوتي المُطَمْئِن».

وبالأساس، تُحيل علمنة المحرم في المجتمعات الغربية إلى «حلول الدولة محلّ مرجعيّة الأب البطريركي في الاقتصاد الرمزي للمجتمع (..) الدولة العربية الحديثة لم تقم بتحطيم التنظيمات التقليديّة، بما فيها العائليّة العشائريّة؛ بل اُستنبتت فيها، وخَلْخَلَتْهَا، وتآلفت معها، لكنّها لم تستطع احتكار سلطة القانون التي تمكنّت الدولة من احتكارها في المجتمعات الحديثة».16

لاكان في زمانه

كان جاك لاكان هو ذلك الصوت في النظرية وفي التحليل النفسي، الذي، في الخمسينيات من القرن العشرين وفي وقت كان قد بات يُنظَر فيه بشكل متزايد إلى فرويد على أنه مُتقادِم وأن نظرياته نسبية، هو الذي أعلن مشروع «العودة إلى فرويد»، إلى الصدمة الأولية التي واجه بها فرويد ثقافة عصره الإنسانوية. فإن «Unconscious» في لغات الأوروبيين، والتي تعني حرفياً «لاواعي»، هي صيغة تأنيبٍ للطفل الذي يأتي بأفعال مُعيبة، مما يُستخدَم في موضعه في العربية كلمات من قبيل: قليل الذوق، بلا أدب، بلا أخلاق بلا حياء.. وما عاد إليه لاكان هو الحدس الأكثر أولية لفرويد، أهمية التكلّم، جوهرية الجنسانية الطفلية ودورها في توزيع الأدوار الاجتماعية، والطبيعة البدائلية للأَعراض، مستغنياً عن فكرة الطبيعة والنموذج البيولوجي الذي تبناه فرويد لصالح نموذج لغوي بالكامل، يفهم الإنسان ككائن كَوّنته اللغة، ويقدم التكلّم في علاقته بحقيقيِ الذات، بما هو إنجاز لعلاقات اجتماعية بديلة غير محكومة بالرهانات الحضارية المهيمنة.

يقول لاكان في محاضرته التي قدم فيها مفهومه المتأخر للأعراض إن «سينـتوم / sinthome» هي كلمة فرنسية قديمة ذات جذر يوناني لـما نعرفه اليوم كـ«symptom»: عارض مرضي. تُسمَع «sinthome» كـ «saint tom» في إشارة إلى القديس توما الأكويني، كما تُسمع كـ «synth homme» الإنسان الاصطناعي.

وبداية، فإن لاكان في استحضاره الكلمة القديمة أراد استحضار المعنى المُعجمي الأولي للكلمة قبل تراكُم المعرفة الطبيّة، شيء يَعْرِض، يطرأ على ذات منسجمة (حيث كل انسجام ذاتي هو نرجسي ومُتخيَّل) فيبدد انسجامها ويُؤزمها. ذلك الشيء عديم المعنى، الذي ينصحك الناصحون بنسيانه والالتفات إلى ما ينفعك.

وتجريداً وبمنطق الحلقات، فإن العارض رابطٌ رابعٌ ينشأ في نقطة التقاء الحقيقي والخيالي، وبهذا فهو النواة الحقيقية للأنا (أي للخيالي)، هو مرتبط بكل من المتعة (الحقيقي) وبهجة الإبداع (الخيالي) ومنفصلٌ عن الرغبة الاجتماعية السائدة (الرمزي). يعني الخصاء الرمزي الاعتراف بالآخرين الفعليين (الآخر الصغير، موضوع الاستهزاء الواعي والسمة الجزئية المرغوبة)، ولكن العارض أبعد من هذا، هو التحقق الجذري لمجموع السِمات المأخوذة من «الآخرين الصغار».

والأَعراضية، لو أمكن وصفها بذلك، هي أسلوبُ حياة أولئك الأشخاص الذين قرروا أن يستندوا في رهان شجاع إلى صوتهم الداخلي الخاص لبناء روابط اجتماعية. إنها ذاتية التفرّد كما تقول المحللة النفسية ماري روتي في كتابها تفرد الوجود: لاكان والخالد الداخلي، الذي تناقش فيه أنماط الذاتية الناشئة عن كل من السجلّات الثلاثة، حيث الذاتية المنبنية على النظام الخيالي تُسمى الشخصية، وتلك المتأسسة على النظام الرمزي تسمى الذات، فيما الذاتية «الحقيقية» أي الأَعراضية هي التفرّد: وفرادتك هي في «ردة فعلك تجاه الصدمة»، وتلك التسوية التي تُمكّنك من تقبّل حقائق الحقيقي المأساوية، دونما إنكار ودون استناد إلى الآخر الكبير: النظام الاجتماعي ذاته.

فلّما كان فرويد قد قسم الظواهر النفسية السائدة إلى ثلاث عائلات أو بنى: عصابي، وذهاني، والبُنية المنحرفة التي عزلها فرويد كبُنية خاصة واستثنائية، فإن ما يميز الذهان (الفصام، أو الجنون) عن العصاب (القلق والرهابات.. إلخ) أن العصاب آليتُه الدفاعية هي الكبت، بينما الذهان يتميز برفض طفولي للوظيفة الرمزية، وبرفضِ اسمِ الأب والتمتع الفالوسي المرتبط. ويُمثل المفهوم المعاصر الذي قدّمه المحلل النفسي جاك آلان ميلر للذهان الاعتيادي، الذي هو إحدى ظواهر الاقتصاد النفسي الجديد، فُرصةً للإضاءة على الظاهرة الذهانية كما رآها فرويد، من حيث هي ظاهرة واقعة بالكامل خارج اللغة والمجتمع، ما يعني أن التحليل النفسي ليس لديه شيءٌ لفعله مع الذهانيين طالما أن العارض الذهاني عارضٌ فردي لا يهم أحداً، ولا هو معنيٌ بخلق رابطة اجتماعية، وبالتالي هو لا يُخاطِب. وهو ما استمرَّ مُعتمَداً حتى لاكان. فالأعراض في التحليل النفسي عند فرويد هي دائماً الأعراض العُصابية، طالما أن العصابي راغبٌ في التكلم، ومن خلال تكلمه يمكن الوصول إلى حقائقه النفسية. وأما العارض الذهاني فلا قيمة تحليلية له، عدا كونه تلبية لاحتياج نفسي لتعويض عدم وجود اسم الأب، أو عدا كونه عقدة تتشكل لدعم الواقع النفسي في غياب وظيفة اسم الأب التي تلعب دوراً نفسياً في الذات العصابية.17 ويضيء ذلك على أهمية الاكتشاف التالي للاكان حول العارض الذهاني في حالة كونه ذا بعد رمزي، العارض غير العادي، أي في حالة كونه خياراً لنمط من الوجود الاجتماعي.

كان فرويد فيلسوف العُصاب والكبت ومعالجة تبعات استبداد نظام أبوي قيد التلاشي، عاصرَ الحرب العالمية الأولى وأزماتها الاجتماعية. وكان لاكان فيلسوف الذهان، بما هو فقدان النظام الرمزي وانهيار كل معيار لفهم العالم، عاصرَ الحرب الثانية والهولوكوست ونزع الأبوية وانتشار النزعات الشبابية التمردية والتحررية المتطرفة، وانتشار المخدرات وصحوة الحركة المثلية، وعالج مرضى حالاتهم شديدة التعقيد والتفاوت لا يشبه واحدهم الآخر إلا في كون كل منهم له أعراضه الفريدة. 

والذهان هو الواقعة العيادية التي انبنت اللاكانية بالجدل معها.

لو كنتَ على احتكاك نسبي بعوالم المرض النفسي أو تعاملت مع حالات مشابهة أو سمعت عنها، قد تكون سمعت هذا الحكم المسبق الشائع: أن الفصامات (أي الأمراض التي تنطوي على ذهان، الفصام والاضطراب ثنائي القطبية والأمراض العقلية المرتبطة) لا شفاء منها، وتسمع الناس يقولون لك إن على مريض الفصام أن يستمر في تناول أدويته طول الحياة.

بتدقيق هذا الحكم، لو افترضنا فيه ألفة ما للناس مع مأساة الفصام أَسَّست لإجماع كهذا، فإن المقصود لربما، بعيداً عن أن يكون استحالةَ العيش بدون أدوية، هو  بدقة أكبر استحالة العيش طالما أن الشخص هو نفسه، وبما أن لا أحد يتوقف عن أن يكون نفسَه عادةً، فإن الحكم معناه بدقة أن المجهود الذهاني الوجودي لصنع المعنى دون المرور بالخصاء، ومع رفض اسم الأب، محكومٌ عليه بالفشل. وبالتالي، أن الطريقة الوحيدة للشفاء هي الخصاء، بالأحرى أن يختار الذهاني أن يعيش مثله مثل كل الناس، في تواضعٍ لا يُشتهَر به الموقف النفسي للذهان على الإطلاق.

وقد كان جيمس جويس بالنسبة لجاك لاكان استثناءً من كل هذا، حيث أنه قدّمَ مفهوم السينثوم «sinthome» المتأخر (استخدمه بالتبادل مع «symptom» كمترادفين) من خلال شرح حالة جيمس جويس، الكاتب الإيرلندي الشهير الذي كانت الكتابة حلاً شخصياً لجأَ إليه كي لا يصاب بالذهان. هو الطفل ذا الأب اللاغي، والذي بسبب غياب الوظيفة الأبوية في طفولته، من خلال أن والده كان رجلاً سكيراً وشخصاً مستقيلاً من حياته رمى وظيفة الأب إلى الآباء اليسوعيين الكاثوليك في الكنيسة ليقوموا بدوره، كان محكوماً عليه بالحرمان من الانتماء النفسي إلى العوالم الإنسانية التي تنظم مسألة الاعتراف الأساسية للإنسان، بِدءاً من اسم الأب (الكنية أو النسبة، الوظيفة الأبوية في نتائجها الرمزية).

بالكتابة ونشر أعماله، وبقدرته الذاتية على الإدراك الأصلي، حوّلَ جويس اسمه الخاص إلى اسم أب، مُشكِّلاً لنفسه، من أعراضه، من مخيالِه النقدي البديل الكامن، من نقدِه الخاص الأكثر ذاتية، الذي لم يطله الترميز الفالوسي، مُشكِّلاً من كل ذلك رابطاً رمزياً بديلاً يعوض الرابط الرمزي المفقود، ويُمكِّنه من أن يتكلم ويُوجَد في مجتمع بالاستناد إلى معرفته الخاصة، وليس بالاستناد إلى البنى الرمزية التي ينتمي إليها الجميع، ليس بالاستناد إلى أي «آخر كبير» مُتأسِّسٍ على نفي الوجهة الجويسيانية كليةً.

تتميز البنية الذهانية بتفكك التجربة المعاشة وافتقاد الوحدة الذاتية المتأتية في الذاتية السوية من اسم الأب، الدالِّ المُلغَى في البنية الرمزية الذهانية. ومن حيث كون  الرمزي، المتجاوز للذات، هو فقط ما يربط الخيالي (صورة الذات) بالحقيقي (جسد الذات)، فإن ما جمع شتات التجربة المُعاشة في ذات جيمس جويس كان هو الكتابة، وما عوَّضَ اسم الأب عنده ومنع أن ينتهي الأمر به فصامياً وأعطاه حياةً هو اسم الكاتب. كانت متعة جويس الاستثنائية هذه تتطلب قدرة كبيرة على التحمّل، تحمّل المتعة، «جويس-سِنس»، والذهان اللا-اعتيادي.

لاحظ لاكان أن جيمس جويس، وفي الوقت الذي كانت كتابته تتطابق مع المنطق الذهاني، كان شخصاً مستقرًا إلى حد ما في حياته العادية، ما مكّنه من تصور أنه كان قد قرَّر تحويل أعراضه إلى رابط اجتماعي بديل، أو إلى تعويضِ فشل الوظيفة الأبوية لكن بشكل فاعل، ما أدخل في التحليل النفسي مفهوماً جديداً جذرياً للأعراض ولوظيفة اللغة في علاقتها بالحقيقي. مع جويس تَكشَّفَ لِلاكان كيف أن لِلأعراض تلك الوظيفة كاستراتيجية اجتماعية.18

في رواية جيمس جويس صورة الفنان كشاب، عكف لاكان على تأمُّل مشهد من الرواية، حيث البطل يتعرّض للضرب المبرح ويخرج من الموقف «دون أي مشاعر». عدم التأثر هذا، والانفصال عن صورة المرء الذاتية، قد يعطي صورة عن مدى الخلل الذي يشير إليه مفهوم الذهان. فهو كشخص لا تترابط الحلقات الثلاث المُشكِّلة لوجوده يقيم خارج جسده. هذا ليس عادياً أبداً، كما أنه ليس طبيعيا أبداً، وهذا يفسر كيف أن كلمة ذهاني «psychotic» هي في القواميس كلمة قاسية الوقْع، تثير رعدةً.

كانت مظاهر التفكك تعتري حياة جويس، وراح إلى نهاية حياته يكرر مشاهده الصدمية الطفولية، حيث التسلّل ليلاً من المنزل مع زوجته وأطفاله بسبب عدم توفر مبلغ الإيجار، مشهدٌ عاشه جويس في طفولته، مع والده المستقيل وأسرته الممزقة. كما ورثت ابنته ذهانه، وعانت من نوبات حادة من الفصام، وكان سكيراً حاله حال أبيه. في ذلك كله كان هناك إبداعية يُحافظ عليها كما رأى لاكان. حياة غاية في الصعوبة، مردُّها اختلاف نمط كينونته عن مكانه الرمزي المرتَّب له في العالم.

كان الأمر بالنسبة لجويس كما نظر إليه لاكان هو كيفية الخروج من الموقف الذهاني، أي الوصول إلى اللغة. أن يقوم للذات تكلٌّم وحياة دون المرور بوظيفة الخِصاء المؤسسة للتكلم. أن يوجد في المجتمع دون اسم الأب وبما يتجاوز التمتع الفالوسي المرفوض. والعارض الذهاني نفسه كان الحل، فالشخصية البطولية الفروسية الهذيانية متجذرّة في الحقيقي، وفي ذلك يشكل العارض، بما هو النواة الحقيقية للخيالي، إمكاناً لوجودِ أنا غيرِ مغتربة، وغير منظَّمة بالآليات الاجتماعية.

وحيث أن جويس تلقى تعليماً كاثوليكياً متزمتاً، أريدَ له فيه أن يتمثل شخصَ القديس توما الأكويني، كأب رمزي كان ممكناً أن ينتشله من الذهان. حيث الوظيفة الأبوية وظيفة، أي إنها يمكن توفيرها حتى في غياب أب فعلي، وهي وظيفة تمثيلية ومجازية كما في الوظيفة الرمزية لشخصِ المخلِّص في المسيحية أو للشخصية المفاهيمية للنبي محمد في الدين الإسلامي، والطبقة العاملة في الحزبية الشيوعية، والتي تقوم جميعها بهذه الوظيفة الانتشالية للكثير من الناس ممن ليسوا جميعاً يتمتعون بـ اسم عائلة، بالمعنى البرجوازي.

اختار  جويس من ناحيته أن يكون لنفسه نسخته الخاصة من قديس الكنيسة الكاثوليكية، بدل أن يتمثل الأب بالشكل المنظم اجتماعياً، فالرموز الكاثوليكية الإيرلندية والموروث الثقافي الذي تلقاه في طفولته موجودان بشكل فاعل في أعماله الأدبية، ولكن بصورة إبداعية. هكذا فإن جويس قد اختار بحرفيةِ النص اللاكاني «أن يكون عارِضَه». كان جويس مواطناً إيرلندياً في إمبراطورية المستعمر الإنكليزي، وبسبب واقع الهيمنة الرمزية، فهذه الطلاقة الإنكليزية المختلفة لشخص بمواصفات جويس كانت تحقيقاً لاستحالة، وتجديداً جذرياً لنظام رمزي بأكمله. فاعتباراً للواقع الاجتماعي، حيث ينحفر واقع الهيمنة على الإيرلنديين تعاملاً معيناً مع لغة الغزاة يتميز نفسياً بالخضوع للهيمنة (الخصاء)، يمكن القول إن قدرة جيمس جويس على التكلم بالإنكليزية مثل متكلم أصلي كانت لتكون شيئاً غاية في الإبداعية، وحالةً لشخص تَمكَّنَ استثنائياً من أن يكونَ نفسه، فيُضيفَ إلى العالم إضافة مُبدِعة.

تُجدد قراءة جيمس جويس فينا إحساسنا بطزَاجة الكلمات، هو الذي يقول النقاد والمؤرخون أنه كان مهووساً بالكلمات وتباديلها، ومُستكشِفاً مختلفاً تماماً أعاد تقديم الإمكانات التعبيرية للغة الإنكليزية، منتشلاً نفسه من خلال هذه الاستراتيجية الحيوية من الاحتمال الذهاني القريب دائماً، الذي يبدأ كامناً كـ«اضطراب في أبعد نقطة من شعور الشخص بأنه على قيد الحياة» بكلمات لاكان.

كان لجاك لاكان تأملاتٌ في المتعة المتأتية من قراءة لغة جيمس جويس، كضوءٍ على قيمة العارض التحريرية للذات وللآخرين، ومعها اقترحَ علينا لاكان معنىً آخر للمتعة حيث «joissanse» هي «joyce- sence»: حسّ جويس. بهذا كان المشروع اللاكاني للعودة إلى فرويد يتناهى إلى تَغيُّر في المنظور طالَ وجهة التحليل النفسي كعلاج، نازعاً عن الفرويدية كل مثالية، ومُكسِباً إياها زخماً جديداً، فالهدف من التحليل لم يعد التخلّص من الأعراض، بل التصالح، بل قُل التماهي معها.

يتنافى ذلك مع توجه سائد في التحليل النفسي يُعرف بعلم نفس الأنا، قاده المحللون الذين انتقلوا إلى الولايات المتحدة وبينهم آنا فرويد، وركَّزَ هذا المنهج على تماهي المريض تماهياً نرجسياً –أي في مجال الأنا- مع المحلل، ما مَثَّلَ في نظر لاكان شكلاً من الخيانة لجوهر الفكرة الفرويدية، وتكييفاً إيديولوجياً مع متطلبات الوجود الحديث وأسلوب الحياة الأميركي. على الضد من هذا المنهج، دافعَ لاكان عن أن التحليل النفسي يُضيء على المآزق الأساسية للوضع البشري التي تتعامل معها خياراتنا النفسية، ويؤكد فهم الإنسان كذات منقسمة بشكل جذري.

إن المفهوم اللاكاني لنهاية مُثلى لتحليلٍ ناجح، متمثلةٍ في تماهي المرء مع أعراضه، يعني تماماً عكس التماهي النرجسي، ويعني تبديداً نهائياً لوهم الكمال النرجسي المُسبِّب للاغتراب عن الذات.

لاكان في زماننا، أو الأَعراض والثقافة

يمكن النظر إلى اللاكانية كأداة نظرية في الحركة التقدمية المعاصرة، كما يمكن رؤيته في النتائج التي ينتهي إليها عمل محللين نفسيين مثل فتحي بن سلامة في فهم الواقع الإسلامي والنصوص الإسلامية بأدوات التحليل النفسي، وعمل مصطفى صفوان حول الواقع الثقافي للثقافة العامية العربية، وأعمال جاك آلان ميلر وسلافوي جيجك وملادن دولر وشارل ملمان وإليزابيث رودينسكو، وغيرهم من محللين حيث يتم تناول نقد الواقع الاجتماعي والثقافي بمفاهيم التحليل النفسي. إن تطبيق هذه المفاهيم التحليلية يفضي إلى ضرورة مجتمع ديمقراطي ومُعلمَن، حيث يمكن للأَعراض التي تطلب الترميز، التي يعوزها الترميز بحكم البنى الأبوية البائدة، يمكن لها أن تستحيل إلى ثقافة وقوة بناء، إلى مشروع لتحقيق الذات بِحُرّية. مجتمعٌ مدنيٌ أصلاً لم يكن ممكناً بدونه ظهورُ التحليل النفسي نفسه، والذي تَطوَّرَ في عواصم متطورة رأسمالياً، فيينا وباريس وبودابست ولندن. وفي العالم العربي، في المغرب ولبنان المرتبطين تقليديا بالفرانكفونية وفي مصر بجهود أفراد ونخب من المحللين والمثقفين المهتمين بالتحليل، فقط، توجد جمعيات التحليل النفسي.

إن عَالَم الأَعراض هو مسارٌ نفسيٌ بديل إلى التثاقف، حيث يتحول الرفض المتأصل في الإنسان إلى إبداع يضاعف ما يسميه الفرويديون عمل الثقافة. من هذا المنطلق جاء الشعار الذي طرحه المحلل النفسي جاك آلان ميلر خريف 2019: العالمية «Universalism» ضد العولمة «Globalization»، و«US» مفهومةً كـ أعراض مُتّحدة «United Symptoms» (جرياً على أسلوب لاكان في التمتع الجويسياني بنحتِ كلمات جديدة عبرَ مزج فريد يُحيل إلى معنىً مركب).

فلنتذكر أن سيغموند فرويد ينتمي إلى تاريخ من المفكرين الكلاسيكيين هم في النظرية، فيما يتعلق بالرأي في أولية الثقافة، ينتمون إلى الفلسفة المثالية، وفي التاريخ الثقافي واجتماعياً إلى مشروع التنوير، وإلى الفلسفة القارّية19 ومركزية مفهوم الذات فيها. كان فرويد متماهياً مع التقاليد القارّية للفلسفة، في سؤالها المحموم فلسفياً حول الذات والحُرّية. نظرية ومشروع وفلسفة تُراهن على قوة الفكر في «تحرر الإنسان من قصوره الذاتي»، التعريف الكانطي للتنوير. 

ولقد واجهت الفرويدية منذ بدايتها ودائماً نقداً قوياً لمثاليتها في تصور النفس، بالتحديد نقداً لسذاجة الافتراض بأن علاج الاضطراب النفسي يكون بإقناع المريض بالتفكير بطريقة قوية وحقيقية لا أكثر، وبالرهان على تغيير الأنماط المتكررة من الوعي القاصر. 

ويمكن القول إن جاك لاكان بقي فرويدياً حتى تخليه، في أواخر عمله النظري، عن تعريف نهاية التحليل بعبور المخيال الأساسي، وتخليه عن النموذج المعرفي (الباراديغم) البنيوي في التقسيم الثلاثي للبنى النفسية إلى عصابي وذهاني ومنحرف، لصالح مفهوم بعد بنيوي هو العارض كثابت شخصي واستراتيجية وجود اجتماعي بديلة. وبعد تخليه عن مفهوم أوديب لصالح الوظيفة الأبوية واسم الأب، تخليه تالياً عن الاستناد إلى الوظيفة الأبوية في العلاج، لتصير نهاية التحليل تتحدد بتَعرُّف الذات على نفسها انطلاقاً من أعراضها (التماهي مع الأعراض، كما تُترجم أيضاً)، أو للدقة «معرفة ما يمكن فعله بالأعراض عوض التمتع اللاواعي»، وحيث اسم الأب شكلٌ واحد محدد من الأعراض، وحيث تُفهَم الأعراض كنمط ذاتي في التَمتُّع غير قابل للتغيير، وكقَدَر ذاتي وثابت شخصي يكون من الحكمة بمكان للذات أن تبدأ تَعرُّفها على نفسها دائماً انطلاقاً منه: «وإذا لم تكن هناك، كما يزعم لاكان، أية ذات قادرة على الإفلات من التكرار، فإننا نستطيع مع ذلك إضافة الملاحظة التالية، وهي أننا لا نكرر بنفس الطريقة في بداية المعالجة كما في نهايتها، على اعتبار أن الذات، مستسلمة لوضعيتها الوجودية (..) تستطيع أخيراً أن تعترف بذاتها وتؤكد ذاتها في تَفرُّدها. ذلك ما يشير إليه لاكان عندما يتكلم عن تماهي المرء مع عَرَضه الخاص المتكرر في نهاية المعالجة. هكذا فإن التكرار ليس هو فقط قَدَرُ الذات، إنه أيضاً سبيل للنفاذ إلى رغبتها».20 بعد تحليل ما يمكن تحليله، فإن ذلك الذي هو غير قابل للتحليل ولا التغيير يصير مسؤولية المريض عن رغبته في أَمراضيتها الأصلية: اختزال الأَعراض إلى السينثوم.

وشارحاً لاكان في ماديته الجذرية، يشدد سلافوي جيجك على أن التقسيم اللاكاني الكلاسيكي للبنى النفسية، والمفهوم التالي للأَعراضِ، يتعامل مع التكوينات اللاواعية كبنى وجودية، أي «لها كرامة المواقف الفلسفية»، ولا شيء لتغييره إلا حقيقة كون هذه التكوينات غيرَ واعية بذاتها. هكذا، فالانحراف القائم على الإيمان بالمتعة الأخرى، والذهان القائم على رفض التمتع الاجتماعي باسم الأب وعارضه الأنا، والعصاب القائم على الإيمان بنظام الأشياء وعارضه اسم الأب، هي ليست مواقف مرضية لتغييرها بل أنماط وجود لتُفهَم ويُتصالَح معها.

لكن الفرويدية ما تزال ما كانته في بدايتها، والرأي لمحللين ومؤرخين معاصرين مثل مؤرخة التحليل النفسي اليزابيث رودينسكو: «نظرية في النفس مدعومة بفلسفة في الحرية». ويعني هذا، أكثرَ من محاججة رودينسكو المنصبّة على نقد العلاجات النفسية البيولوجية والسلوكية اليوم، أن التحليل النفسي أداة ضرورية في فهم آليات اشتغال القمع والهيمنة والسياسات السيكولوجية للرأسمالية المتأخرة وعنف النظام العالمي، وأيضاً بطبيعة الحال في حقل العلاج النفسي الذي تم التخلّي فيه بشكل مُتسارِع عن المقاربة التحليلية ككل، مع اكتشافِ إمكانية تغيير الحالة الذهنية والمزاجية بالتأثير على نواقل عصبية معينة في الدماغ البشري والتطور الطَفري لصناعة الأدوية النفسية. 

تَصِف رودينسكو المقاربة البيولوجية السلوكية المُهيمنة في عالم العلاج النفسي اليوم بكلمات قوية، تقول إنها مقاربة وحشية تشارك في تعزيز سلطة الخطاب الرأسمالي، عبر قبولها وتعميمها تصوراً عن الإنسان على أنه جوهرياً «حيوان نرجسي تغمره عبادة الذات ويسعى بلا توقف إلى قتل الحلم واللاوعي»،21 وذلك من خلال الأدوية ومواصلة محاولة الإشباع المباشر المستحيل للرغبة في الأم، ما تختصره كلمة «Jouissance»؛ التلذذ أو التمتع البدائي الاستهلاكي.

وفي كتابها ذي العنوان اللافت: لاكان، رغم كل شيء، توضح رودينسكو الإشكالية المحيطة بالفلسفة المتطرفة للاكان وبشخصيته أيضاً، والذي كان شخصية نزقة تشبه مرضاه من الذهانيين، وكان شخصاً مُفتعِلاً للمشاكل وليس محلّ إجماع إيجابي بين مثقفي عصره، وتقترح أن اللاكانية تدور حول شيء واحد: كيف لا يكون المرء أحمقَ.

حبر أحمر

في انقذافنا المجنون إلى الحياة، ندرك مأساة أننا لم نختر شيئاً، ولم نختر أن نأتي إلى الحياة أساساً. كل ما بحوزتنا إذن هو إدراكنا أن الحياة هي «ليُتمتَّع» بها بتعبير لاكان. ويتمكَّنُ الإنسان من ذاته حين يَتمكّنُ من فهم تمتعه، كناية عن تحقق جذري للشخصية في فرادتها الوجودية. فالعَارض هو تلك الشظية من الذات التي عاشت كل شيء وكانت حيّة هناك تُحدد للذات مواقفها، العارض هو جنين الذاتية الفردية، وهو روح الواحد «Monade»؛ المفهوم الفلسفي لليبنتز، وهو الموجود هناك «Dasein»؛ المفهوم الهايدغري. العَارض هو رغبة مُدمن في التعافي وعيش حياة عادية، أو حُبُّ رجل دين للجغرافيا، أو رب أسرة بكرش يحلم بتعلُّم تسلّق الجبال. يقترح لاكان أن على رب الأسرة بدل التمتع بالبيت والعائلة والأكلة المفضلة، البدء فوراً في تَعلّم تسلق الجبال، بغض النظر عن أي حسابات عقلانية، ذلك أن حب تَسلّق الجبال هو ما يقف وراء كل أسلوب حياة الرجل، وإن كل ما يحيط بحياته من قيود هو بسبب خيانته كل مرة في حياته لهذه الرغبة في تَسلُّق كل جبال العالم.

وخلافاً، فالتلذّذ الاستهلاكي يُنتج التذنيب ويشكّلُ الأنا الأعلى. يتشكل الأنا الأعلى من «خيانة الذات»، في دوامة مُفضية إلى الاكتئاب –والاكتئاب مرض العصر اليوم بالشكل الذي كان يُشار به إلى العُصاب بما هو داء الحداثة، والذهانات (الفصامات) بما هي الاسم العام لأَعراض بعد الحداثة التي انهارت فيها البنى الرمزية الشمولية الُمنظِّمة للعلاقات. لا عجب أبداً في أن عناصر داعش في أوروبا كثيرون منهم أصحاب سوابق ومُستجدون على الدين، وعديدون نفذوا العمليات الإرهابية تحت تأثير الكوكايين وغيرها من الأمفيتامينات والمنشطات النفسية الأخرى ذات التأثير القوي. للأنا الأعلى وجهُ داعشيٍّ ذي ماضٍ. ويشكل التلذّذ مدارَ التحررية الظاهرية للخطاب الرأسمالي المهيمن اليوم، الذي فيه نُستجوَب كمستهلكين ومُتمتّعين، على خلاف أنماط الأنا الأعلى والاستجواب التي توجد في نماذج القمع الكلاسيكي لأنماط الاقتصاد والدولة ما قبل الرأسمالية والنمط الرأسمالي في أطواره الصناعية.

والتحليل النفسي يُمكِّنُ من التحرر من قبضة كل أنا أعلى.

تَلحظون ربما، كيف أنه شائعٌ في الفهم المبسط للفرويدية فهمُ الأنا الأعلى على أنها الآمر الأخلاقي للذات، في حين أنه ربما من الأساسي لفهم الدور التحريري للتحليل النفسي أن نُشير إلى أنه، وبالعكس تماماً، فإن هذا الذي يتبوأ مكانة «الأعلى» هو مصدرُ العُصاب الواجبُ إبطال تأثيره؛ تأثيره ذاك الذي يَحول بين الإنسان وتَمتُّعه بحياة حقيقية. وأكثر، فالأنا الأعلى هو بدقة سوء فهم القانون الأخلاقي، فالقانون الأخلاقي المؤسِّسُ للوظائف الرمزية قائمٌ في جوهره على نظرية المأساة، والأنا الأعلى كائنٌ وحيد البُعد يفهم الأشياء بمنطق رفض القانون والتكفير عن هذا الرفض. ومن أجل سوء الفهم هذا، المُفضي إلى أشكال قصووية ذاتية التدمير من الوعي البائس، يشكل التحليل النفسي ترياقاً سياسياً مضاداً، بما هو تمكين الإنسان من أدوات مُحايثة لفهم نفسه وفهم ما الذات وما الأخلاقي، ومن تصورات حقيقية وشُجاعة للعالم قائمةٍ على الوعي بحقائق الأشياء.

قصة معنى الأَعراض تكاد تكون هي قصة التحليل النفسي، وهي تُضيء على ما يميز هذه المقاربة للنفس، حيث تَعتبر المقاربة البيولوجية المهيمنة اليوم في حقل العلاجات النفسية، كما سبق الإشارة إليه، أن الأعراض النفسية هي مثل الأعراض الجسدية، تُحيل مباشرة إلى اضطراب «Disorder»، تُفصّله قائمة متشعبة ومتزايدة كل بضعة سنوات من التصنيفات التشخيصية التي تُصدرها مؤسستا الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات النفسية الأميركية والدليل العالمي للاضطرابات النفسية الصادر عن منظمة الصحة العالمية، ويتعامل معها الأطباء بسخاء دوائي يُكرّس بدائية وتطفيلَ المرض النفسي.

مع مَفهَمة السينثوم كان التحليل النفسي في اللاكانية يفكّر بالسياسي، بحيث يذهب الكاتب الإنكليزي تيري إيغلتون في كتابه مشكلات مع الغرباء: تأملات في نظرية الأخلاق، إلى أنه ليس مع ماركس ولا مع فرويد، ولكن مع لاكان سيكون ممكناً القول إن لدينا نظرية مادية في الأخلاقيات.

من خلال الاعتبار الممنوح لهذا المفهوم اللاكاني الخُلاصي، يقف التحليل النفسي اللاكاني على جبهة متعددة الأطراف، فمن جهة هو في سياق اتجاهات التحليل النفسي التي وَاكَبها لاكان يُضاد ما عُرِفَ بعلم نفس الأنا، النسخة التحليلية المُطوَّرة في الولايات المتحدة على يد المحللين الذين انتقلوا إلى هناك بعد الحرب الثانية وتقوده آنا فرويد، ويركز على تعزيز وظائف الأنا وملَكات الحكم والتحليل بالتماهي مع شخص المُحلِّل، ما عَدَّه لاكان خيانة لجوهر المحاولة الفرويدية التي كشفت ثانوية الأنا وأساسية الطابع اللاواعي والمَرَضي للرغبة البشرية. لقد رغب فرويد حقاً في رغبة غير مَرَضية، وهذا مؤدَّى قول لاكان إن التحليل النفسي هو «رغبة فرويد»، ولكنه كان في تنظيره وممارسته للتحليل النفسي أكثر عمقاً من الصورة النمطية عن العلاج النفسي على أنه شكل من استيعاب اللاواعي ضمن وظيفة الأنا. مع لاكان تتجه وظيفة الأنا إلى أن تَحُلَّ اغترابها بالاغتراب حتى النهاية، بأن تَنحلَّ في ذات اللاوعي.

من جهة أخرى يقف التحليل النفسي ضد العلاج اللاتحليلي الأكثر انتشاراً اليوم، والمعروف بالعلاج المعرفي السلوكي، والذي يتلاقى مع توجه علم نفس الأنا في تطوير تَكيُّف المريض مع المتطلبات والمثل الاجتماعية من إنتاجية ومرونة.

وضد المثالية الثورية للتيار الرئيسي لحركة مجتمع الميم+، يقف التحليل النفسي وعلى عدة مستويات ناقداً ومُسائِلاً. فكثيراً ما يُنتقد «خطاب الانحراف» المتماهي مع الخطاب الرأسمالي المُهيمن في عالم بعد الأبوية المعاصر، خطاب وأسلوب حياة لا مكان فيه للآخر. في مجتمع التحليل النفسي المعاصر، قليلاً ما يُصار إلى التشكيك في حقوق مجتمع الميم+، مع أن ذلك يحدث أحياناً، وما يزال الكثير من الفرويديين الأرثوذوكس ومن المنظرين المعاصرين يتمسكون بالنظر إلى المثلية على أنها مشمولة بالبنية المنحرفة (شارل ميلمان)، وهو تصنيف تم التخلي رسمياً عنه بعد إثبات أن المثلي شخص يمكن أن يكون عصابياً أو ذهانياً إلخ، أي إن مثليته توجه جنسي وحسب، لا يشرط بنيته النفسية ولا يشكل ظاهرة أمراضية في حد ذاته. إذا كان من صدام نظري بين سياسات التحليل النفسي وسياسات إيديولوجيا الهوية الجندرية فهو لا-تحليلية هذه الإيديولوجيا، أو تجاهلها للذخيرة التحليلية في فهم المجتمع لصالح فهم مبسط قد يبدو ثورياً وهو ليس كذلك.

فإزاء الطرح القائل إن هويتي الجندرية تتحدد بكيف أشعر بنفسي وكيف أختبر جنسانيتي، وليست تتحدد بهويتي البيولوجية، وحيث «يُعاد تشكيل الهوية الجندرية الاختيارية كامتياز، وحيث يُعاد تعريف الهويات الجندرية المحددة بيولوجياً (الرجال والنساء) من قبل النشطاء المتحولين كهويات سلطوية وقدامية»، يسأل جيجك: «ولكن أين اللاوعي هنا، ولماذا يتم التصرف كما لو أن فرويد لم يوجد. فالإنسان هو نتاج تجربة وجودية وصدمية تتحدد ليس بالبيولوجيا وحدها ولا بالرمزي وحده ولكن بمزيج فريد في كل حالة فردية يتجاوز تصور الشخص عن نفسه» وهذا معنى الفكرة المحورية للّاكانية من أن الإنسان هو جذرياً ذات منقسمة بشكل لا شفاء له، حيث وعيٌ بالذات كاملُ الحضور محال، وأن اللغة هي ما يُبقي على وحدته، وأنها تحكمه بقوانين تتجاوز خبرته الواعية. فطالما أنا أتحدث «فإنني يُتحدَّث من خلالي، إلا أن أكون أقرأ من ورقة أو من المحفوظات» يقول لاكان.

من جهة أخرى يفهم المحللون النفسيون، الذين يستمرون في تقديم خدماتهم العلاجية حول العالم، دورهم بشكل ثقافي أكثر، وبدرجات مختلفة من التسييس ومن مواقع إيديولوجية مختلفة: بعضها محافظٌ مثلما في مقاربة شارل ميلمان وجان بيير ليبرون، أو من موقع ليبرالي تقدمي مثل قراءة وتأريخ إليزابيث رودينسكو، أو من موقع يساري مثل مجمل عمل مدرسة ليوبليانا للتحليل النفسي، وخصوصاً سلافوي جيجك أحد مؤسسيها. تُدرس التغييرات المعاصرة في ضوء مفاهيم جديدة كالاقتصاد النفسي الجديد، والذوات الجديدة، والانحراف المعتاد والذهان المعتاد، وتُدرس الخطابات الجديدة في ضوء الهيمنة المستجدة للخطاب الرأسمالي. كما تَظهر أشكال جديدة لوظيفة الخصاء الرمزي، مثل الصواب السياسي والنباتية والاهتمام بالنظام البيئي. والأخيرة يراهن عليها الفيلسوف الفرنسي لوك فيري بصفتها التعبير الثقافي الواعي سياسياً لما يراه ويسميه النزعة الإنسانية الثانية (بمعنى المتحررة من الجذور الاستعمارية للنزعة الإنسانية الكلاسيكية). هذه العودة للمَنزع الإنساني مرتبطة بتمامية «ثورة صامتة» في التاريخ الحديث يُمثلها حدث زواج الحب، الذي ارتبط بنشأة المجتمعات الحديثة واستقلالية الأفراد الاقتصادية، والذي استبدل بشكل تراكمي الصيغة التقليدية للزواج القروي المُقرَّر سلفاً. ورافقت هذه الثورةُ التغيرات الاجتماعية والسياسية، وفرضت ضغطاً لِعَلمنة المجال العام، لتُدخِلَ في حياة الإنسان عنصراً متعالياً مانحاً للمعنى محايثًا للتجربة المُعاشة هو الآخرُ الإنسانيُ المحبوب. هذا المبدأ في «المعنى في الأسرة الحديثة» ليس مبدأ نظرياً مثالياً مجرداً متعالياً على الواقع، حالَ كل مبدأ للمعنى عرفه الإنسان من قبل (النظام الكوني في الأديان ما قبل التوحيدية، والله في الأديان، والأمة والطبقة والثورة في الأيديولوجيات الخلاصية الحديثة)، بل هو لو جاز التعبير مقدَّس إنساني ينتمي للعالم. يؤكد فيري على أن طرح المجموعات البيئية على طاولة النقاشات السياسية سؤال المستقبل «وحق الأجيال القادمة في عالم حيث الحياة تستحق أن تُعاش» يغير طبيعة هذه النقاشات ويفرض مقاربات جديدة جادة.

كخاتمة

إجمالاً، فبالمعنى الذي شدَّدَ عليه لاكان، أسَّسَ فرويد لنظرية قراءة، نظرية قراءة للأعراض المرضية المعبرة عن نفسها في كلام المرضى، ولكن أيضاً لكل أنواع النصوص والطقوس والممارسات الرمزية الإنسانية، فلقد ازدهر التحليل النفسي في عالم التحليل الأدبي مُشكِّلاً منهجاً مستقلاً بذاته في النقد الأدبي. وفي الكتابة الروائية، عَرفَ القرن العشرين التقليد المسمى الواقعية النفسية، كما في رواية السراب لنجيب محفوظ، كما أن فرويد قد طَوَّر مفاهيمه الأساسية لنفس الإنسان المفرد من خلال تحليل الثقافة، بِدءاً بالعبادات الطوطمية للقبائل البدائية ولاوعي النصوص الدينية اليهودية كما في موسى والتوحيد، والواقع السياسي المضطرب لأوروبا بدايات القرن العشرين كما في سخط في الحضارة.

وفي إجابته عن سؤال حول مصير الممارسة التحليلية في عالم ما بعد الأبوية الذي نعيش في خِضمّه، قال مصطفى صفوان الذي غادر عالمنا جسداً منذ قليل: «ما يبقى، يكون حين يمر. كذلك تَكلَّم لاكان. إنها في الواقع النظرية التي وضعت تأكيدها على الوجود المتكلم ’Parlêtre‘، وما قام به لاكان هو تحويلٌ جذريٌ لفكرة المجمع الأوديبي، عبر تحديد الرغبة من خلال رغبة الآخر، وتحديد الآخر كمكان للغة، حيث تكون الأم أول من تشغل هذه المكانة».22

إن هذا التشديد الذي يُحافَظ عليه بما هو القلب الفريد للفرويدية، وبما هو ما يستحق أن يتبقى من التحليل النفسي الذي وصفه لاكان في النهاية بأنه «رغبة فرويد»، يشير إلى فعل اللغة من حيث هي كلام الجسد، وفي العصر الذي فيه يُجهَز على الوظيفة التحويلية للغة وللثقافة في الظاهرة المسماة فسخ التحويل، إحدى سمات الاقتصاد النفسي الجديد،23 تكتسب الفرويدية أهميةً خاصة.

فالتحويل «Transference» ظاهرة نفسية ومفهوم فرويدي يشير إلى المشاعر العُصابية التي يُسقطها المريض من صراعاته النفسية على شخص المُحلِّل والآخرين في حياته، وهي ظاهرة رآها فرويد المدخل إلى التحليل النفسي، حين يَقبل المُحلِّل هذه المشاعر وعبرها يحاور ذات اللاوعي التي تقف وراء الأَعراض. «التحويل هو الحب»، يقول لاكان بصوتٍ متشكٍّ في محاضرته الوحيدة المصورة في الجامعة الكاثوليكية، وتعرف ذلك كل أمّ وكل صديق وكل محلل نفسي. من جهة أخرى فالتحويل هي الوظيفة العمومية للثقافة بمعناها الواسع، فالنصوص الأدبية والفلسفية الأصيلة، بالمعنى الذي أعطاه غرامشي لفكرة أصيلة: «الفكرة التي تستطيع أن تخاطب كل الناس»، والدينُ والقادةُ السياسيون الشعبويون.. إلخ يقومون بتحويلٍ عبر إعادة توجيه المشاعر في قنوات اجتماعية.. الوطنية مثلاً، حين يُذكِّرك السوري الذي تلتقيه في بلد أجنبي بأصدقاء الطفولة فتُسقِطُ عليه حبك لأصدقاء الطفولة، فيكون بذلك لديك معنى لكونك وكونه شخصاً سورياً. إذا كنت ترى هذا جميلاً فلأنك جميل، وإذا كنت تراه بائساً فذلك لأنها ظاهرة ثقافية مرتبطة باقتصاد نفسي تنفرد بتشكيله احتياجات الشركات.24

الاسم القديم لهذه العملية النفسية هو الإيمان، وبالأحرى فإن التحليل النفسي ظهر في وقت من التاريخ تخلخل فيه التحويل التقليدي، عبر انهيار المرجعية الدينية للحياة الدنيوية لصالح مرجعية دنيوية (علمانية)، فانهار الإطار الأعلى الذي يجمع العائلة ويَحُلُّ المشاعر الأوديبية العدائية بين الولد ووالده. وغير التحويل الديني، فالتحويل الفلسفي هو التفكير، من خلال خلق الشخصية المفاهيمية للصديق، المولدة للثنائيات الفلسفية حيث الصديق (فيلو) هو نصف الفلسفة بالتمام وحيث سوفي (الحكمة) هي الصديق المشترك، أو هي ما المفكرون أصدقاؤه وأصدقاءُ بعضهم بالتالي. أنا شيوعي للصديق الليبرالي، أنا محافظ أو متحرر. إلخ. التحويل الفلسفي هو في الصداقة المعقودة سلفاً مع الحكمة عبر الرغبة في التفكير المُكنّى عنها بتعبير حب سوفي «Philosophy». بإخضاع الفكر للجدل الذهني مع الصديق المجرد، يحصل التفكير.

إن مفهوم الإيديولوجيا هو مفهوم إيديولوجي متورط في سياسات، فباستخدامه تتخذ الذات المفكرة موقعاً جذرياً مُسائِلاً للترتيب السياسي والاجتماعي القائم، وبالاستغناء عنه بصفته مفهوما إشكالياً ومركزياً أوروبياً مرتبطاً بالنزعة الإنسانية الكلاسيكية، فإن ما يوجد هو ثقافات تُفهَم بمبدأ النسبية الثقافية. ذلك هو الإنسان حيثُ كان، يعيش حياته في مجتمع ضمن بنى رمزية تنظم علاقته بعالمه هي جزء من طبيعة الأشياء، وهو المنظور النيوليبرالي المهيمن. بالمقابل، فبتفعيل مفهوم الإيديولوجيا تبني الذات المفكرة على حقيقة أن هناك فرقاً يصنع الإيديولوجيا وهذا الفرق هو واقعة الاستغلال: توجد الثقافة والحقيقة وتوجد الإيديولوجيا، والحقيقةُ هي الحق الإنساني الأساسي في الحرية. والتزاماً بهذه الحقيقة فإن مبحث نقد الإيديولوجيا يعمل نحو الإجابة على السؤال الذي طرحه الشاب المتفلسف من عصر النهضة إتيان دو لا بويسيه في كُتيّبه العبودية الطوعية- مرافعة ضد الطغيان، أيقونة كلاسيكيات الأدب الليبرالي، والذي فيه تساءلَ ما الذي يدفع الناس إلى التخلي طواعية عن حقوقهم والتصرف ضد مصالحهم لصالح سلطة مستبدة «لشخص واحد لا يملك من القوة إلا ما أعطوه بموافقتهم، ولا يقدر على أذيتهم إلا بقدر ما يتقبلون هذه الأذية، ولا يمكن له أن يوقع بهم مكروهاً إلا لأنهم يفضلون معاناة الأمرين على التفكير في معارضته.. ولا يتعين انتزاع شيء منه بل يكفي الامتناع عن إعطائه، وما من داع ليجهد أفراد الشعب في شيء محدد لمصلحتهم إلا التوقف عن التصرف ضد مصلحتهم».25 الإيديولوجيا هي اسم هذه القوة الشريرة في أبعادها النفسية والاجتماعية، ويُمثل المجتمع المدني المجال التأسيسي للنضال المضاد لهذه القوة. وأنطونيو غرامشي، المناضل الماركسي الإيطالي الذي صوّب المفهوم الماركسي للإيديولوجيا ودور المجتمع المدني، كان قد مَفهَم أَعراضَ الاضطراب في دلالتها على الانحسار الإيديولوجي لهيمنةٍ وعدمِ ظهور هيمنة إيديولوجية مضادة، وذلك في رسالته الشهيرة من دفاتر السجن: «إذا كان القديم قد مات والجديد لم يأتِ بعد، سيكون لدينا مروحة واسعة من الأعراض».26

مع العودة التي أنجزها لاكان إلى نصوص فرويد، وتخصيبها بالرؤى الفلسفية الهايدغرية والهيجلية والاسبينوزية والنيتشوية، وبمنجزات العلوم الإنسانية ولاسيما علوم اللغويات التي عاصر طَفراتها، يُشكل التحليل النفسي تلك الأداة الضرورية في أي مقاربة واقعية لواقعنا، فما بالكم بمقاربة تَطلُبُ التأسيس لهيمنة إيديولوجية تحررية مضادة قادرة على تغيير هذا الواقع وتثويره.

الجمهورية

المقالة السابقة
التسرب المدرسي- الأسباب والحلول
المقالة التالية
فرصة للدراسة والعمل معاً في كندا

أضف تعليق

Your email is safe with us.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X