إعداد الباحثين في العلوم السياسية: إبراهيم محمد البنا , زياد جمال القصاص , عبدالحليم أحمد إبراهيم , عبدالله أحمد السيد , عبدالله عصام الجندي , عصام عبدالمنعم البدري , محمد أحمد حسين
جهة النشر: المركز الديمقراطي العربي
المقدمة:
تُعد الأزمة السورية واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا في العالم؛ نظرًا لتعدد أطرافها ما بين أطراف محلية، وإقليمية، وأخرى دولية، وتعدد وتباين مصالح كل طرف إلى حد التشابك وأحيانًا التعارض، وبالرغم من قرب دخول الأزمة عامها “الثاني عشر” فلا توجد مؤشرات تُنذر بقرب انتهائها فمازال الصراع قائمًا منذ اندلاعه في 2011م إلى الآن، ويزداد المشهد السوري تعقيدًا يومًا بعد يوم، وتزداد حدة الأزمة الإنسانية بمرور الوقت، فمازال الشعب السوري تحت وطأة القصف والدمار الذي خلفته الحرب؛ التي أدت لنزوح ملايين اللاجئين لدول الجوار.
ترجع حالة عدم الاستقرار وديمومة الصراع التي تشهدها سوريا إلى العديد من الأسباب؛ فبالنظر لطبيعة الحرب في سوريا سنجد أنها خليط غير متوازن من الحرب الأهلية والحرب الإقليمية والدولية والحرب بالوكالة والحرب الطائفية المذهبية، فالصراع القائم في سوريا ليس تعبيرًا عن صراع مستقل قائم بذاته، وإنما يمثل وجهًا من أوجه صراع مركب متعدد الأطراف تتداخل فيه مصالح إيرانية، وروسية، وتركية، وأمريكية، وإسرائيلية، فضلًا عن مصالح القوى المحلية الكردية، والسنية، والشيعية، والقوى الدخيلة والمستحدثة (كالتنظيمات الإرهابية)؛ لذلك يمكن توصيف الصراع في سوريا على أنه صراع بين قوى إقليمية ودولية أشعلته قوى وعوامل داخلية تمثلت شراراتها في إندلاع موجة الاحتجاجات الشعبية السورية في 2011م والتي جاءت متأثرة بموجة الاحتجاجات التي عمت الدول العربية وأُطلق عليها أحداث “الربيع العربي” التي عبرت عن حالة من الكبت والإستياء الجماعي للشعوب العربية من الأنظمة الحاكمة.
غير أن ما زاد الأمر تعقيدًا هو عدم قدرة نظام الأسد على إحتواء موجة الغضب الشعبي العارمة -أنذاك- ومحاولة النظام إخماد حركة الاحتجاجات بالقوة المسلحة وهو ما نتج عنه انقسام داخلي في صفوف القوة المسلحة ما بين مؤيد ومعارض لينتهي الأمر بإندلاع حربًا أهلية طاحنة أججتها القوى الخارجية بدعم طرف على حساب الآخر تماشيًا وتعبيرًا عن مصالحها.
ولفهم طبيعة الصراع في سوريا وللوقوف على أسباب ودوافع الأزمة السورية سنسلط الضوء في هذه الدراسة على القوى المحلية الفاعلة ودورها في إثارة الأزمة، وكذلك القوى الخارجية وعلاقتها بالأزمة السورية؛ لاستنتاج منهج وآليات القوى المحلية والخارجية في إدارة الصراع، بالإضافة لدور القوى والمؤسسات الدولية في إدارة الأزمة، لكننا وفي سبيل دراسة الأزمة السورية دراسة متعمقة سنتطرق في البداية لعرض الجذور التاريخية للأزمة السورية واستخلاص أهم النتائج والتوصيات التي نأمل أن تُسهم في حل الأزمة أو التخفيف من حدتها.
المشكلة البحثية:
تكمن مشكلة الدراسة في الطبيعة المعقدة للأزمة السورية، بسبب تعدد أطرافها ما بين أطراف (محلية، إقليمية، دولية)، وتنوع الأهداف المراد تحقيقها من قبل كل طرف، وتمسك بعض الأطراف المعنية بوجهات نظرها، وعدم رغبتها في تقديم أي تنازلات لصالح تسوية الأزمة، وهذا فضلًا عن غياب الولاء الوطني لدى بعض الأطراف المحلية وارتباطها بقوى خارجية، الأمر الذي أدى لزيادة تعقيد الأزمة وإطالة أمدها، وعليه تتمحور المشكلة البحثية في تساؤل رئيسي قوامه: ما أبرز الآليات التي لجأت إليها الأطراف الإقليمية والدولية لإدارة الصراع في سوريا؟ وما مدى فعالية هذه الآليات في إدارة الصراع؟
ويندرج تحت هذا التساؤل مجموعة من التساؤلات الفرعية تتمثل في:
- ما الأسباب التي أدت لإندلاع الصراع في سوريا؟
- ما جذور الأزمة السورية؟
- ما الأطراف المباشرة وغير المباشرة المُنخرطة في الصراع؟
- ما أبرز المراحل التي مر بها الصراع؟
- ما الآليات التي اتبعتها الأطراف المحلية والإقليمية والدولية لإدارة الصراع في سوريا؟
- ما دور المؤسسات الدولية في إدارة الأزمة؟ ما موقف القانون الدولي من الصراع في سوريا؟
هدف الدراسة:
لذلك وتأسيسًا على ما تقدم: نستهدف من خلال هذه الدراسة الإجابة على جملة من التساؤلات التي تصاحب المشكلة البحثية من خلال التعرض للجذور التاريخية للأزمة السورية، ومعرفة الأطراف المباشرة وغير المباشرة المُنخرطة في الصراع ومنهج وآليات كل طرف في إدارته للصراع، وكذلك الوقوف على مراحل تطور الصراع، ودور المؤسسات الدولية في إدارة الأزمة، وصولًا لعرض أهم وأبرز النتائج والتوصيات التي توصلنا إليها والتي نأمل أن تُمثل رؤية لصانع القرار تُسهم في حل الأزمة أو التخفيف من حدتها.
أهمية الدراسة:
تتجلى أهمية الدراسة في الموضوع ذاته إذ تعالج الدراسة أزمة تُعد من أخطر الأزمات التي تهدد أمن واستقرار المنطقة العربية وسلامة الشعوب، وتجمع الدراسة بين شقين:
_ الشق الأكاديمي والذي يمثل (الأهمية العلمية) نظرًا لما يحتويه من دراسة علمية تتناول الأزمة بكافة أبعادها مع التركيز على طرق آليات إدارتها لإستخلاص مناهج وأدوات تلك القوى في إدارة الأزمات والصراع الدولي وهو ما يمكن أن يُمثل إضافة علمية لحقل العلاقات الدولية وبالأخص فرع إدارة الصراع الدولي.
_ الأسلوب الإمبريقي تطبيقيًا والذي يمثل (الأهمية العملية) وذلك اعتمادًا على دراسة أسباب الأزمة وجذورها التاريخية، ودوافع ومصالح الأطراف المُنخرطة في الصراع وآليات إدارتها للصراع، وبالتالي فإن نتائجها يمكن أن تساهم في تقديم رؤية لصناع ومتخذي القرار المعنيين بالأمر لمعالجة الأزمة أملًا في أن تترجم تلك الرؤية لسياسات فعلية تُسهم في الوصول لتسوية للأزمة.
فرضية الدراسة:
تنهض الدراسة على افتراض مفاده أن الأزمة السورية هي نتاج تفاعل عوامل داخلية وخارجية ساعدت على اندلاعها وديمومتها. ومن هذه الفرضية يمكن أن تُشتق فرضية أخرى تذهب إلى أن الطبيعة المعقدة للأزمة السورية، وصعوبة إيجاد حلول جذرية لها، مع ضعف عامل الانتماء الوطني وارتباط القوى المحلية بقوة خارجية أخرى تُعبر عن مصلحتها، يمكن أن يُسهم في تقسيم سوريا والإبقاء على الأوضاع الحالية طبقًا للمكاسب الميدانية.
منهج الدراسة:
للتثبت من صحة الفرضية التي انطلقت منها الدراسة اعتمدنا في هذه الدراسة على المنهج الإستقرائي بشكل رئيسي والذي يقوم على ملاحظة واقع الأزمة لمعرفة أسبابها وأطرافها، ومنهج وآلية كل طرف في إدارة الأزمة، غير أن هناك مجموعة من الإقترابات التي سنلجأ إليها في ثنايا تناولنا للأزمة السورية تتمثل في:
_ المنهج التاريخي: والذي يقوم على فكرة أن التاريخ هو سلسلة من الوقائع والأحداث المترابطة والتي تساهم في صناعة وتشكيل الواقع، وسوف يتم توظيف هذا الاقتراب من خلال الرجوع إلى أحداث التاريخ السوري المعاصر للكشف عن أسباب وجذور الأزمة.
_ المنهج القانوني: والذي يقوم على دراسة نصوص الدساتير والتشريعات، وتحديدًا القواعد التي تحدد عمل المؤسسات المكونة للنظام، وسوف يتم توظيف هذا المنهج في الدراسة عبر تحديد كيفية تجاوز بعض الأطراف للأطر القانونية في سوريا، وكذلك تجاوز الأطراف الخارجية للأطر القانونية للقانون الدولي.
_ اقتراب التحليل النظمي (النسقي): والذي يقوم على أن ثمة عوامل خارجية يُطلق عليها مدخلات تتفاعل مع مؤسسات النظام السياسي وتسمى بالعمليات، ويترتب عليها نتائج تسمى مخرجات وهي عبارة عن قرارات تتخذها السلطة، ومن ثم يكون هناك تغذية راجعة، وسوف يتم توظيف هذا الإقتراب من خلال دراسة مدخلات الأزمة السورية متمثلة بعوامل تصاعدها، وعمليات الأزمة متمثلة في المواقف التي تتخذها الأطراف المتحكمة فيها، والمخرجات متمثلة في النتائج التي ألت إليها الأزمة.
_ اقتراب صنع القرار: والذي يقوم على إفتراض أن العلاقات الدولية ما هي إلا نتاج تفاعل قرارات شخص أو مجموعة من الأشخاص أو المؤسسات المسؤلة عن صنع سياسات الدولة، وسوف يتم توظيف هذا الاقتراب عبر دراسة سلوك وقرارات صناع القرار والقادة السياسيين للأطراف المتحكمة في الأزمة.
حدود الدراسة:
_ النطاق المعرفي للدراسة (الحقل المعرفي): تنطلق هذه الدراسة من حقل العلاقات الدولية، وبالأخص فرع إدارة الصراع الدولي؛ نظرًا لكون الدراسة تبحث في آليات أدارة الصراع الدولي في سوريا.
_ النطاق الزمني للدراسة (فترة الدراسة): يتحدد النطاق الزمني للدراسة ابتداءًا من بدء تصاعد الاحتجاجات في 2011م، باعتباره تاريخ بدء الأزمة وحتى عقد “قمة سوتشي” في 6 أغسطس 2022م التي جمعت “موسكو” و”طهران” و”أنقرة”، باعتباره أخر لقاء جمع بعض أطراف الصراع، وجاءت مخرجات المباحثات تدعوا لإطلاق حوار وطني يجمع قوى المعارضة والنظام السوري لبحث سبل وقف العمليات العسكرية تمهيدًا لإنهاء الصراع.
_ النطاق الجغرافي (المكاني) للدراسة: تم تحديد نطاق الدراسة الجغرافي وهو سوريا باعتبارها محل الدراسة مع التركيز على بعض الأطر الجغرافية المجاورة التي تؤثر في الأزمة أو تأثرت بها؛ لأن الأزمة السورية قد ألقت بظلالها على معظم البلدان والأقاليم المجاورة وغير المجاورة، ويأتي تحديدنا لهذا الإطار الجغرافي حتى نتمكن من حصر المشكلة في نطاق محدود.
تقسيم الدراسة (خطة البحث):
- المبحث الأول: في أسباب ودوافع الأزمة السورية.
_المطلب الأول: الجذور التاريخية للأزمة السورية.
_المطلب الثاني: القوى المحلية الفاعلة ودورها في إثارة الأزمة.
_المطلب الثالث: القوى الإقليمية والدولية وعلاقتها بالأزمة السورية.
- المبحث الثاني: آليات القوى المحلية والإقليمية والدولية في إدارة الصراع.
_المطلب الأول: منهج القوى المحلية في إدارة الأزمة السورية.
_المطلب الثاني: دور القوى الإقليمية في إدارة الأزمة.
_المطلب الثالث: دور القوى والمؤسسات الدولية في إدارة الأزمة.
- النتائج والتوصيات
- قائمة المصادر والمراجع
المبحث الأول: في أسباب ودوافع الأزمة السورية
المطلب الأول: الجذور التاريخية للأزمة السورية
تتميز سوريا اليوم بما فيها من مجموعات عرقية ودينية متنوعة. ومثل هذا التنوع لا يؤثر فقط على ثقافتها، ولكنه يؤثر كذلك على ميل شعبها للعنف نتيجة لذلك التنوع.. بالإضافة إلى ذلك فإن سوريا قد مرت بمراحل استعمارية وتغييرات في نظام الحكم كان لها تأثير في شكل الدولة قبل الأزمة والذي هو كان سبب الأزمة. ويمكننا تناول الجذور التاريخية للأزمة في مدخلين رئيسيين، وهما الخلفية التاريخية عن سوريا التي أدت للوضع الحالي للأزمة، ونعرض تفصيلًا أهم المحطات في هذا المدخل وهم مرحلة الانتداب الفرنسي، وصعود حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد، والانقسام الديني والعرقي في سوريا.
- الخلفية التاريخية عن سوريا.
منذ البداية تم النظر إلى سوريا على أنها المكان حيث السكان الذين لديهم مزيج من الشعوب والثقافة. واحدة من أولى المجموعات المعترف بها للسيطرة على سوريا منذ ألف عام من 3500 قبل الميلاد كانوا السامريين المتحضرين من بلاد ما بين النهرين[1].
وكانت سوريا دومًا موطنًا خصبًا للنزاعات والصراعات بداية من احتلال السامريين إلى البابليين، ثم المصريين، والحيثيين من بعدهم، ثم قدوم الإسكندر الأكبر ومن بعده سقوط الإقليم تحت الحكم الروماني، ثم الحكم البيزنطي وحتى الفتح الإسلامي لسوريا ومصر في عهد الخلفاء الراشدين.
وبعد هزيمة الخليفة علي بن أبي طالب أمام بني أمية والذي أدى للانقسام الأعظم والوحيد في الإسلام: بين السنة والشيعة والذي كان له تأثير رئيسي على الإقليم الحديث كما نرى الآن كل دولة لديها أو تسيطر عليها مجموعة من السنة أو الشيعة[2].
في عام 1516، ضمت الإمبراطورية العثمانية سوريا. تم الاحتفاظ باللغة العربية كلغة رسمية وأصبحت دمشق محطة التوقف الرئيسية لمكة. تم تطوير نظام اجتماعي وقانوني سمح لجميع المجموعات العرقية بالعيش في سلام وتناغم نسبيين، لكن هذا السلام بدأ يزعزع الاستقرار خلال منتصف القرن التاسع عشر مع توسع الإمبراطوريات الغربية[3].
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت الإمبراطورية العثمانية تحت النفوذ البريطاني والفرنسي بشكل متزايد. خلال الحرب العالمية الأولى، تم توقيع إتفاقية “سايكس بيكو“ السرية التي قسمت الإمبراطورية العثمانية إلى منطقتين نفوذ بريطاني وفرنسي ووقعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي. في عام 1920، تفاوضت سوريا وفرنسا على معاهدة الاستقلال، لكن لم يتم التصديق عليها. لم يبدأ الفرنسيون مغادرة البلاد إلا في أبريل 1946 وتم الاعتراف بسوريا من قبل الأمم المتحدة[4].
في عام 1963، وصل حافظ الأسد إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري. منذ ذلك الحين، تخضع سوريا لقانون الطوارئ الذي علق العمل بالدستور ومعظم الحقوق المدنية لمواطنيها. بقي حافظ الأسد في السلطة من عام 1970 حتى وفاته في عام 2000. انتخب ابنه بشار الأسد رئيسًا في حملة رئاسية بلا منازع.
كل هذه المراحل تمثل رحلة طويلة خلفت كل محطة منها ندبة كانت سببًا في اندلاع الأزمة لاحقًا، وفيما يلي نستعرض بشيء من التفصيل بعض أهم تلك المحطات لما لها من أهمية في الوصول للأزمة بشكل مباشر.
- مرحلة الانتداب الفرنسي
أعطت معاهدة فرساي (1919) المصادقة الرسمية على الترتيب السري من خلال إنشاء عصبة الأمم ونظام الانتداب عليها، كان الانتداب إذنًا يمنح للدول الأعضاء في عصبة الأمم لتحكم مستعمرة ألمانية أو تركية، وكان التبرير الإمبراطوري النموذجي أن هؤلاء الناس لم يكونوا مستعدين بعد للحكم الذاتي. ونتيجة لذلك، حصلت فرنسا على الانتداب على سوريا ولبنان[5].
كانت طبيعة عملية التقسيم هي التي أدت إلى إنشاء دول بدون دول في الشرق الأوسط. الحدود المرسومة حديثا تتقاطع مع الدين والاجتماعي والعرقي المجموعات، وشكل وجود مثل هذه الجماعات المعادية والمتصارعة في هذه الدول المسحوبة تهديدا كبيرا لشعوب العالم. العملية اللاحقة لبناء الدولة، ومثل هذه الجماعات المتباينة تقاتل بعضها البعض في سوريا اليوم. وهكذا بقيت سوريا تحت الحكم الفرنسي حتى استقلالها في 24 أكتوبر 1945[6].
في الفترة الأولى بعد الاستقلال، كان السنة في السلطة. واجهت البلاد سلسلة من الانقلابات التي أدت في نهاية المطاف إلى انقلاب بعثي في مارس 1963. في وقت لاحق، في عام 1970، الجنرال حافظ الأسد، وهو علوي، الاستيلاء على السلطة.
- صعود حافظ الأسد
استولى حافظ الأسد على السلطة من الطغمة العسكرية البعثية في عام 1970 مركزًا السلطة في رئاسته، وأتى حافظ الأسد من الأقلية العلوية، وهي طائفة شيعية تعرضت للاضطهاد في سوريا لفترة طويلة وتم ترقيتها إلى مناصب متميزة في ظل الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى[7].
لفهم حكم الأسد بشكل أكبر والمفارقة الكامنة وراء صعوده إلى السلطة، يجب أن نلقي نظرة بعد ذلك على حزب البعث بشكل عام. كان حزب البعث في الأصل جماعة سياسية تعرف باسم “حزب النهضة العربية” تم إنشاء هذا الحزب لأول مرة في سوريا في الأربعينيات كحزب من المثقفين الحضريين البرجوازيين الصغار. في 8 آذار 1963 مجموعة من الضباط البعثيين وآخرون استولوا على السلطة في سوريا من خلال انقلاب عسكري[8].
في فبراير 1982، أمر حافظ الأسد الجيش بقمع انتفاضة الإخوان المسلمين في مدينة حماة بالقوة الغاشمة، وقتلت القوات السورية هناك أكثر من خمسة وعشرين ألفاً. ستصبح حماة صرخة استنفار في 2011 بالنسبة للمعارضة، ونموذج رادع للمعارضة بالنسبة لابن حافظ وخليفته بشار.
ترأس عائلة الأسد نظامًا لم يكن استبداديًا فحسب، بل كان كليبتوقراطيًا، ويوزع المحسوبية لربط السوريين بالنظام. مع تحول انتفاضة 2011 إلى حرب أهلية، ظل العديد من الأقليات موالين للنظام، وكذلك فعل بعض السنة أيضًا، خوفًا من الانتقام إذا استولت قوات المعارضة على دمشق[9].
- بشار الأسد
عند وفاة حافظ الأسد وابنه باسل تولى بشار الأسد السلطة في عمر 34 سنة، وكان يدرس ليصبح طبيب عيون في لندن عندما تم استدعاؤه إلى المنزل بعد وفاة شقيقه. في خطابه الافتتاحي، لم يكتف بشار بالإشادة بإنجازات والده، لكنه انتقد أيضًا المؤسسات السورية الفاشلة وسياسة الحكومة.
وأبقى بشار على سياسات والده ولم يحرر النظام السياسي، ولكنه لم يكن داهية بما فيه الكفاية ليبقى جزءًا من الأغنياء والسلطة والنخبة الفاخرة – كما كان والده – والتي تحظى بولاء الشعب، وعلاوة على ذلك فكان فاسدًا، على عكس والده. في ظل وضع نمط الحياة الفاخر للنخبة الغنية الفقراء، والعاطلين عن العمل، وقمع المواطنين ضد الحكم، وصلت هذه المشاعر إلى ذروتها بحلول الوقت الذي وصل فيه الربيع العربي. هذا يجلب النقاش إلى المعاصرة الحرب الأهلية التي ستناقش لاحقًا[10].
- الانقسام الديني والعرقي
سوريا دولة متنوعة ثقافيًا، وكان لديها قبل اندلاع النزاع الحالي حوالي 22 مليون نسمة. بالإضافة إلى ذلك فإنها تتشكل من نسيج عرقي متنوع. اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة مع وجود لهجات مختلفة حسب المنطقة. لغات مثل التركية والكردية والأرمينية يتم التحدث بهم كذلك.
أما التنوع الديني فحوالي 75% من سوريا مسلمين بما فيهم من سنيين وهم يشكلون المجموعة الدينية الأكبر، والشيعة مثل الإسماعيليين والعلاويين. يشكل العلاويون بنسبة 11.5%، والدروز بنسبة 3%، والإسماعيليون بنسبة 1.5%، والمسيحيون الأرثوذكس بنسبة 4.7%، وهم يشكلون الجزء المسيحي الأهم من إجمالي مسيحيي سوريا وهم 14.1% من السكان[11].
أما الجزء الآخر من التنوع وهو التنوع العرقي فينقسم إلى أقليات – بجانب العرب – وهم الأكراد بنسبة 8.5%، والأرمينيون بنسبة 4%، والتركمان بنسبة 3%. أما الأغلبية فيمكن تعريفها بإنها للمسلمين السنة، وهم يتقاطعون أحيانًا لتجد من يتشارك في نفس الدين والعرق.
ويرجع هذا التنوع تاريخيًا إلى عدة أسباب منها:
- ما تعرضت له سوريا من غزوات من شعوب متنوعة مثل العرب، والأكراد، والمنغوليين، والأتراك، كما كانت دائما مركزًا للحركات القبلية، وكان السبب وراء تلك الغزوات في الأغلب هو التربة الزراعية الخصبة التي تتمتع بها سوريا، وعلى هذا انقسمت سوريا بين العرب والأكراد والتركمان.
- التنافس الطائفي الشرس بين الشيعة بقيادة إيران ومعسكر السنة المدعوم من المملكة العربية السعودية، وتركيا، وقطر- وما تبعه من دخول تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) في ساحة الحرب لاحقًا- ومشاركة المحاربين الأكراد في هذا التنافس[12].
- تلعب سوريا دورًا مهمًا ورمزيًا في تاريخ النصرانية كذلك، حيث تجمع الرسول بولس على الطريق إلى دمشق، وأصبح واحد من أهم شخصيات المسيحية، وأيضًا سوريا لديها من الكنائس والمعالم المسيحية التي تعد دليلًا على التراث التاريخي القديم والغني للمنطقة[13]
ومن السابق يتضح أن هناك العديد من القوى والأزمات التاريخية التي أدت إلى الشكل الحالي للأزمة السورية، لذلك سوف نتناول بالتفصيل تلك القوى لاحقًا خلال الدراسة.
المطلب الثاني: القوى المحلية الفاعلة ودورها في إثارة الأزمة
ساعدت الأزمة السورية في خلق بيئة خصبة لنمو واستقطاب الجماعات المسلحة، وانتشرت الصراعات الأهلية التي تحكمها الانتماءات الإثنیة والطائفیة مع صعود القدرات العسكریة لفصائل الجیش الحر وتلقیها الدعم العسكري واللوجستي من بعض دول الجوار، فأصبحت الساحة السورية تمثل ساحة صراع لفرض السيطرة بين عدة أطراف محلية وأقليمية ودولية، وفى هذا المبحث سنتناول القوى المحلية الفاعلة ودورها في أثارة الأزمة.
القوى المحلية المؤثرة في الازمة السورية:
- الجيش الحر:
لقد أعلن عن تشكيل الجيش الحر في تركيا بتاريخ 29 يوليو 2011 برئاسة “رياض الأسعد” وعدد من الضباط العسكرين المنشقين عن المؤسسة العسكرية والجيش، ليكون إطار تنظيميًا يواكب تنامي العمل المسلح ضد قوات النظام خاصة بعد تصاعد وتيرة العنف المسلح اتجاه الشعب السوري، ويتبين أن المكون الفكري الأيديولوجي للمعارضة العسكرية أكد على إنشاء دولة سورية مستقلة بهويتها العربية الوسطية القائمة على العدل واحترام حقوق الانسان والأقليات العرقية مع عدم الانتماء لأي تيار سياسي أو عقائدي، كذلك التعامل بمسؤولية مع المجتمع الدولي وتطبيق مبادئ القانون الانساني، وبالرغم من ذلك عانت هذه التيارات من الترويج لأفكارها بعكس التيارات الاسلامية، نظارا لغياب أدوات التواصل مع القاعد الشعبية وافتقادها إلى شخصية كاريزمية قادرة على الحشد الشعبى والترويج لرؤية سياسية شاملة لأن معظم المنشقين هم من منتسبي جيش النظام، و يتكون الجيش الحر من عدد من الالوية تتوزع على مساحات مختلفة من الاراضى، والتي تقدر بحوالي 11% من مساحة الاراضي السورية، وبعد تطورات متعددة استقر الجیش السوري الحر على شكل مجالس عسكریة في محافظات (دمشق وحمص وحماة وإدلب ودیر الزور)، ثم على هیئة خمس جبهات عسكریة تتبع لرئاسة أركان الجیش السوري الحر، وتم استبعاد كل من ریاض الأسعد ومصطفى الشیخ من قیادة الجیش السوري الحر بناء على انتخابات جرت في تركیا، و يتم تمويل الجيش السوري الحر من قبل العديد من دول ابرزها قطر والمملكة العربية السعودية[14].
- جبهة النصرة لاهل الشام:
مجموعة جهادیة مسلحة بقیادة “أبو محمد الجولاني” ظهرت في سوریا أواخر سنة2011، خلال الفترة الأولى من ظهورها استطاعت جبهة النصرة لأهل الشام حشد دائرة شعبیة واسعة حولها، لكنها سرعان ما فقدتها بسبب اتهامها بالتبعیة لتنظیم القاعدة في العراق وذلك لتاریخ مؤسسها أبو محمد الجولاني الذي كان عضوا في تنظیم القاعدة في العراق، وبعد اندلاع الأزمة سنة 2011 أعلن معارضته للنظام السوري ویوسع نشاطه لیصل إلى العدید من المحافظات السوریة خاصة في إدلب ودیر الزور وحلب، وقدر عدد مقاتلیها بحوالي 7000 مقاتل في سوریا، وفي عام 2012 تم تصنيفها من قبل الولايات المتحدة علي أنها جماعة إرهابية، وقد خاضت جبهة النصرة لأهل الشام معارك عدیدة مع فصائل مسلحة أخرى ضد النظام السوري وتعد عملیة تفجیر مبنى قیادة الأركان في العاصمة السوریة دمشق في أكتوبر 2012 أبرز عملیات جبهة النصرة ضد النظام السورى، وقد استمرت النصرة في اتّباع هذا المسار حتى تاريخ أبريل2013 عندما أعلن أبو بكر البغدادي عن حل الجبهة، وادماجها في تنظيم واحد سماه الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ونتيجة لهذا التصريح أعلان الجولاني البيعة لزعيم تنظيم القاعدة وأيمن الظواهري فقد كان بمنزلة المخرج الوحيد للنصرة في مواجهة دعوة البغدادي، ومهربًا للجولاني من استنساخ الدولة الإسلامية في العراق في الحالة السوريّة، وتراجع حضور جبهة النصرة في حلب، ويكاد ينعدم في الريف الحلبي بعد أن استولى أنصار البغداديّ على جميع مقرات الجبهة ومكاتبها، وطردوا من بقي تحت راية الجبهةعلى الفور، أعلن تنظيم الدولة عن إلحاق المناطق والمدن التي سيطر عليها بالإمارة الإسلاميّة، وأجبر الناس والكتائب على مبايعة البغداديّ أميرا عليهم،بينما في مدينة الرقة، ورث تنظيم الدولة جبهة النصرة بشكل كامل ولم يبق للنصرة أي وجود فيها، كذلك الامر في في اللاذقية، بينما في دمشق لاتزال النصرة موجودة في دمشق وريفها لأنّ أميرها “الشيخ أبو سمير” رجع عن بيعته للبغدادي، وبايع الجبهة من جديد، وهكذا تشتت جبهة النصر بين المنضم لطرف البغدادي وبين المنضم لتنظيم الدولة، والبعض القليل مزال تحت امارة أبو أنس الحوراني[15].
- تنظيم الدولة الاسلامية:
كان بداية ظهور تنظيم الدولة الاسلامية في سوريا 2013 بأعلن “أبو بكر البغدادي” توحید جبهة النصرة والدولة الإسلامیة تحت اسم الدولة الإسلامیة في العراق والشام، وهو الأمر الذي رفضه زعیم تنظیم القاعدة أیمن الظواهري الذي رأى بأن جبهة النصرة تقود العمل الجهادي في بلاد الشام بینما یتواجد تنظیم الدولة الإسلامیة في العراق فقط دون أن تكون له ادوار في الساحة السوریة ، هذا الموقف أثار استیاء أبو بكر البغدادي الذي أراد أن ینشر نفوذه داخل الأرضي السوریة وازداد من تفعیل الخلاف بین الجولاني والبغدادي وهو ما أسفر عن هجرة كثیر من المقاتلین من جبهة النصرة إلى تنظیم الدولة وهو ما أضعف جبهة النصرة؛ وقلل من قدراتها القتالیة أمام قدرات تنظیم الدولة الإسلامیة، ومنذ ظهورها في سوریا رسم جدل كبیر حوله فدخول تنظیم الدولة الإسلامیة إلى سوریا كان بحجة نصرة أهل السنة في سوریا وهو الأمر الذي تعارض مع الممارسات الدمویة لتنظیم الدولة الإسلامیة في سوریا حیث شكل التنظیم قواعد شرعیة متطرفة وطبقها بدمویة كبیرة، قاد التنظیم العدید من المعارك في سوریا ضد النظام السوري وضد فصائل مسلحة أخرى وتصادم مع جبهة النصرة وفرض سیطرته على حوالي 95 ألف كم2من الأراضي السوریة وقد صنف تنظیم الدولة الاسلامیة في العراق والشام بأنه جماعة إرهابیة متشددة وهو مادفع الوأم إلى تشكیل قوات تحالف دولي لمحاربة التنظیم في سوريا[16].
- الجيش الإسلام:
تعود نشأة جيش الإسلام إلى أيلول/ سبتمبر 2011 ، عندما تشكلت في غوطة دمشق مجموعة مسلحة صغيرة مكونة من أربعة عشر عناصر، حملت اسم “سرية الإسلام”، إذ تصدت لمحاولت قوات النظام في محيط مدينة دوما بريف دمشق، مع استمرار عمليات النظام ضد المتظاهرين في غوطة دمشق، وفي مدينة دوما ازدادت أعداد المنضمين إلى السرية التي أعلن قائدها “زهران علوش” تشكيل لواء الإسلام العامل في سوريا في يونيو 2012، وكانت كتائبه تنتشر في أنحاء الغوطة الشرقية ومنطقة القلمون الشرقي، إذ ضم ألوف المقاتلين وهو مكون من مجلس قيادة أعلن تشكيل جيش الإسلام إذ أعلنت عشرات الألوية والفصائل توحدها في تنظيم واحد باسم جيش الإسلام ليكون أكبر تشكيل عسكري معارض قبل أن ينضم هذا الجيش إلى الجبهة الإسلامية التي شغل فيها زهران علوش منصب القائد العسكري العام. وقد تكون الجيش إداريًا من مجلس قيادة و 64 كتيبة عسكرية، وانتشر في مناطق كثيرة من سوريا وفي 15يوليو 2017 أعلن في بيان رسمي حل نفسه وتفرق مقاتليها علي الأحزاب و الجماعات المعارضة الاخري[17].
- أحزاب المعارضة الكردية
لقد عانى الأكارد سياسة اقصاء والتهميش وعدم الحصول على حقوقهم في الجنسية والتعليم خلال عهد الرئيس حافظ الأسد، ومع مجيء الرئيس بشار الأسد إلى السلطة تزايدت معاناة الأكراد الذين رأوا في حدوث الأزمة السورية متنفسًا يمكن أن يحقق أهدافهم فبدأت تنتظم الأحزاب الكردية في ائتلافين هما المجلس العام للتحالف الكردي ويضم حزبين هما الحزب الديموقراطي التقدمي الكردي وحزب الوحد الديموقراطي الكردي الموالي لحزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان، والذي تمثل نشاطه في شمال شرق سوريا، بينما الائتلاف الثاني يتمثل في المجلس السياسي الكردي ويضم تسعة أحزاب لقد حاول النظام كسب المعارضة الكردية إلى جانبه، وتحييدهم وابعادهم عن الحركة الاحتجاجية لأن الساحة الكردية ساحة متحركة سياسيا، وكذلك بسبب استناد ظهرهم إلى إقليم كردستان العراق بما يعنى تأمين عمق استراتيجي إضافة إلى استغلالهم كورقة ضغط على الحكومة التركية لتحقيق أهداف النظام السوري[18].
- قوات الأسد
في بداية الإنتفاضة في سوريا، كانت الحكومة تمتلك إحدى أقوى القوات المسلّحة في الشرق الأوسط. إذ كان يبلغ عددها الإجمالي أكثر من 300,000 جندي، وعلى الرغم من أنه كان هناك موجة من الانشقاقات في وقت مبكر من التمرد المسلح، فإن قوات الأسد لا تزال تحافظ على حجمها الكبير وعلى ميزة قوة النيران لديها ضد الثوارن واستطاعت قوات الثُّوّار الاستيلاء والسيطرة الآن على مناطق واسعة من البلاد، إلا أن قوات الأسد تحتفظ بدمشق، وتمسك بكل عواصم المحافظات، وقواعد الجيش الرئيسية، والجدير بالذكر ان لقوات الاسد العديد من الداعمين الاجانب، أبرزهم روسيا و ايران، فإذا سقط نظام الأسد ستكون بمثابة ضربة استراتيجية لإيران. فإيران لن تفقد حليفاً هاماً في المنطقة فحسب، إذ يخشى القادة الإيرانيون من أن يكون زوال الأسد مصدر إلهام لحركة محليةٍ تهدف إلى إسقاط الجمهورية الإسلامية. وسيكون سقوط الأسد ضربةً استراتيجيةً أيضاً لحزب الله حليف إيران، وبالتالي فإن بقاء نفوذ إيران فالمنطقة يعتمد علي بقاء نظام الأسد.
أما بالنسبة لروسيا فقد ظلّت روسيا أيضاً حليف الأسد الصامد، ولكن قد يكون لها دوافع أكثر تعقيداً. فالأسد هو حليف روسيا الأخير المُتبقّي في الشرق الأوسط، وسوريا مستهلك رئيسي للأسلحة الروسية، وتستضيف على أرضها القاعدة البحرية الوحيدة لروسيا في المياه الدافئة، على الرغم من فائدتها الإستراتيجية المتواضعة، روسيا متمسّكة أيضاً بطموحات القوى العظمى، إنها تعارض التدخل العسكري الغربي كمسألة مبدأ، بالإضافة إلى توفير الغطاء السياسي للأسد عن طريق عرقلة قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي كان من شأنها إدانة الحكومة السورية على عمليات القتل الجماعي للمدنيّين واستخدامها للأسلحة الكيميائية، واصلت روسيا شحن الإمدادات العسكرية للجيش السوري، بما في ذلك طائرات الهليكوبتر، وأنظمة الدفاع الجوّي، والوقود، كما قدّمت المستشارين العسكريين لتزويد أنظمة الدفاع الجوي بالمعدّات وتعليم ضباط الجيش السوري كيفية استخدام الأسلحة الروسية الأخرى[19].
المطلب الثالث: القوى الخارجية وعلاقتها بالأزمة السورية
شهدت الأراضي السورية عقب اندلاع ثورة 2011 بداية الأزمة السورية التي بدأت كصراع داخلي حال ما تم فيما عرف بثورات الربيع العربي في العديد من دول المنطقة، كما وشهدت حالة من الاصطفاف الإقليمي والدولية لما تمثله سوريا كبيضة القبان في التوازنات الاقليمية الدقيقة في المنطقة فأي من يستميلها فهو قد أمال ميزان القوة لصالحه ولكن سرعان ما تمخضت الأزمة عن حرب طاحنة شكلت مدخلا لإعادة رسم تحالفات المنطقة وتوازنها لتتحول سوريا من لاعب أساسي في الشؤون الإقليمية الى ساحة صراع إرادات إقليمية ودولية تغلب فيها الحسابات الجيوبولتيكية، ما جعل فكرة التوصل لحل بشأن الحرب التي تقترب من اتمام عامها الحادي عشر أمرا بعيدا عن التصور والمنال، فشهدت العديد من التدخلات من القوى الخارجية وأصحاب المصالح الذين تدخلوا من الأساس بسبب رغبة الأطراف الداخلية من نظام ومعارضة وسعيهم الدائم لاستقطاب التحالفات الخارجية نتيجة حرص كل طرف على حسم الصراع لمصلحته في حالة ظهرت كأقرب ما يكون لحرب بالوكالة وكما أسلفنا فإن هذ التعدد في الأطراف وهذا التعارض والتداخل في المصالح هو ما أطال أمد هذه الحرب وتبعا لذلك تعددت أشكال التدخل في المشهد السوري بين تدخلات سافرة وأخرى غير مباشرة، لأهداف ومصالح متباينة بين محاولات لإنهاء الصراع وأخرى لإطالة أمده، بين مؤيد لاستمرار النظام القائم ومعارض له وساع للإطاحة به في صورة بالغة التعقيد ومتعددة الأطراف بتفاوت أدوار تلك الأطراف، فبدءً كان هناك العديد من العواصم الأوروبية التي لعبت في كثير من الأحيان أدوارا هامة كفرنسا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكل من تركيا ودول الخليج الذين يدعمون التغيير ويسعون للإطاحة بنظام الأسد ومن ورائهم تقف الولايات المتحدة أما المعسكر الآخر فهو الذي يهدف للإبقاء على الوضع الحالي ويدعم استمرار نظام الأسد وهم إيران وحلفاؤها في العراق ولبنان (حزب الله) ويقف وراءهم روسيا وكل من الصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا بدرجة أقل في التكتل المعروف ب BRICS[20]، ولكننا نختص في هذا المطلب بذكر أكبر المؤثرين الخارجيين في المشهد السوري بسبب الدور المستمر لتلك الأطراف من جهة والدور المحوري الذي لعبته تلك الأطراف في سيرورة هذه الحرب من جهة أخرى، بين قوى إقليمية مؤثرة والتي برزت فيها كل من إيران وتركيا وإسرائيل كفواعل رئيسة على الساحة السورية وعلى الصعيد الدولي برز بشكل أساسي كلا الدورين الروسي والأمريكي، وانتهجت تلك القوى في كثير من الأحيان شكل الحرب بالوصاية من خلال تقديم الدعم وتسليح ودعم فصائل وأطراف الصراع الداخلية تارة، واللجوء للتدخل المباشر تارة أخرى، ونتناول في هذا المطلب هذه التدخلات وصورها في إطار الحلول الزمنية للدراسة، وما لكل تلك التدخلات من تلك القوى من مرد ألا وهي مصالحها القومية ففي حالة إيران نرى أنها الحليف تاريخي للنظام السوري من بعد قيام الجمهورية الإسلامية وهي الدولة المتمتعة بقدر من الطموح التوسعي والذي كثيرا ما يفوق قدراتها حتى مسببا لها أزمة سياسية في كثير من الأحيان وأما بخصوص تركيا فإن الواقع السوري هو المحدد لوضع تركيا الإقليمي وشكل سياساتها الخارجية وامتدادها الإقليمي في المنطقة العربية عقب توتر علاقاتها مع مصر والمملكة العربية السعودية على خلفية دعمها للإخوان المسلمين في بداية الأزمة، بالإضافة للأهمية الأمنية لوضع سوريا في مواجهة تركيا وحرصها على وأد أي محاولات لقيام إقليم “كردستان الغربية” استغلالًا للفراغ الأمني الذي باتت تعاني منه مناطق شمال وشرق سوريا (الغنية بالنفط)، بسبب سماح النظام البعثي الأسدي للتيارات والأحزاب الكردية بملء هذا الفراغ عبر الهياكل الأمنية والسياسية الكردية[21]، وبخصوص إسرائيل فتمثل مسألة تأمين حدودها مع سوريا أولوية وجودية والخوف من المجهول إذا ما سقط النظام السوري من تخوف من فك الارتباط الذي وقّعه الرئيس الراحل حافظ الأسد مع إسرائيل برعاية هنري كيسنجر العام 1974، وتخوف من النفوذ الإيراني وحلفاؤه من حزب الله وحرصهم على استمرار رحى الحرب لأطول وقت ممكن هو ما يضمن عدم وجود تهديد أو خطر من الجانب السوري على إسرائيل ولسنوات طويلة مقبلة[22]، وفي حال القوى العالمية نرى روسيا تهدف لاستمرار نفوذها الاستراتيجي في المنطقة تبعا للموقع الجيوسياسي المتميز الذي تتمتع به سوريا وأما الولايات المتحدة فهي دائبة على سياستها في تطويق الروس التي نشأت منذ تفكك الاتحاد السوفيتي [23]إضافة لما مثلته مواجهة التنظيمات المتطرفة في سوريا من أولوية للنظام الأمريكي، وهذه القوى الدولية لا تهتم في مسألة سوريا بمجرد الوضع السوري وإنما لاعتبارات أكثر تعقدا في مألات الوضع فيها والنتائج الممكنة التي ستعيد رسم خريطة موازين القوة في المنطقة، وفيما يلي سيتم تناول واستعراض كل من تلك الأطراف ومواقفها منذ اندلاع الأزمة السورية حتى وصولها لحالة الحرب انتهاء بالحلول الزمانية الموضحة في الدراسة وقوفا على أبرز مواقفها وتحولات تلك المواقف على مدار سنين مشاركتها في المشهد السوري ابتداء بالقوى الإقليمية ثم القوى العالمية.
- القوى الإقليمية:
“إيران”: تعد العلاقات السورية الإيرانية قديمة قدم نشأة “الجمهورية الإسلامية” في إيران ولا طالما جمعت الدولتين علاقات وطيدة في إطار السعي الإيراني للهيمنة والتفوق الإقليمي والذي تمثل فيه سوريا محورا هاما وقد كان مضمون الجانب في إطار النظام العلوي البعثي الأسدي؛ وتتمثل المخاوف الإيرانية من صعود نظام ليس فقط معاديًا للمشروع الإيراني بل أن يكون حتى سنيا في مخاوف تماثل المخاوف الإسرائيلية من الثورات العربية، وفي هذا الإطار نتمكن بوضوح من تفهم التحركات الإيرانية إزاء القضية السورية من تدخل سافر وإمدادات عسكرية ولوجستية وأمنية لتأييد النظام السوري وقمع الثورة السورية، والعلاقة الإيرانية بالنظام السوري هنا علاقة منفعة متبادلة لا يستغني عنها أي من الطرفين ففي مقابل المشروع الإيراني الذي لا يتم إلا بضمان وجود الطرف السوري حليفا وامتدادًا لنفوذ إيران فالنظام السوري ما كان ليصمد بلا وجود دعم مماثل من الجانب الإيراني وفي ظل إنكار دائم من الجانب الإيراني الرسمي الممثل في وزارة خارجيتها لأي تدخل في الشأن السوري الداخلي إلا أن الناظر للشأن السوري يدرك بوضوح ما لإيران من يد في سيرورة الأحداث على الساحة السورية على يد فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني[24]، وهذا كان الموقف الابتدائي لإيران في سوريا ومع استمرار الوضع السوري في التعقد وفقدان النظام السوري لشرعيته من المنظور العالمي تطورت علاقة التحالف الى التبعية المطلقة، فنتيجة استمرار الاحتجاجات الشعبية والاستنزاف الذي تعرض له النظام السوري في مقدراته الاقتصادية والعسكرية أصبح معتمدًا على استمرار الدعم الإيراني لبقائه واستمراريته، فأصبحت إيران تتعامل مع الأزمة السورية على أنها أزمة إيرانية داخلية تخص أمنها القومي[25] ويكفي الاطلاع على تصريحات الجنرال همداني للوقوف على الأهداف الحقيقية لإيران في سوريا حين ذكر صراحة أن بشار إنما يقاتل بالنيابة عن إيران مفيدا بأن الحرب الدائرة في سوريا لا تقل اهمية عن الحرب مع العراق بالنسبة لإيران وأن هناك (130) ألفًا من قوات الباسيج سيتوجهون للقتال في سوريا فضلا عن القوى المتواجدة فعليًا منذ اندلاع الحرب في سوريا معلنة صراحة عن الطموحات التوسعية الإيرانية[26]، ولا ننسى أن الازمة السورية كانت أهم أوراق طهران في ابتزاز الغرب مقابل البرنامج النووي الإيراني، ورأت أن أي إثارة لمشكلة ملفها النووي، بجانب تلويح إسرائيل بتوجيه ضربات عسكرية لمنشأتها النووية إنما يهدف بالأساس لإقصائها من المعادلة السورية لذلك لم تتردد إيران في التصريح باستعدادها للرد بشكل رادع على أي عدوان عسكرية من شأنه تهديد تلك المنشآت كما هددت بإغلاق مضيق هرمز الذي هو ممر النفط الخليجي[27]، فيتضح أن استراتيجية إيران الحالية إنما ترتكز على دمج المشكلات الإقليمية ؛ والاستفادة من تشابك المصالح الاقليمية والدولية للحفاظ على مصالحها في سوريا وتجنب القدر الأكبر من الخسائر الاستراتيجية المحتملة لها، الى جانب تحقيق أهدافها الاقتصادية التي تقف خلف هذا التدخل بسبب الخسائر الضخمة التي تعرضت لها إيران جراء اندلاع الحرب السورية عقب الاتفاقيات التي وقعتها مع كل من سوريا والعراق التي كان بمقتضاها سيتم تمديد خطوط غاز إيراني عبر سوريا ولبنان والبحر المتوسط حتى يصل لعدة دول في غرب أوروبا[28]، الاتفاقيات والاستثمارات الضخمة التي وقفت جميعا بفعل العقوبات على سوريا، والتدخل الإيراني في سوريا تنوع بين السياسي والاستراتيجي ففي البعد السياسي ركزت إيران على عدة ملفات أولها أن تكون المصالحة الوطنية من الداخل السوري، وثانيا رفض أي تدخل أجنبي من القوى الغربية من الولايات المتحدة أو الناتو لإجراء إصلاحات في النظم السياسي أو لتحقيقي الديمقراطي على حد وصفهم، وثالث الثوابت الإيرانية في الحل السياسي في سوريا تمثل في الاتفاق مع المحور الذي يدعمه من روسيا والصين في موجهة أي عدوان يمكن أن تتعرض له سوريا، ومن ثم ضمان مشاركة إيران في أي مبادرات سياسية يتم طرحها للتوصل الى حل للأزمة السورية وفقا لهذه الرؤية، كما تستمر جهودها لإفشال أي اتفاق بين المعارضة والنظام يفضي لتنحي النظام القائم وتسليم السلطة، إضافة للوقوف في وجه تركيا ومنعها من التوصل إلى إتفاق يحد من دورها في سوريا لمنع سقوط نظام الأسد وذلك في ظل إدراك إيران لثقلها في المسألة ومحورية دورها في التوصل لأي حل سياسي؛ وبناء على ذلك تستمر إيران في العمل باتجاه بقاء النظام القائم إذ أن نهايته تعني انتهاء محور بأكمله تقوده إيران[29]، وبصدد الأدوات العسكرية التي تستخدمها إيران في التدخل في الشأن السوري فكانت هي أخطر أدواتها واستفادت في ذلك من عدم التنسيق بين الدول المساندة للمعارضة، وأيضا عدم استجابة الولايات المتحدة لدعوة التحرك العسكري ضد النظام السوري وقد جاء الدعم الإيراني العسكري بقوة متناسبة مع حجم المصالح الإيرانية المرتبطة بالحدث فقدمت الدعم المادي والمعنوي واللوجستي اللازم للنظام السوري الدعم الذي بدأ بصورة غير معلنة وأحيانًا منكرًا في بداية الحرب والذي أصبح مؤخرا معلنًا بلا تورية أو تمويه لتقود إيران كل العمليات الأمنية والعسكرية في سوريا خوفًا على مصالحها ودفاعًا عن نظام الأسد الذي يمثل حليفها التاريخي[30]، وكانت هذه هي صور التدخل الإيراني في الشأن السوري والمصالح والدوافع لهذا التدخل، إضافة لما أشرنا له من تشابكات للدور الإيراني مع غيره من الأطراف التي سيتم تناولها تفصيلا في النقاط التالية.
“تركيا”: تعد تركيا واحدة من أكثر الدول المعنية بالقضية السورية في مجالها الإقليمي، ليس باعتبار أن حدودها المشتركة مع سوريا تعد الأكبر بالنسبة للدولتين، أو لطبيعة التشابه والتشابك العرقي والطائفي بل حتى اشتراكهم في بعض المشاكل كمشكلة الأكراد على سبيل المثال، وإنما بالأساس لأن الاختبار السوري بات المحك الأخير بالنسبة لوضع تركيا الإقليمي ومستقبل سياساتها الخارجية وموقفها في المنطقة، بادرت تركيا أول الأمر حين اندلعت الثورة الى استغلال حالة الارتباك التي يعيشها النظام السوري للدفع باتجاه تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل ممثلين عن الإخوان المسلمين، ما يضمن لها النفوذ في الأراضي السورية باعتبار أن هؤلاء حلفاء للتركيا لكن تلك المحاولة فشلت ما دفع أنقرة إلى إشهار عداءها للنظام السوري عبر احتضان معارضته السياسية بادئ الأمر وانتقالا لاحتضان معارضته العسكرية عندما بدأت الثورة بأخذ منحنى أكثر عنفًا، وقد حاولت تركيا الإفادة من درس الثورة الليبية التي عارضتها بادئ الأمر واضعة في الحسبان المصالح الاقتصادية الضخمة مع نظام القذافي الأمر الذي انتهى بتغير الموقف التركي بعد تحول الميزان العسكري لغير صالح القذافي، فسارعت لدعم الثورة السورية بهدف تحقيق الإفادة الأعظم في شتى القطاعات من اقتصادية وسياسية وجيوسياسية من التغير القادم في سوريا لا محالة [31]، في رهان تركي على سرعة انتهاء الثورة كما تم في دول الجوار في أنظم عربية راسخة وأكثر قوة حتى، إلا أن الوضع السوري كان ذا طبيعة خاصة طبيعة أكثر تعقدًا وديناميكية لم تتفق مع الرؤية التركية، وبناء على الحسابات التركية وتصورها للمشهد ومآلاته في سوريا أخذت تركيا دور الحاضن لكافة حركات الإسلام السياسي في المنطقة رهانًا على نجاحهم في الوصول للسلطة كما تم في عدد من دول الجوار أعقاب ثورات ما عرف بالربيع العربي ما سينمي النفوذ التركي ليس في سوريا فقط وإنما في المنطقة، ولم يكن احتضانها قاصرا على تلك الجماعات فقد احتضنت فئات المعارضة السورية على تنوعها وسمحت بفتح أول مكتب رسمي للمجلس الوطني السوري المعارض في اسطنبول في 27/12/2011[32]، ورأت تركيا في الثورة السورية فرصة منقطعة النظير لتعديل كفة موازين القوة في المنطقة لصالحها من خلال اسقاط النظام الموالي لإيران في سوريا وإبداله بنظام أقرب لها يشكل حليفا استراتيجيا لتحركاتها في المنطقة[33]، ودعم تركيا للإخوان المسلمين ورهانها عليهم في مختلف مشاهد الثورات العربية عشية تلك الثورات، بيد أن هذا الموقف وهذه السياسات كلفتها الدخول في صراعات مع العديد من دول الجوار (سوريا والعراق وإيران)، كما جاءت بارتدادات سلبية على الأمن التركي ذاته، بما دفع أنقرة إلى إعادة “تدوير مواقفها” وتغيرها وتحويل التوجهات والتصريحات نسبيا، وذلك في محاولة لتجاوز الصعوبات التي باتت تواجه علاقاتها مع بعض الفاعلين الإقليميين من جراء الأزمة السورية، وما بات يصاحبها من تطورات متلاحقة على مسرح العمليات الإقليمي[34].
فظهرت عوامل داعة للتغيير ارتبطت بتحولات المشهد السوري الذي جاء على غير توقعات وهوى الجانب التركي فما طمحت إليه تركيا بادئ الأزمة من وصول نظام سني مقارب لتركيا في الفكر للحكم في سوريا لتمثل بذلك شريكا استراتيجيا من شأنه إعادة ترتيب المشهد الإقليمي برمته ليصب في صالح أنقرة ولتصبح إيران على إثره على هامش الصورة، الأمر الذي حملت رياح عواصف الأزمة السورية الضد منه تماما بما لا يحمد عقباه من الجانب التركي مجبرة الأخير على تعديل دفة سياساته بخصوص سوريا تبعا للمتغيرات التي طرأت على المشهد ليس فقط في سوريا وإنما في تركيا أيضا.
فعلى الصعيد الداخلي التركي عانت تركيا من توترات عرقية وطائفية بسبب تفاقم الأزمة السورية من استمرار التصعيد السياسي من قبل مواطنيها العلويين ضد سياسات الحكومة حيال دمشق، والتي وصفت بالطائفية، بما أفضى إلى توالي المشاركة في التظاهرات والاحتجاجات على نحو ترتب عليه أن تغدو جميع ضحايا المظاهرات التي شهدتها تركيا منذ أواخر مايو الماضي -حيث أحداث ميدان تقسيم- من المواطنين المنتمين للطائفة العلوية، وقد جاء ذلك في إطار صورة أمنية، ساهمت في تقوية حزب “العمال الكردستاني”، واتساع نفوذه وارتفاع سقف طموحاته وأهدافه، على نحو جعله يقوم بعمليات نوعية ضد القوات التركية، بالإضافة للانقسام السياسي الذي تشهده تركيا مؤخرًا، من معارضة العديد من الشخصيات البارزة داخل حزب أردوغان نفسه لسياسته الخارجية في إدارة علاقاته الإقليمية التي أفضت لتوتر علاقاته مع أغلب دول الجوار، خصوصا بعد تحول دورها في سوريا من الوسيط الى الطرف بما يثير حساسيات قومية عربية حيال الوجود التركي في سوريا.
أما على الصعيد الإقليمي فقد شهدت الساحة الاقليمية العديد من التغيرات المتداخلة والمترابطة من تغير في السياسة الأمريكية تجاه إيران وتراجع الدور التركي في المسألة الإيرانية من المنظور الأمريكي التي كانت تستعين بها كجزء من حصار طهران، بالإضافة لعودة الدور الروسي في المنطقة بل وتضخمه، ناهيك عن العلاقات التركية الخليجية المتوترة على إثر موقفها من أحداث الثلاثين من يونيو في مصر والتي ظهرت فيها تركيا كـأقرب ما يكون في حالة عداء مع مؤسسات الدولة المصرية.
وعلى إثر تلك التطورات التي لم تكن في حسبان الجانب التركي وسعيا لكسر العزلة التي كانت قد فرضت عليه على إثر مواقفها وتقديراتها لمألات الأمور في المنطقة تحولت سياساتها من المناهضة التامة للنظام السوري للهجة أكثر نعومة، وتحولت عن سياسة الباب المفتوح التي كانت قد انتهجتها مع المعارضة السورية لسياسة أكثر تحفظًا، وبدأت في احتواء كلا الطرفين[35].
وعلى الصعيد الإقليمي عادت لتوثيق العلاقات مع كل من مصر ودول الخليج بل وحتى تجاوزت خلافاتها مع طهران في محاولة لتهدئة الصراع بـ“الوكالة” الدائرة رحاه على الأراضي السورية، وقد عبر عن ذلك صراحة وزير خارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، وذلك في لقاء مشترك مع نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، حيث أعلن أن الجانبين اتفاقا على تفادي الطابع الطائفي للصراع في سوريا، وقال أوغلو سنعمل معًا على مكافحة مثل هذه السيناريوهات، وقد أوضحت التطورات الايجابية على مسار علاقات تركيا الإقليمية، أن ثمة توجه تركي لإعادة بوصلة السياسة الخارجية و”تدوير اتجاهاتها” في محاولة لإنهاء ملفات التوتر والخلاف، والتي ارتبطت بقضايا الصراع في سوريا، وذلك بعدما واجهت تركيا تحديات أمنية وسياسية على الصعيدين الإقليمي والمحلي جعلتها دولة شبه معزولة عن محيطها الإقليمي، كون علاقاتها الخارجية تأسست خلال الأعوام الثلاثة السابقة على مساحات الخلاف والافتراق، وذلك على عكس استراتيجيتها المتبعة سابقا، والتي ارتكزت على الارتكان إلى ملفات الاتفاق لتوثيق العلاقات وبناء جسور الثقة المتبادلة [36].
إسرائيل: ليس التدخّل الإسرائيلي في سوريا أمرًا مستجدًّا أو فريدًا من نوعه، ولا شك بأن الحرب في سوريا تشكل همًا إسرائيليًا شاغلا، وقد لا تقل نتائجها خطرًا عليها من حرب تشرين الأول 1973. فسقوط النظام هناك قد يغير الخريطة الجيوستراتيجية برمتها في المنطقة، وإسرائيل هي المستفيدة الأولى من الأوضاع المأسوية في سوريا، حيث حالة الاستنزاف تضعف المجتمع والنظام والجيش معًا[37].
وفي بداية الأزمة السورية التزمت حكومة إسرائيل الصمت حيال مصير الأوضاع في سوريا وموقفها من الأحداث، وقد أفادت من الأوضاع في سوريا لتلميع صورتها إعلاميا وتبرير قمعها وبطشها بالفلسطينيين مقارنة بأفعال نظام الأسد[38]، وكان الحديث عن دخول عناصر من حزب الله إلى سوريا نقطة التحول التي كسرت حاجز الصمت الذي أحاط بالموقف الإسرائيلي فضربت موقعًا عسكريًا قرب دمشق ادعت احتواءه مواد كيميائية وضلوعه في نقل أسلحة من سوريا الى حزب الله في 30 يناير 2013[39]، لتتوالى بعد ذلك الهجمات الإسرائيلية في سوريا مستهدفة تحقيق مصالحها الأمنية ووأدا لأي تهديد وارد.
وكان ذلك يتم في إطار من التحرك السياسي والدبلوماسي فمن جهة تنسق وتتعاون مع الجانب الروسي في التنسيق الذي أطلق عليه “آلية منع التصادم”، ومن جهة أخرى الاعتماد على الولايات المتحدة انطلاقًا من التقارب الكبير في التصورات بين إسرائيل والولايات المتحدة، هذا فضلا عن الأثير الكبير الذي تتمتع به إسرائيل في أروقة صنع القرار في الولايات المتحدة، الى جانب دعمها لبعض الفصائل المسلحة التي تستخدمهم لتأمين حدودها من خطر الميليشيات الإيرانية وذلك في ظل إنكار مبدئي من الجانب الإسرائيلي منذ عام 2012 إلى أن اعترفت صراحة بذلك الدعم في يونيو 2017 الدعم الذي شمل اثني عشر فصيلًا والذي توقف في يوليو 2018 على إثر اتفاق الجانب الإسرائيلي مع موسكو[40].
وتتمثل الأهداف الإسرائيلية من الحرب السورية في الحد من النفوذ الإيراني في سوريا وإيقاف نقل الأسلحة لحزب الله، وتقويض الوجود الروسي في سوريا ومنعها من ترسيخ وجودها العسكري الدائم الذي يمثل بدوره دعما قويًا لإيران من شأنه تعزيز الموقف الإيراني بترسيخ قوات حلفائها في النظام السوري، بالإضافة لمنع سوريا من تشكيل قوة قد تمثل خطرًا على الأمن الإسرائيلي بالإضافة لتقويض المطالب المنادية بسورية مرتفعات الجولان، فاستمرار الحرب التي اتسمت بالطائفية في سوريا بين إيران ووكلائها من جهة والجماعات السنية المتطرفة من جهة أخرى بدلا من محاربة إسرائيل، قد تكون أفضل نتيجة تصب في مصلحة إسرائيل، وتسعى إسرائيل أيضا إلى الإبقاء على نظام الأسد ولكن بصورة ضعيفة لا تسمح له بتمثيل خطر على أمنها ولكنه توازن يصعب تحقيقه في ظل علاقات نظام الأسد مع إيران، إلا أن سقوط النظام السوري قد ينجم عنه مساحة فوضوية مفتوحة للجميع ينصب فيها اهتمام الأطراف المتصارعة داخليا في الوقت الحالي على محاربة إسرائيل[41].
ويمكن قصر تحركات إسرائيل المباشرة في الحرب السورية على استهداف مواقع سورية إيرانية خاصة فيما يتعلق بالأسلحة الكيميائية التي تحاول إيران تصنيعها مع النظام السوري خصوصا منطقة حماة التي تحتضن معمل إنتاج الأسلحة الكيميائية وأخرى تابعة لحزب الله بهجمات صاروخية بين الحين والآخر[42]، وهي بذلك إنما تهدف لإطالة أمد الحرب من خلال تدابير دفاعية ووقائية مع عدم ترجيح كفة على أخرى، والحرص أيضا على عدم الاصطدام مع القوات الروسية فالأهداف الإسرائيلية السالفة لا تحتاج بالضرورة للقوة كأداة استراتيجية شاملة تغير البيئة الإقليمية وإنما تنتهج الضربات الخاطفة التي تحقق تلك الأهداف بصورة أكثر فعالية مستخدمين القوة كأداة تكتيكية[43]، وعليه فالتدخل الإسرائيلي في سوريا يمكن حصره في أربعة أنواع هم التدخل العسكري والاستخباراتي والإعلامي والسياسي.
- القوى الدولية
“روسيا”: تعود العلاقات السورية الروسية إلى تاريخ طويل وهي علاقات اتسمت بالثبات والاستقرار لحد بعيد فالاتحاد السوفيتي من أول الدول التي اعترفت بسوريا بعد الاستقلال وأقامت علاقات دبلوماسية معها، وقد اتسمت السياسة الروسية الخارجية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بالبراجماتية والواقعية التي تحكمها المصالح الوطنية الروسية في المقام الأول، ويعتبر الموقف الروسي من الحرب في سوريا انعكاسا لهذا التوجه في السياسة الروسية، فمصالح روسيا في سوريا تشمل مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية واستراتيجية وسقوط النظام في سوريا يعني تكبد الروس خسائر فادحة على كافة تلك الأصعدة.
ومع أن الأزمة السورية حين بدأت كانت مرتبطة بسيرورة “الربيع العربي”، ولكنها كما أسلفنا سرعان ما تحولت الى صراع على النفوذ في المنطقة ليس فقط إقليميًا، وإنما دوليًا حتى، وفي إطار دوافع الجانب الروسي الى التدخل في سوريا فإنه بالرغم من الرأي القائل بأن سوريا لم تكن تشكل حالة مهمة بذاتها لروسيا وإنما كانت وسيلة للاحتجاج على السياسة الغربية تجاهها أو كجزء من استراتيجية أوسع للمقايضة في قضايا أكثر أهمية تتركز في مناطق أكثر حيوية، إلا أن مألات الأمور في سوريا وأن تكون تلك المألات من صالح روسا وتطلعاتها في المنطقة هو أمر بالغ الأهمية للروس، ففي ظل التضييق الأمريكي على موسكو ومساعي حصارها أمنيا من خلال ضم دول الجوار الروسي الى الناتو والتي كانت يوما جزء من الاتحاد السوفيتي، وارتياب روسيا من دعم أمريكا لتيارات الإسلام السياسي وعدم ممانعتها الوصول للسلطة وضعها ايضا في إطار التوجس من تصاعد هذا المد في أقاليمها الإسلامية وهي التي لم تنس بعد تجربتها مع أفغانستان أو الشيشان، كما وجعلها المد التركي في المنطقة ونجاح النموذج الإسلامي المتمثل في حزب العدالة والتنمية كان لكل ذلك أثره في تغذية المخاوف الروسية، لذا قررت روسيا أن تلعب لعبة الإسلام الشيعي بقيادة إيران في مواجهة لإسلام السني الذي تمثله تركيا تبعا للمعطيات في بداية الأزمة، وانطلاقا من أن سقوط الأول يعني تحول الأمور لغير صالحها في المنطقة[44].
ورأت موسكو أن التركيز على المؤسسة العسكرية السورية ومستقبلها هو الضامن الأساس للنفوذ الروسي في المنطقة، كما أن سقوط النظام في سوريا يعني إضعاف إيران التي كانت بدأت تشكل جزء أساسي من استراتيجية موسكو لمواجهة المشروع الأمريكي والنفوذ التركي المتصاعد[45].
ويمكننا القول بأن سوريا دولة محورية في التطلعات الروسية في المنطقة، ففي الجانب العسكري وبالرغم من تواضع قاعدة طرطوس البحرية الروسية إلا انها قاعدة استراتيجية محمة لروسيا أخذين في الحسبان التطلعات الروسية الرامية للعب دور جيوسياسي اكبر في شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط، والإدارة الروسية الحالية ترمي في سياستها الخارجية لخدمة متطلبات النمو السياسي والاقتصادي الروسي، فقد لعبت دورا محوريا في كل من الساحتين الإقليمية والدولية وتكمن فاعلية الدور الروسي في استعادة بعض مناطق النفوذ التي فقدتها روسيا عقب تفكك الاتحاد السوفيتي سابقا، وإعادة التوازن مع الولايات المتحدة الأمريكية في علاقات متكافئة في إطار نظام قطبي تعددي الأمر الذي يترجم ويوضح التدخل الروسي في سوريا سواء في تدخلاتها العسكرية المباشرة أو دعمها الدائم للنظام السوري على كافة الأصعدة من سياسية في استخدامها حق الفيتو لصالح سوريا إلى جانب الدعم الاقتصادي والعسكري[46].
ولم يأت التدخل الروسي المباشر في سوريا إلا بعد تقدم المعارضة لشوط كبير أدى لخسارة النظام لمحافظة إدلب بالكامل عقب خسارة مدينة الرقة، وقبل ذلك التدخل الفعلي في الشأن السوري بذلت روسيا دوما الدعم والمساندة للنظام السوري منذ البدايات الأولى للأزمة في كافة المحافل والمناسبات الدولية رافضة أي تدخل أجنبي في الشأن الداخلي لسوريا وأي دعوة لتنحية الرئيس السوري من الخارج كما استمرت بتقديم السلاح وتوفيره بموجب عقود مبرمة سابقا ورفضت أي تدخل عسكري يستهدف تغيير البنية السياسية لسوريا معتبرة أن تغيير النظام السياسي شأن يختص به الشعب فقط، ومن حينها لم تتوانى روسيا عن تقدم الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري بطبيعة الحال للنظام السوري حتى انسحابها الجزئي والتكتيكي في 2016، ذلك إضافة للإسهامات والمبادرات السياسية الدولية المتمثلة في المؤتمرات التي عقدها الجانب الروسي لحل الأزمة السورية من الداخل من خلال اتفاقات وطنية داخلية بدأت سلسلة المؤتمرات التي كانت برعاية روسية وأممية من مؤتمر جنيف 1 عام 2012 حتى مؤتمر جنيف 6 في عام 2017 لتستمر حتى مؤتمر سوتشي عام 2018 الذي كان بمثابة محاولة روسية لتصفية مسار جنيف الأممي للانفراد بالقضية السورية والذي قاطعه كل من المعارضة السورية والولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة[47].
وكان للانسحاب الروسي عام 2016 تأثيره البالغ على معادلة الأوزان النسبية للاعبين الإقليميين والدوليين في المعادلة الروسية وأعطى هذا الانسحاب عدة دلالات متعلقة بسيرورة الأوضاع في سوريا على رأسها:
تفادي سيناريو الانزلاق إلى مواجهة عسكرية شاملة مع تركيا ذات الجاهزية العالية والقدرة على المواجهة والمدعومة كليا من الغرب، إضافة لمناورة الخليجيين والمعارضة السورية بجرهم لطاولة المفاوضات للقبول ببشار كجزء ولو مؤقت من مستقبل المشهد السوري، هذا بالإضافة للرؤية المتنامية في عدد من الدوائر صنع القرار في المؤسسة العسكرية الروسية التي أصبحت ترى عدم قدرتهم على تحقيق أهدافهم من قضاء على المعارضة أو إضعافها على أقل تقدير من خلال العمليات الجوية وظهور الحاجة للقيام بعمليات برية الأمر الذي لا تتحمل الميزانية الروسية كلفته في الظروف الراهنة وقتها، كما ظهرت التوجهات الروسية في الضغط على النظام السوري لحثه على القبول بالحلول الوسطى وجعل موقفه أكثر لينا من الفترة الانتقالية التي يلعب فيها بشار الأسد دورا بصلاحيات محدودة الأمر الذي لم يلق نجاحا إذ أنه قوبل برفض المعارضة، بالإضافة للضغط على الغرب بالحديث عن رفع العقوبات الاقتصادية عن روسيا في مقابل التخلي الجزئي عن بشار أو لمقايضة مناطق النفوذ الروسي في سوريا بالنفوذ الغربي في أكرانيا، وأوضح ذلك الانسحاب أيضا الرغبة الروسية في الحد من تدهور مستويات التفاهم مع إيران التي أعلنت رفضها التام للتخلي عن الأسد ورفضهم القاطع لسيناريو التقسيم الذي قد ينتج عنه قطع الاتصال الإيراني البري بجنوب لبنان بفعل الإقليم الكردي الذي قد يقوم في سوريا على إثر ذلك التقسيم[48].
وبقي أن نشير للآثار المدمرة والتي قد ترقى لجرائم حرب بحق المدنيين من المواطنين السوريين والعدد المهول من الضحايا التي خلفها التدخل العسكري الروسي منذ بدايته في 2015 وإضافة لمجازر القصف الجوي الروسي التي بلغ ضحاياها وفق تقرير نشرته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، وهي منظمة حقوقية مقتل 6943 مدنيا بينهم 2044 طفلا و1243 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية على يد القوات الروسية، منذ سبتمبر 2015، وطبقا للتقرير فقد ارتكبت القوات الروسية منذ تدخلها العسكري حتى 30 يوليو من عام 2022 ما لا يقل عن 1243 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنيَّة، بينها 223 مدرسة، و207 منشأة طبية، و60 سوق، كما سجل التقرير ما لا يقل عن 237 هجوما بذخائر عنقودية، إضافة إلى ما لا يقل عن 125 هجوما بأسلحة حارقة، شنَّتها القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في سوريا في 30 سبتمبر 2015. على مدار سبع سنوات من التدخل الروسي العسكري[49]، وكانت هذه بإيجاز طبيعة التدخل الروسي في سوريا وحيثياته.
الولايات المتحدة: يعد التنافس على فرض النفوذ في الشرق الأوسط من أهم مسائل السياسة الدولية وتنبع تلك الأهمية من أهمية الأطراف المعنية بهذا التنافس وأهمية واستراتيجية الموقع الذي تتمتع به منطقة الشرق الأوسط وسوريا بالتحديد للأسباب سالفة الذكر، وقد سعت الولايات المتحدة لتطويق الاتحاد الروسي ومنعه من أي خطوات توسعية والحفاظ على هيمنها القطبية على النسق الدولي في أعقاب الحرب الباردة، إلا أن روسيا كانت في مسعى دائم لاستعادة دورها ومكانتها الدولية في النظام الدولي كدولة عظمى[50].
كما ذكرنا في الجزء المتعلق بروسيا من أن تدخلها في القضية السورية ليس مقتصرا على سوريا فحسب بل إن الأمر يمتد لاعتبارات أوسع وأعمق من ذلك وأهداف ابعد، فالأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة للولايات المتحدة، فاهتمام الولايات المتحدة بسوريا يأتي في إطار سعيها لإحكام سيطرتها بشكل تام على المنطقة وعدم السماح لروسيا بمد نفوذها فيها لاعتبارات جيوبولتيكية واضحة لما يمثله موقع سوريا من منطقة الشرق الأوسط وأهميته لأي من يحاول بسط نفوذه وسيطرته على المنطقة ككل[51].
شهدت الأزمة السورية ثلاث قيادات أمريكية مختلفة منذ اندلاع الأزمة في ٢٠١١ مرورًا بكافة مراحل الأزمة وتطوراتها وانتهاء بالحرب، بدء بالرئيس باراك أوباما مرورا بالرئيس دونالد ترامب وانتهاء بالرئيس الحالي جو بايدن، وقد اختلف تعاطي كل منهم مع المشهد السوري ففي بداية الأزمة اقتصر التدخل الأمريكي في عهد الرئيس أوباما على التنديد بأفعال النظام واللهجة الدبلوماسية الحاد في خطاب النظام السوري ومطالبة النظام بضرورة الاستجابة لمطالب المتظاهرين، مع السعي لإشراك بشار الأسد كجزء من الحل، انتقالا لفرض العقوبات الاقتصادية على رموز النظام السوري وفي عام 2014 دعا الرئيس أوباما لزيادة الدعم الأمريكي لقوات “المعارضة السورية المعتدلة” من خلال الدعم المادي وتدريب تلك العناصر لمواجهة التنظيمات الإرهابية في سوريا كداعش مثلا، ويمكننا من خلال ذلك القول بأن الموقف الأمريكي لم يتسم ببلورة موقف محدد من الأوضاع في سوريا في بداية الأزمة والتعاطي مع تطوراتها، فمن الحث على الحل السياسي وانتهاج الإصلاح، إلى فرض العقوبات الاقتصادية، الى وجوب رحيل الأسد، الى تقديم المساعدات المالية والعسكرية لعناصر المعارضة انتقالا إلى تدريب تلك العناصر، ثم التهديد بتوجيه ضربة عسكرية محدودة للنظام السوري، الى التدخل بغارات جوية ضد مواقع داعش والجماعات الإرهابية الأخرى، الجماعات التي وجدت الحيز السانح للتوسع من خلال الفراغ التي خلفته الولايات المتحدة بسبب موقفها المتردد من الأزمة[52].
والموقف الأمريكي من الأزمة السورية في عهد أوباما وبالرغم من جوهره الذي يقوم على فكرة انتقال سياسي يحمل طابعا شاملا ويحافظ على بقاء مؤسسات الدولة والجيش، كانت الولايات المتحدة مسلمة بحقيقة أنها لا ترغب في انهيار النظام بالكامل رغبة في عدم تكرار سيناريو ليبيا والعراق والنموذج الفوضوي الذي عقبهما[53].
ويمكن تفسير الموقف الأمريكي من الأزمة السورية إذا أخذنا في الاعتبار الدوافع والحيثيات التي يمكن أن تكون قد أدت لذلك التدخل والعوامل التي جعلته بهذه الصورة، فبعد أخذ الأهمية الاستراتيجية لسوريا بالنسبة للولايات المتحدة فقد كانت الولايات المتحدة تسعى بعد تجربتها في كل من العراق وأفغانستان تتعامل بحذر شديد حرصا على الوصول لنتائج مضمونة وتلافي تكرار الفشل في هتين الحالتين، ويمكن إجمال أبرز أهداف الجانب الأمريكي من تدخله في سوريا في النقاط التالية:
إسقاط النظام السوري وإقامة نظام موالي للولايات المتحدة والغرب، إذ أن سوريا الأسد اتسمت بدعم ومحالفة أعدائها من حزب الله في لبنان والنظام الإيراني وكوريا الشمالية، ولكن التطورات الطارئة على المشهد في سوريا وتعدد أطراف المتورطة في الحرب وتداخلها وتشابك مصالحها بالإضافة لظهور العديد من الجماعات المسلحة المتشددة جعلها تكتفي حاليا بانتهاج سياسة تهدف لإضعاف النظام السوري في استراتيجية تنتهي بسقوط نظام الأسد وإقامة نظام سياسي أقرب إلى الغرب ويحافظ على أمن إسرائيل وتفوقها في المنطقة[54].
بالإضافة لحماية أمن إسرائيل نتيجة ما يتمتع به اللوبي الصهيوني من نفوذ في أروقة صنع القرار الأمريكي، الأمر الذي تنامت ضرورته في ظل غياب الصورة الواضحة عن مآل الأمور في سوريا واحتمالية وقوع التغييرات المفاجئة والارتدادات الكبيرة التي تمس أمن وحدود إسرائيل بصورة مباشرة[55].
وكان من أهداف الولايات المتحدة أيضا عدم الانجرار لتورط عسكري في سوريا، وجاءت هذه السياسة اتعاظا بتجربتي العراق وأفغانستان التان شكلتا وعيا أمريكيا مناهضا لفكرة الحرب والتدخل بالقوة العسكرية وإرسال جنود للقتال خارج البلاد، وفي المسألة السورية جاءت الآراء متضافرة لرفض شن حرب في سوريا تخوفا من مرحلة ما بعد الأسد وإمكانية وصول متطرفين للحكم في دمشق، وذلك يعيدنا لنقطة البحث عن النتائج المضمونة لأي عمل عسكري تنوي الإقدام عليه في سوريا وسعيها لإقامة نظام بديل موالي لها ولكن دون الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة[56]، في ظل أولوية أمريكية في محاربة الإرهاب المتنامي في الأراضي السورية وليس محاربة النظام السوري.
وهدف أخير يتمثل في تقييد حركة ونفوذ القوى الدولية والإقليمية الداعمة للنظام السوري، وتلك القوى المتمثلة في إيران محليا وروسيا والصين دوليا من خلال تقويض نفوذ تلك القوى في المنطقة وتحجيم قدراتها في التحرك، وذلك الهدف كان من خلال الضغط على النظام السوري ومحاولة إسقاطه وتغيير ميوله وحلفائه والاتجاه نحو الغرب، والضغط على تلك القوى في ملفات أخرى ذات أهمية مشتركة مع الولايات المتحدة[57].
وفي إطار تلك الأهداف لجأت الولايات المتحدة لعدد من الأدوات منها :-
الأدوات السياسية: صرحت واشنطن في غير موضع بفقدان النظام الروسي لشرعيته ولابد من وجود انتقال سياسي في سوريا يضمن حماية حقوق العامة وحقوق الأقليات الدينية والعرقية ووقف الاضطهاد والانتهاكات التي تتم فيها، إضافة لمحاولة الولايات المتحدة المتكررة الرامية لاستصدار قرارات أممية تمهد لتدخل دولي في سوريا إلا أن تلك القرارات اصطدمت دوما بحق الفيتو من قبل روسيا والصين.[58]
الأدوات العسكرية: وانقسم استخدام القوة العسكرية بين التهديد باستخدام القوة، وذلك ابتداء في حال استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية في ما عبر عنه الرئيس أوباما بالخط الأحمر وتبعه التهديد الأمريكي بتوجيه ضربة محدودة لسوريا تهدف لشل قدرات النظام على استخدام تلك الأسلحة التي تعد من جرائم الحرب[59]، والاستخدام غير المباشر من خلال تسليح ودعم المعارضة في سوريا، المبدأ الذي أعطى لخصوم النظام السوري الإقليميين التبرير الكافي للذهاب إلى أبعد من ذلك في توفير أسلحة نوعية للفصائل المعارضة للنظام السوري بما فيها حتى الصواريخ المضادة للطائرات.
الأدوات الاقتصادية: اتخذت الولايات المتحدة من فرض العقوبات الاقتصادية وتضييق الخناق على النظام السوري سياسة أساسية في تعاطيها مع الوضع في سوريا، ففرضت العقوبات الاقتصادية على المؤسسات العامة وأركان النظام السوري ومسؤوليه تضمنت العقوبات تجميدا للأموال وحظرا للتعاملات التجارية مع الشخصيات المادية والمعنوية المشمولة بتلك العقوبات[60]، هذا بالإضافة لتشجيع القوى الدولية والإقليمية على فرض العقوبات على النظام السوري خصوصا ما انتهجه الاتحاد الأوروبي في هذا النهج، كما سارت جامعة الدول العربية على نفس النهج ففرضت عقوبات اقتصادية هي الأخرى على سوريا عقب تعليق عضويتها، إضافة للعقوبات التركية التي سارت في نفس الركب[61].
وكان ذلك هو تأسيس الموقف الأمريكي من الحرب السورية إلا أن تلك المرحلة تليها مرحلتين أخريين هما مرحلة كل من الرئيس ترامب والرئيس بايدن ونجمل أبرز تطورات الموقف الأمريكي في إدارتهما في التالي:-
في مرحلة الرئيس ترامب بدأ التدخل العسكري في سوريا يأخذ منحنى جديدا فبدأ التدخل العسكري الأمريكي في الصراع السوري ميدانيًا منذ مطلع مارس 2017، وذلك بعد أن قررت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن تكون أكثر انخراطًا في الأزمة السورية على العكس من الإدارة السابقة. وكان لذلك تأثير لم يقف عند الأبعاد والتداعيات العسكرية فقط، فقد كان له أبعاده وتداعياته السياسية المهمة، أبرزها صياغة “خرائط نفوذ سياسية جديدة”، وتبني موقف أكثر عدائية وحزما من التدخل الإيراني الذي وصفها بالراعي الرسمي للإرهاب في المنطقة، ورأى أن التراجع في الإدارة الأمريكية السابقة عن التواجد الميداني في المنطقة أدى لإلحاق الضرر بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة لصالح روسيا وإيران، والتدخل العسكري الأمريكي في الصراع السوري، لم يسهم في حلحلة الموقف الأمريكي تجاه مجمل الصراع لاسيما العلاقة بين النظام السوري والمعارضة، ومستقبل الأزمة وطبيعة التسوية المأمولة، لأنه لا يزال يفتقد لرؤية استراتيجية متكاملة حول كيفية إدارة الصراع السوري، وأن خيارات هذا التدخل الاستراتيجية، السياسية منها والعسكرية، لا تزال غامضة. لكنها تشير في الوقت ذاته إلى الأسباب التي قد تدفع واشنطن إلى رفع مستوى تواجدها العسكري على الأرض السورية كمعطى ضروري ستفرضه تطورات وتداعيات مرحلة المواجهة مع داعش وما بعدها، وما يرتبط بها من صياغة جديدة للتنسيق والتعاون الأمني والسياسي مع غيرها من القوى وعلى رأسها روسيا[62].
حقيقة أن أفضل من وصّف سياسة ترامب في سورية هو ترامب نفسه حين قال إنه لا يرغب بالتورط بالملف السوري الذي خسرته الولايات المتحدة عندما تخلى عنه أوباما قبل سنوات حين لم يفعّل خطّه الأحمر، ولم يبق فيها سوى “الموت والرمال”. ترامب قال بوضوح إن الدعم الأمريكي للأكراد هو ما ساعدهم في القتال على الأرض، وإن الولايات المتحدة قاتلت داعش نيابة عن روسيا وإيران ونظام الأسد، لذلك تخلى ترامب عن المعارضة السورية بإلغاء برنامجي دعم المعارضة المسلحة، بما في ذلك غرف العمليات المشتركة في الشمال والجنوب، ووقف برنامج التدريب والتجهيز التابع للبنتاغون، وإيقاف برامج وزارة الخارجية الأمريكية في شمال سورية، وتعليق الدعم المالي الذي تعهدت به الولايات المتحدة لجهود الاستقرار في سورية، حتى أنه ألغى قبول اللاجئين السوريين حتى إشعار آخر[63].
أما في ما يخص إدارة الرئيس بايدن فقد أدركت إدارته أن الفشلُ الرئيسي لإدارة أوباما وترامب في سورية بعدم الإقرار بالمصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة في استقرار سورية، لذلك لم تضع الإدارتان الملف السوري في سلم أولوياتها، ولكنهما استخدمتا هذا الملف كورقة مرتبطة بملفات أخرى في المنطقة مثل مواجهة إيران ومكافحة الإرهاب[64].
وقد تُرجم هذا الفشل على شكل تقدّم استراتيجي لكل من روسيا وإيران في سورية والمنطقة ككل، ومع دخول الصراع في سورية عقده الثاني عند تنصيب إدارة بايدن تغيرت موازين القوة وباتت روسيا وإيران تقودان دفة الصراع على الأرض في مواقع سيطرة النظام السوري التي تمثل معظم مناطق سورية من جنوب البلاد إلى محافظة إدلب في الشمال الغربي، ومعظم محافظة حلب في شمالي البلاد، وأجزاء من محافظتي الرقة ودير الزور في شمال وشمال شرقي سورية، باستثناء المنطقة الحدودية المحيطة بقاعدة التنف الأمريكية في الجنوب الشرقي التي تسيطر عليها القوات الأمريكية وقوات المعارضة السورية، وما زال النظام يملك تواجدًا إداريًا وعسكريًا في محافظة الحسكة. بينما تُسيطر فصائل المعارضة على محافظة إدلب في شمالي البلاد، وأجزاء من محافظة حلب وحماة والرقة والحسكة. في حين تسيطر قوات سورية الديمقراطية في منطقة تواجد القوات الأمريكية شمال شرقي البلاد التي تشمل محافظة الحسكة وأجزاء من محافظات دير الزور والرقة وحلب[65]، ويحدّ هذا الواقع من الخيارات المتاحة أمام إدارة بايدن، على خلاف الوضع في عهد إدارة أوباما، حيث كانت المعارضة في فترة من الفترات تُسيطر على ثلثي البلاد، بما يعني أن إسقاط الأسد كان متحققاً لو توفرت الإرادة لدى البيت الأبيض الأمر الذي لم يعد بالإمكان بعد هذه التطورات في الساحة السورية، ولكن مع استمرار وجود القوة العسكرية الأمريكية وحرص إدارة بايدن على بقائها فالوضع لم يحسم بعد، والجود العسكري الأمريكي في شمال شرق سورية وفي جنوب شرقها بقاعدة التنف، هو واحد من أهم الأوراق التي تملكها إدارة بايدن في التعاطي مع نظام الأسد وحلفائه الذين كسروا كل اتفاقية وقعت معهم بشأن سورية خلال عشر سنوات، لذلك يرجح أن تحافظ هذه الإدارة على هذا الوجود وتعززه أكثر حتى ، وذلك بعد الانتقادات اللاذعة التي طالت ترام عقب سحبه لبعض تلك القوات[66].
المبحث الثاني: القوى المحلية والإقليمية والدولية في الأزمة السورية وطرق إدراتها
تتم عملية إدارة الصراع الدولي في معظم الأحوال من خلال تدخل طرف ثالث، يسعى إلى منع الصراع، أو ضبط الصراع أو حل الصراع، أو تحقيق السلام بين أطراف الصراع، وأيًا كانت أهداف القائمين على إدارة الصراع فإنهم إنما يلجأون في سبيل تحقيق هذه الأهداف إلى وسائل عديدة ومتنوعة[67]، يلاحظ أن تلك الوسائل تتمثل في:
- الوسائل الدبلوماسية (التفاوض المساومة الوساطة).
- العقوبات الاقتصادية.
- التهديد باستخدام القوة والاستخدام الفعلي لها.
ومن خلال هذا المبحث سنتناول دور القوى المحلية والإقليمية والدولية في إدارة الأزمة السورية.
المطلب الأول: منهج القوى المحلية في إدارة الأزمة السورية:
من خلال عرضنا السابق لدور القوى القوى المحلية في إثارة الأزمة في سوريا، نجد أن كل القوى في حالة صراع مستمر؛ بغية تحقيق مصالحها الخاصة دون النظر إلى المصلحة العليا للدولة السورية، لذلك سنجد فيما يلى عجز القوى المحلية في إدارة الصراع.
عُقد مؤتمر في جنيف في عام 2014 على جولتين تمت فيها مفاوضات بين الحكومة السورية وبين أعضاء من المعارضة، لكن انتهت المفاوضات من دون تحقيق أي اتفاق يذكر من كلا الجانبين، حيث أظهر النظام السوري في المؤتمر بشكل واضح أن ما من حل يمكن بلوغه في ظل بقاء الأسد في السلطة ، ذلك أن النظام يرفض تقديم أي تنازلات سياسية[68]. ويتضح لنا أن القوى المحلية في تلك الفترة كانت غير مستعدة لتهدئة الصراع وإدراته بالطريقة التي تحقق المصلحة العامة لسوريا.
ويتعين علينا هنا إبراز بعض القوى المحلية:
- جيش الأسد: خسر الجيش السوري الكثير من مواقعه وقُتل أو انشق الآلاف من جنوده. وتتواجد جيوش وميليشيات تابعة لأكثر من ثمان دول على التراب السوري. بيّد أن جيش الأسد استفاد من الدعمين الروسي والإيراني في استعادة مناطق استراتيجية كان قد خسرها سابقاً كحلب وحمص ودير الزور، مما حدا بعدة أطراف كانت تشترط رحيل الأسد قبل الشروع بأي مفاوضات إلى البدء في تغيير مواقفها.
- المقاتلون الأكرادكسب الأكراد الكثير في السنتين المنصرمتين، وبدأ صوتهم بالارتفاع ونفوذهم بالتزايد، إذ سيطروا على مناطق غنية بالنفط في شمال شرق البلاد. كما يشكّلون ركيزة “قوات سوريا الديمقراطية” التي حرّرت الرقة بدعم التحالف الدولي، فضلاً عن إقامتهم “إدارة ذاتية” في مناطق سيطرتهم. بيدَ أن عملية غصن الزيتون التي أطلقها الجيش التركي في عفرين ضد المقاتلين الأكراد، أدت إلى خسارتهم عدة مساحات، فضلاً عن مقتل المئات بينهم.
- المعارضة المسلحة: ظهرت المعارضة المسلّحة السورية في البداية بديلاً محتملاً لنظام الأسد، إذ سيطرت على مساحة شاسعة من سوريا. غير أنها خسرت لاحقا الكثير منها. تعاني المعارضة من التشتت في المواقف الإيديولوجية، فضلاً عن تعدّد الداعمين وتنوّع أهدافهم. مما حدا بالبعض لإطلاق كلمة “معارضات” سورية عليها، كما تعرضت لضربة كبيرة بعد دخول التنظيمات الإرهابية كـ”داعش” و”النصرة” على الخط واستيلائها أراضٍ كانت تحت سيطرتها[69].
يبرز من خلال عرضنا أن، القوى المحلية المتسببة في إثارة الصراع فشلت في إدراته، حيث يستخدم كل طرف قدراته العسكرية لخدمة مصالحه، دون التفكير في الجلوس على طاولة المفاوضات، وحتى مع جلوسهم على طاولة المفاوضات اظهر كل جانب تشدد غير مبرر تجاه مصلحته وفكره، وهو ما أدى إلى فشل تلك القوى في إدراة أزمتها الداخلية، وهو ما استدعى تدخل قوى خارجية لإدرة الأزمة في سوريا.
المطلب الثاني: دور القوي الإقليمية في إدارة الصراع
تعتبر القوي الإقليمية قد لعبت دور بالغ التأثير في الأزمة السورية منذ بدء الأزمة حتي الي وقتنا الحالي لاسميا في الفترة الأخيرة قد زاد دورها واضحا وظاهر لدي المجتمع الدولي، وأهم ما سوف نتطرق إليه هو دور تلك القوي في إدارة الصراع وماهي أدواتها وآلياتها .
أولًا: الدور التركي:
بين تركيا وسوريا تاريخ طويل من العلاقات بين البلدين ، تميزت هذه العلاقات بتوترات سياسية تارة، وبالتعاون تارة أخري، ويرجع ذلك الي العديد من القضايا والملفات المتشابكة بين الدولتين نتيجة الجوار الجغرافي، ومع بدء الأحداث التي اندلعت في سوريا بدات تركيا في الانخراط شئ فشئ حتي أن وصلت إلي ماهي عليه الأن[70].
1-الموقف التركي وآلية التدخل العسكري :
شهدت سياسية تركيا الخارجية مع وصول حزب العدالة والتنمية إلي الحكم عام 2002 تحولات جذرية افسحت المجال لإعادة تعريف موقع تركيا ودورها في الشرق الأوسط والعالم ،وبإحداث نقلة نوعيه ما يمكن تسميته بالصعود الإقليمي .
يأتي هذا الصعود وفق رؤية العمق الإستراتيجي وسياسية (تصفير النزاعات) التي صاغها أحمد داود أغلو، فكان هدف السياسية الخارجية التركية هو تجنب محاولات تهمشيها، وبالتالي قد عملت علي توسيع حيزها ليشمل كلا من الشرق والغرب والشمال والجنوب لتتحول من دولة هامشية على أطراف القارات إلي دولة ذات ثقل وحاسمة من ناحيو جيوبولتيكية ذات تأثير إقليمي.
قد انتهجت أنقرة سياسية خارجية تجاة سوريا تقوم علي تفعيل آليات القوة الذكية لحماية أمنها القومي، فمازالت أنقرة تتخوف من عودة النفوذ الكردي في الشمال السوري وإعادة انتشارهم مما يمكنهم من الإنفصال علي غرار إقليم كردستان في العراق مستغلا ضعف السلطة المركزية وتراجعها، لذا يعد الهدف الرئيسي من التواجد التركي هو تطويق النفوذ الكردي في سوريا ، ومحاولة تركيا فرض نفسها كطرف دولي فاعل في إعادة إعمار سوريا وتأمين الحدود التركية[71].
أولًا: الضغط لإحداث إصلاحات سياسة في سوريا
قد امتدت هذه المرحلة من بداية التظاهرات في مارس 2011م وحتي سحب السفير التركي من دمشق في مارس 2012م. وقد أخذ الموقف التركي في التدرج متتبعا تطورات المشهد الداخلي السوري، وما لبث إلا أن أعلن عن إبداء الثقة بنظام الأسد ودعمه لتنفيذ ما وعد به من إصلاحات ثم بالضغط علية للإسراع لتنفيذها، ثم تحول الموقف إلى انتقاد الممارسة الأمنية، ثم إلي الدعوة لعدم تفويت والتغافل عن التغير السلمي ثم إلي التهديد بتغير موقف أنقرة تجاة الأسد ونظامه بعدما قام النظام بمماطلة تركيا وخدعها.
ثانيًا: دعم المعارضة لإسقاط الأسد
امتدت هذه الفترة على ثلاث سنوات تقريبا، فبعد أن فقد تركيا إمكانتيها في الضغط علي النظام نتيجة لقطع العلاقات الدبلوماسية، ونتيجة لتفوق فصائل المعارضة ميدانيًا في مواجهة المعارضة، اعتبرت تركيا أن نظام الأسد فاقد للشرعية، وقامت تركيا بتقديم الدعم للمعارضة السورية علي عدة مستويات منها الإعلامي والسياسي والإغاثي وحتي العسكري، كما أن استذافت تركيا أغلب مؤتمرات المعارضة، وساهمت أيضا بتشكيل اعتراف دولي للمعارضة السورية والتحدث باسم المعارضة على المنابر الدولية، كما أنها استضافت أكثر من مليون لاجيء سوري ضمن مبادرة الباب مفتوح، وقامت بتقديم الدعم العسكري لقوات المعارضة، وقد تم هذا بالتنسيق بين تركيا وقطر.
ثالثًا: القبول بالحل السياسي
قامت تركيا بالتخلي عن شعارات إسقاط الأسد وراحت تتحدث عن القبول بخطة انتقالية وجدولها الزمني وفق الإتفاق الأمريكي- الروسي في فينيا، أي قيام تركيا بالموافقة الضمنية على بقاء الأسد في منصبه حتي الانتخابات القادمة، وعلى الرغم من ذلك، أخذت تركيا تتحدث عن رفضها لإبقائه في السلطة بعدها[72].
ومن العوامل التي دفعت تركيا إلى التحول بالموافقة بدلًا من الاعتراض هي حلة الركود الميداني التي غيمت على الأسد وحلفائه من ناحية مع فصائل المقاومة من ناحية أخري، فضلًا عن انتخابات يونيو وما ترتب عليها من أحداث ومتغيرات أثرت بشكل مباشر على صانع القرار التركي، ودفعته لإعادة تقييم سياسته الخارجية، أيضا تراجع الدور التركي بشكل ملحوظ بسبب التدخل العسكري المباشر من روسيا، وقد شهدت هذه المرحلة فتح قاعدة “إنجلرليك” العسكرية لطائرات التحالف الدولي وانخراط تركيا بشكل فعلي في مكافحة تنظيم داعش الإرهابي.
رابعًا: الانتقال من المبادرة إلي الدفاع
تعتبر بدء هذه المرحلة من تاريخ حادثة إسقاط تركيا لمقاتلة روسية، حيث أن تركيا فقدت أي أمل في حدوث اختراق أو دور فعال كبير في الأزمة السوية وذلك لسببين:
- الإجراءات العقابية التي فرضتها روسيا ضد تركيا على كافة المستويات الاقتصادية والعسكرية والتجارية، حيث قامت روسيا بفرض حالة حظر طيران فعلي فوق الأراضي السورية ومنع طائرات تركيا من التحليق في سماء سورية أي منع قيام تركيا بتنفيذ مشروعها، ألا وهو إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا.
- قيام قوات حماية الشعب الكردية، وهو الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي تعتبره أنقرة الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، بإعلان دعمه لروسيا عسكريًا والولايات المتحدة الأمريكية لإقامة شريط كردي محاذٍ للحدود السورية التركية.
خامسًا: التدخل العسكري
اعتمدت تركيا على أداة التدخل العكسري وظهر ذلك واضحًا من خلال:
- درع الفرات: شنت تركيا عملية عسكرية علي الأراضي السورية في عام 2016م عرف باسم عملية (درع الفرات) تستهدف رسميًا الميلشيات الكردية والإرهابية، وسيطر مئات من قوات المعارضة السورية مدعومين بأسلحة ودبابات وطائرات تركية علي بلدة جرابلس السورية.
- عملية غصن الزيتون: بدأت هذه العملية بالاشتراك مع الجيش الحر السوري عام 2018م، وسميت (بغصن الزيتون)، دخلت تركيا حرب عفرين بهدف معلن واحد ألا وهو القضاء على وحدات حماية الشعب الكردية والتي تصنفها تركيا على أنها منظمة إرهابية.
وعلي الرغم من أخر هذه التدخلات هو قصف مواقع في شمال سوريا عام 2022م، إلا أن العمليات العسكرية باتت حتي الأن محدودة إلي حد ما، وينحصر هدف تركيا الرئيسي في إبعاد تنظيم الدولة عن الحدود التركية.
ويمكننا ذكر أسباب التدخل التركي في سوريا في بعض النقاط كالأتي :
1-ارتباط الأزمة السورية بشكل مباشر بأمن تركيا القومي، عبر تداخل المشهد السوري مع الوضع التركي الدخلي بعد تفجيرات أنقرة.
2- زيادة حدة التهديدات الأمنية القادمة من سوريا بفعل تنظيم الدولة وحزب العمال التركي، خاصة مع التفجيرات التي أصبحت تتعرض لها تركيا خلال السنوات الماضية وحتى الأن.
3- قدرات القوات التركية الكبيرة والمتفوفة التي يتمتع بها الجيش التركي علي الفصائل المقاتلة في سورية
4-دعم تركيا لمشروع إسلامي في العالم العربي من خلال وصول الإخوان المسلمين الحكم، حيث أنه قد اجتمع داود أغلو مع الأسد في 2011م طبقا لوكالة “فرانس برنس” حيث تضمن اللقاء اقتراحًا من قبل أوغلو بمشاركة الإخوان الأسد في الحكم من خلال تعيين وزراء منهم وعودتهم الي سوريا قولا بأنهم أهل سنة، ولكن بدء الأسد برفض محتجًا بإن الإخوان حزب ديني وهذا لا يتمشي مع علمنة الدولة.
5- خوف تركيا من قيام أكراد سوريا بإنشاء كيان جغرافي متصل مع تركيا مقابل للمحافظات التي تسكنها الأكراد.
ثانيًا: الدور الإيراني
أدت إيران دوراً ميدانياً أکبر وأطول في معاونة النظام السوري، من خلال توفيرها دعماً غير محدود تمثل في جلب الميليشيات الشيعية، وزجها في سورية لمحاربة فصائل المعارضة، الأمر الذي أحال إيران، لتکون الدولة الأکثر نفوذاً في سوريا من ناحية ميدانية، وهو ما رفع وتيرة تبعية النظام السياسية والاقتصادية والأمنية لإيران التي باتت على ترابط عضوي استراتيجيٍ مع النظام السوري[73].
أولًا: تطور الوجود الإيراني في سوريا
مع حلول عام 2013م أصبح من الواضح أن الجيش السوري ليس لديه القدرة على حسم الحرب دون أي مساعدة خارجية، وعلى مر سنوات عدة قامت طهران بتقديم مساعدات ضخمة لدمشق، الأمر الذي عاد بالسلب على الاقتصاد الإيراني، وبالطبيعي كان له تداعيات على النواحي الداخلية في إيران، وعلى الرغم من هذه الخسائر المترتبة على الدعم السوري إلا أن ايران كانت تشعر بالرضا من الناحية السياسية؛ لأن بقاء النظام السوري يمهد الطريق لإيران إلى لبنان والعراق، والجدير بالذكر أن إيران تستخدم الأزمة السورية كورقة ضغط وابتزاز على الغرب من أجل المشروع النووي الإيراني.
ومع تزايد الصراعات والمواجهات في سوريا وزيادة الانقسامات في صفوف الجيش النظامي دفع الدولة الإيرانية للضغط على حزب الله للمشاركة في القتال، وقد برر كلا من إيران وحزب الله دفاعهم عن نظام الأسد وخوض القتال من أجل الدفاع على المقامات الشيعية، كما حصرت على أن عملية الانتقال السياسي تتم من خلالها خوفًا من أن يصل إلى الحكم نظام معارضًا لها.
ثانيًا: أشكال التدخل الإيراني في سوريا
1-الدعم الاقتصادي:
مع زيادة تفوقات المعارضة على أرض الميدان، أدرك نظام الأسد أنه يجب التركيز على عنصر الاقتصاد الخارجي الذي يجعله يحتفظ بكونه دولة إلى الحد الأدني، وعليه فقد وفرت إيران الكثير من الدعم الاقتصادي لسوريا على عدة مراحل:
- الإقراض:
استطاعت إيران التفوق على روسيا في عميلة قراض سوريا، حيث أنه بلغ الإقراض الإيراني لسوريا حتى الأن إلى ثلاثة قروض بقيمة 5,6 مليار دولار في سبيل دعم شراء السلع الأساسية مثل القمح ومشتقات النفط والسيولة النقدية للبنك المركزي.
- الخط الائتماني:
يُشير الخط الائتماني إلى مجموعة من التسهيلات المالية التي تتضمن الاقتراض عند الطلب، والسحب المكشوف بدون قيود، مقابل تقديم المُقترض تأمينات. وبهذا الشكل قدمت إيران للنظام السوري ما قيمته 4.6 مليار دولار وقد خُصصت هذه القروض في تأمين المشتقات النفطية، وتوريد المواد الغذائية والمائية والأدوية والمحروقات وترميم محطات الطاقة الكهربائية، وكان الشرط الأساسي لهذا الخط أن تكون جميع الواردات إيرانية، كما طالبت إيران مقابل هذا الخط “ضمانات سيادية” بقيمة 20 مليار دولار. وتشمل الضمانات السيادية رهاناتٍ علي العقارات وأراضٍ ومرافق حكومية.
3- الاستمرار في التعاون التجاري:
فُرضت على النظام السوري عام 2012، عقوباتٍ اقتصادية تركت أثرها على معاملاته النقدية والتجارية مع الدول الأخرى. وأدى ذلك لتراجع معدل صادراته الخارجية إلى ما مجموعه 1.42 مليار دولار بحلول عام 2015 . وكان لمواصلة إيران، من ضمن 28 دولة أخرى، تبادلها التجاري مع سورية، لا سيما في استيراد الألبسة والقطن وزيت الزيتون، وغيرها، دور كبير في ديمومة الدورة الاقتصادية لمناطق سيطرة النظام. وتأتي إيران على رأس الدول المستوردة، نظراً لاتفاقية التجارة الحرة المُبرمة بينها وبين النظام السوري عام 2012، والتي تُعفي البضائع المتبادلة بين الطرفين من الضرائب والتعريفة الجمركية[74].
4- الإسهام في الاستثمار المباشر :
واصلت إيران دعم البنية التحتية لمناطق سيطرة النظام التي اتسعت من 18% إلى ما يقارب 65% بعد عام 2015، من خلال الاستثمار في مشاريع إنشاء محطات لتوليد الكهرباء، وتطوير مناطق صناعية، وغيرها، بقيمة 850 مليون يورو.
لا يمكن تحديد عائدات هذه المشاريع على النظام بشكلٍ مباشر، غير أنها تأتي كمقابل طبيعي لدعم النظام السوري عسكرياً، كما أنها تعود عليه، كما هو ظاهر، برفع رصيده أمام الحكومتين الروسية والإيرانية لمنحه المزيد من القروض وخطوط الائتمان وعوائد الدعم المادي كالقمح والمواد الغذائية. ويمكن ملامسة تلك النقطة من خلال النظر إلى مذكرة التعاون التي وقعتها شركة “يوروبوليس” الروسية الأمنية مع وزارة النفط والثروة المعدنية يونيو2017، والتي نصت على التزام الشركة “بتحرير مناطق آبار النفط ومنشآتها وحمايتها” مقابل حصولها على ربع الإنتاج النفطي، خير مثال على آلية التعاون المذكورة أعلاه، كما أنه يساهم في تحريك دورة الاقتصاد الراكدة ولو نسبيا.
- الدعم العسكري:
استخدمت إيران الأداة العسكرية من أول يوم في الأزمة السورية، حيث أنها بدأت بدعم العسكري المتنوع للنظام السوري، والذي وصل إلى حد الارتباط العضوي بين قواتها وميليشياتها مع قوات النظام السوري
وقد تدرج التدخل العسكري الإيراني المباشر من مرحلة الخبراء في عام 2011، إلى مرحلة إرسال فرق عسكرية من الحرس الثوري والميليشيات الطائفية العراقية واللبنانية والأفغانية عام 2012 بشكل غير معلن، ثم مرحلة الإعلان عن المشاركة في عام 2013، وهو العام الذي بدأت القوات الإيرانية والميليشيات الأجنبية تشهد خسائر بشرية عالية. واستندت إيران في شرعية تدخلها إلى اتفاقية الدفاع المُشترك المُوقعة مع دمشق عام 2006[75].
الدور الإسرائيلي:
اعتمدت إسرائيل أيضا على الأداة العسكرية المباشرة على الجبهة السورية كما هو الأتي:
تصب العديد من التحركات الإسرائيلية، منذ إعلان حكومة “نفتالي بينيت” في يونيو ٢٠٢١، في صالح تهميش القضية الفلسطينية، وتعظيم الصراع مع إيران، وتقديم الجبهة الشمالية، ممثلة في سوريا ولبنان، بوصفها الهاجس الأمني الرئيسي لإسرائيل التي تُعمِّق علاقاتها مع الجوار العربي ولا ترغب في تحديد موقعها من مدخل القضية الفلسطينية.
وشملت الخطوات الإسرائيلية لتأسيس تلك الرؤية التعامل مع سوريا بوصفها ساحة مواجهة للتهديدات الإيرانية بشكل استباقي عبر الاستهداف المتكرر للأراضي السورية بذريعة وجود أسلحة أو قوات تابعة لكل من إيران أو حزب الله، والتركيز على الوجود الإيراني في سوريا بوصفه محور النقاش في الاجتماع الأول الذي عُقد بين بينيت والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي في ٢٢أكتوبر الفائت ، ومثّل الإعلان عن استهداف صواريخ إسرائيلية لمبنى غير مأهول في دمشق، في ١٧نوفمبر الجاري، القصف الرابع الذي تتعرض له سوريا منذ سوتشي بكل ما صاحبه من حديث عن ضوء أخضر روسي وتصعيد إسرائيلي[76].
ورغم تزايد التحركات الإسرائيلية في سوريا منذ تولي بينيت، إلا أن وتيرة العمليات تثير الكثير من التساؤلات حول تفاصيل المشهد على الجبهة السورية.
في مارس 2017، قام الجيش العربي السوري في حادث حدودي بإطلاق عدّة صواريخ من طراز إس-200، وقد تم إسقاط صاروخ واحد بصاروخ سهم 2، دون أن تتضرر أي طائرة، ادعى الجيش العربي السوري أن الطائرات الإسرائيلية استهدفت، بينما كانت تحاول الشروع بمهمة في منطقة تدمر. وفي 27 أبريل 2017، ذكرت وكالة الأنباء السورية (سانا) التابعة للدولة أن هناك انفجارًا شُعر به في مطار دمشق الدولي عند الساعة 3:42. ولم يبلغ عن وقوع إصابات، وأفيد بأن الانفجار شُعر به علي مسافة 15 كيلو متر، على وقد ظهر وزير الاستخبارات الإسرائيلي يسرائيل كاتس ليقر بالمسؤولية عن الانفجار، قائلًا لإذاعة الجيش أن “الحادث الذي وقع في سوريا يتوافق تمامًا مع سياسة إسرائيل على العمل من أجل من منع تهريب إيران للأسلحة المتقدمة عبر سوريا إلى حزب الله.
المطلب الثالث: دور القوى والمؤسسات الدولية في إدارة الأزمة السورية
تمثل سوريا أساس التوازن الإستراتيجي على المستوى الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط والمشرق العربي، فمنذ بداية الأزمة السورية تحركت عدة قوى ومؤسسات دولية لإيجاد حلول سياسية لتلك الأزمة، ولكن جهود تلك الأطراف للوصول إلى حل مناسب للأزمة قد باءت بالفشل، فقد فشلت الأمم المتحدة في تقديم حل مناسب للأزمة ولم تصل جهود مبعوثيها إلى نتائج ملموسة سوى ما سُمي بإعلان جنيف، وذلك كما توصلت روسيا في أعقاب تدخلها العسكري إلى ما عُرف باتفاقات خفض التصعيد في عدد من المناطق السورية[77].
في البداية كانت الأزمة السورية كاشفة عن مدى قدرة روسيا على تحدي الإرادة الأمريكية وذلك بعد محاولات واشنطن الدائمة للانفراد بإدارة الشأنين الإقليمي والدولي، فقد وجدت روسيا أن الثورات العربية قد تنتج تغييرات جيوستراتيجية في الإقليم لا تتلائم مع طموحها المتنامي لإعادة تواجدها في المنطقة العربية، ومازالت مواقفها تجاه سوريا ودول الربيع العربي تتسم بالواقعية المدعومة برؤية مستقبلية حول الإرهاب ومخاطره وسرعة انتشاره بعد سقوط الأنظمة، فكانت ذات مواقف مناوئة لطريقة التغيير في ليبيا وسوريا وذلك حتى تستطيع تعزيز دورها وتواجدها من جديد في المنطقة لمواجهة منافسيها الغربيين.
يعتبر التدخل الروسي في الأزمة السورية تغير جوهري في مسار السياسة الخارجية الروسية التي لم تقم باستخدام قوتها العسكرية خارج منطقة الجوار الروسي منذ انتهاء الحرب الباردة، فقد اتجهت روسيا لدعم نظام الأسد الحاكم في سوريا وذلك في مواجهة جميع أطراف المعارضة السورية التي تدعمها أمريكا وعدة دول غربية، وقد ارتبطت روسيا والنظام الحاكم بعلاقة تبادل المصالح وذلك تجسد في منح النظام السوري قاعدة طرطوس الاستراتيجية للبحرية الروسية والتي تسعى بدورها لأن تكون قادرة على استيعاب السفن البحرية العملاقة. كما أن روسيا تعد مصدر السلاح الرئيسي للنظام السوري، فقد وقع الرئيس السوري بشار الأسد عقود لشراء الأسلحة عام ٢٠٠٦م بلغت قيمتها الكلية أربع مليارات دولار أمريكي. وقد استعملت روسيا مع الصين حق النقض ضد ثلاث قرارات صادرة من مجلس الأمن تدين عمليات القتل في سوريا بغية فرض العقوبات عليها، ودعت روسيا مختلف قيادات المعارضة السورية إلى موسكو للتباحث معها حول المخارج والحلول المحتملة، وفي الوقت نفسه لم توافق على أي دعوة وجهت إلى بشار الأسد للتخلي عن السلطة واستمرت بتصدير السلاح الى النظام السوري. وبذلك فإن روسيا تعتمد على مسايسة جميع الأطراف لتضمن فقط تواجدها في المنطقة الحيوية أطول فترة ممكنة.
وقد ربطت روسيا بين موقفها تجاه الأزمة وبين موضوع الحفاظ على سيادة الدول الذي لا يجيز للدول الأخرى التدخل في الشوؤن الداخلية لدولة ما، ولكن الغريب أنها قد بدأت بدعم المعارضة وفي نفس الوقت عملت على مساعدة النظام الحاكم حيث شملت سياستها على التدخل العسكري في سوريا عام ٢٠١٥م والقيام بعمليات عسكرية أدت بدورها إلى مقتل حوالي 20944 مواطن حتى عام ٢٠٢١م، وقد بررت روسيا ذلك بأنها كانت تسعى إلى حماية شرعية نظام الأسد من عمليات استهداف مدبرة من الدول الأوروبية والجماعات الإرهابية، ولكنها استهدفت بتدخلها العسكري قوات المعارضة السورية التي تدعمها قوات التحالف الغربي[78].
طبعت روسيا في سبيل إنقاذ الاقتصاد الروسي خلال عام ٢٠١٢م أكثر من ٢٤٠ طن من الأوراق النقدية وكان ذلك من أجل تمكين النظام من دفع رواتب الجيش المستحقة منذ عام ٢٠١١م وهو ما تم تأكيده على صحيفة الإندبندنت[79].
رأت القيادة الروسية أن القضاء على الإرهاب هو ما يتربع على قمة أولوياتها في الأزمة السورية بالإضافة إلى دعم نظام الحكم سياسيًا وعسكريًا، وقد تمايز الموقف الأمريكي عن الروسي حيث رأت أمريكا وحلفاؤها أن التخلص من الأسد هو أولى الخطوات الواجبة بالإضافة إلى الدعم اللوجستي للمعارضة وتدريبها وتسليحها، ولم تتدخل أمريكا بشكل مباشر لتغيير النظام كما فعلت في العراق كما أن روسيا لم تتدخل مباشرة للقضاء على تنظيم داعش إلا بعد مرور سنوات على الصراع وكأن الأمر متروك لمحاولات المد والجذب. وقد حمّلت روسيا أمريكا وحلفاؤها الغربيين مسؤولية أزمة اللاجئين السوريين بسبب سياساتهم غير المدروسة. وبذلك تبقى مشكلة الأزمة السورية في عدم وجود نهج مشترك لحلها وذلك لوجود عدة أطراف تمايز موقف كل منها[80].
في إطار حرص روسيا على حماية حقوق الأقليات في الشرق الأوسط ومنذ اندلاع الأزمة السورية، اهتمت روسيا بحماية الأقليات الكردية وتواصلت معهم للوصول إلى حل سياسي للأزمة حتى لا يحدث تطهير عرقي ضدهم، بالإضافة إلى أنها تعتبرهم بمثابة قوى ضرورية للقضاء على داعش ولمراقبة خط الحدود الشمالية الذي يعبر من خلاله المقاتلون والذخائر وذلك أيضًا باعتبارهم حرس حدود نشطين.
إن الحرب الروسية على الإرهاب هي مجرد حرب وقائية استباقية، وهي مجرد حجة استخدمتها روسيا للتدخل في سوريا، كما أنها بررت تدخلها بعجز قوات التحالف الدولي في القضاء على داعش.
أدى التدخل العسكري الروسي بدوره إلى تغير خريطة السيطرة في سوريا حيث استعاد الأسد سيطرته على جزء كبير من الدولة بنسبة تقدر ب ٦٣,٣٨٪ وذلك بعدما كان قد فقد السيطرة في البداية على ثلثي أراضي الدولة لصالح المعارضة وتنظيم داعش، لتحافظ بذلك فصائل المعارضة على ١٠,٩٨٪ من مساحة الأرض السورية بينما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على ٢٥,٦٤٪ منها أما تنظيم الدولة فهو يسيطر على مساحات واسعة في المناطق الشرقية لاتصالها بالعراق[81].
لم تتعرض روسيا منذ تدخلها العسكري لخسائر بشرية كبيرة لأنها مارست عملياتها العسكرية من خلال سلاح الطيران، فقليلًا ما كان يحدث اشتباك مباشر أو معركة برية، ولكن على الجانب الآخر تكبدت روسيا خسائر مالية طائلة بسبب تكلفة غاراتها الجوية وقد تراوحت بين ٣ أو٤ مليون دولار يوميّا بما يعادل مليار دولار منذ تدخلها العسكري في سوريا[82].
ويتضح بذلك أن روسيا من خلال تدخلها في الأزمة السورية قد غطت مصالحها بالجانب الإنساني في الدفاع عن المدنيين، وايضًا بدعوة القضاء على الإرهاب الذي اتخذته ذريعة لمهاجمة مناطق تنظيم داعش دفاعًا عن النظام الحاكم وذلك على حساب المواطنين السوريين الذين عانوا وذاقوا ويلات الحرب، لتصبح الدولة السورية في حالة من الذعر وانعدام الأمن في حين أن روسيا استطاعت تأمين مكانتها في الشرق الأوسط لتساعد بذلك في تغيير هيكل النظام الدولي الذي شهد صعوة روسيا والصين في مواجهة أمريكا وحلفاؤها.
يعد بشار الأسد هو السبب الأكثر فاعلية في اندلاع الأزمة السورية واستمرارها حتى الآن، ومن شأن استمراره بالمنصب أن يؤدي إلى المزيد من العنف ووجود حالة من عدم الاستقرار، وخير مثال على ذلك هو ما قام به نظامه من عمليات قمع وحشية ضد الشعب السوري على مدار العقد الماضي لتظهر بذلك شخصيته غير الجديرة بالقيادة. ونتيجة لذلك شهدت الأزمة السورية تدخل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى القضاء على الإرهاب حتى تصبح سوريا بذلك مجال لتصفية الخلافات بين القوى الكبرى وتتحول إلى منطقة حرب بالوكالة.
تتسق سياسة الولايات المتحدة الأمريكية المعلنة إزاء الأزمة السورية مع قرار مجلس الأمن الدولي 2254، الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار مع البدء العاجل في المفاوضات السياسية على الصعيد الوطني السوري، في سبيل صياغة دستور وطني جديد وإجراء انتخابات رئاسية تتسم بالنزاهة. وحتى تنجح أمريكا في ذلك فإنها ستكون في أمس الحاجة إلى دعم الحلفاء وتأييدهم، إلا أن ما يبعث الإدارة الأمريكية على القلق هي مؤشرات الاهتمامات الإقليمية المتزايدة على إعادة الإرتباط مع الحكومة السورية، خاصةً وأن هناك قانون أمريكي يقضي بفرض عقوبات على أي جهة تشارك في دعم الحكومة السورية وذلك بهدف حماية المواطنين في سوريا[83].
لا يزال هناك حوالي ٩٠٠ جندي متواجدين في منطقة شرق سوريا وذلك منذ تمركز القوات الأمريكية في سوريا منذ عام 2015م، إلى جانب حوالي 2500 عسكري متمركزين في العراق باعتبارهم ظاهريًا جزء من عملية العزم الصلب، وهي التحالف الدولي لهزيمة جماعة داعش، فالوجود الأمريكي يمنع القوات التركية والروسية والإيرانية من التقدم ومحاربة القوات الكردية حليفتها، وتبعًا لذلك في أواخر عام 2021م أمرت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بمراجعة سياساتها تجاه سوريا وتم تحديد أربع أولويات للوجود الأمريكي في سوريا وتتمثل تلك الأولويات في محاربة تنظيم داعش المتطرف والمساعدة في تدريب وتسليح الأكراد المعروفين باسم قوات سوريا الديمقراطية، كما تشمل الأولويات الأمريكية دعم عمليات وقف إطلاق النار في عدة مناطق في سوريا تحقيقًا للاستقرار في المنطقة، وذلك بالإضافة إلى المساعدة في وصول المساعدات الإنسانية، والضغط من أجل محاسبة مجرمي الحرب. وكان من المفترض أن يساعد كل ذلك في تحقيق حل سياسي للأزمة السورية على النحو المنصوص في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الصادر في عام ٢٠١٥م[84].
مقاربة واشنطن من الأزمة السورية يساهم في إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية حيث تعتبر أمريكا الصراع في سوريا جزء من حالة مواجهتها مع إيران، فهي عندما تسهم في إضعاف النظام السوري إنما تقوي مواقفها التفاوضية في محادثاتها النووية مع إيران. بالإضافة إلى أن هناك مصلحة حقيقية في منع تشكل نفوذ إيراني ممتد من غرب أفغانستان حتى الساحل الشرقي للمتوسط لما يشكله ذلك من خطر على مصالحها في المنطقة بالإضافة إلى احتمالية وجود تداعيات دولية إذا نشأ تحالف إيراني صيني أو إيراني روسي أو تحالف إيراني صيني روسي وهو الاحتمال الأسوأ لواشنطن، هذه المخاوف سوف تدفع واشنطن إلى إحداث تغيير في سوريا بغض النظر عن نتائج هذا التغيير على المعارضة السورية والشعب السوري.
عملت واشنطن وحلفاؤها على عزل النظام الحاكم ونزع شرعيته وذلك من خلال توثيق انتهاكات حقوق الإنسان حتى يحاصروه بقرارات أممية تنتهي بوضع الدولة السورية تحت وصاية دولية، فقد رأى البعض أن واشنطن تتخذ خطوات لمعاقبة النظام السوري على استخدامه العنف المفرط ضد المحتجين. وقد اتبعت إدارة أوباما منذ البداية سياسة التصعيد المضبوط والنفس الطويل بهدف استنزاف النظام من الناحية السياسية والاقتصادية وبهدف انهاكه من الناحية العسكرية، فهناك أيضًا مصلحة أمريكية إسرائيلية في استمرار الصراع منخفض الوتيرة وذلك لأن بقاء سوريا ضعيفة ومشغولة بنفسها يبقيها بعيدة عن التدخل في الملفات الإقليمية.
ومع أن واشنطن لا زالت تطالب برحيل بشار الأسد إلا أن عدة مؤشرات تؤكد أنها مازالت قادرة على احتمال بقائه إذا استطاع تغيير سياساته وإعادة تأهيل نفسه دوليًا.
في سبيل تسوية الأزمة السورية تمكن كوفي أنان باعتباره مبعوث مشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية من تقديم خطة شاملة لم تخرج معظم قراراتها عن مبادرة جامعة الدول العربية، فقد تم وضعها بعد فشل المبادرات العربية لحل الأزمة، وقد رأى كوفي أنه لابد من حل سياسي يوفق بين جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية ولكن ذلك حسب رأيه ليس سهلًا، وقد تضمنت الخطة ما يلي :
- – الالتزام بوقف إطلاق النار ووقف جميع أشكال العنف المسلح تحت مراقبة الأمم المتحدة
- – عمل جميع الأطراف على تأمين منافد إدخال المساعدات الإنسانية لمدة ساعتين يوميًا
- – قيام النظام بإطلاق سراح جميع المعتقلين الذين شاركوا في العمليات الاحتجاجية وتأمينها حرية الحركة والصحافة في كافة أنحاء البلد
- – وضع حلول سياسية داخلية تأخذ في الاعتبار تطلعات الشعب السوري وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات
لاقت خطة كوفي أنان إجماع دولي إلا أنها لم تطبق على أرض الواقع نتيجة الاختلاف بين القوى الدولية في الكيفية التي ستنفذ بها، وقد أدى فشله في تسوية الأزمة السورية إلى تقديم استقالته في أغسطس 2012م، فتسلم من بعده الأخضر الإبراهيمي مهمة المبعوث المشترك لجامعة الدول العربية والأمم المتحدة لكنه لقي نفس ما لقيه كوفي أنان.
وكان المندوب الأممي والعربي قد دعا إلى عقد اتفاقية جنيف١ في 30 يونيو ٢٠١٢م الذي يعد أول اجتماع تم بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية للوصول إلى توافق حول الموقف من الأزمة السورية وقد استغلته روسيا لتظهر بصورة غير المؤيد للنظام السوري، وقد أكدت الإتفاقية على ضرورة التفاوض بين النظام والمعارضة ومن ثم فإنه يعد من أهم الخطوات الأولى للتهدئة بين الطرفين، وقد نصت الاتفاقية على تأسيس مجلس حكم انتقالي يتمتع بكل الصلاحيات التنفيذية ويضم أفراد من الحكومة الحالية والمعارضة وبقية المجموعات، ويعمل المجلس على التحول السياسي في البلاد.
انطلقت بعد ذلك في عام ٢٠١٦م برعاية الأمم المتحدة عملية تفاوضية في فيينا شملت جميع الأطراف الإقليمية والدولية ذات العلاقة بالشأن السوري وكانت تهدف إلى الاتفاق على آليات وقف إطلاق النار ومن ثم الإعلان عن تأسيس حكم ديموقراطي غير طائفي وإجراء انتخابات تشمل السوريين في الداخل والخارج. وقد اتفق المؤتمرون على مدنية الدولة ووحدة الشعب السوري وإعادة بناء الجيش.
بعد عرض القرار على مجلس الأمن عارضته بشدة تركيا والسعودية وقطر ولكن الولايات المتحدة طرحت مشروع القرار الأممي بالتنسيق مع روسيا، ليصبح بذلك قرار مجلس الأمن رقم 2254 ناتج عن التسوية بين روسيا وأمريكا وليس بين الأطراف الصراع المحلية في سوريا ولا بين الأطراف الإقليمية[85].
الخاتمة :
تُعد الأزمة السورية من أكثر الأزمات تعقيدًا في المنطقة العربية؛ نظرًا لتعدد أطرافها وتباين وتشابك مصالح كافة الأطراف، حيث ترجع بدايات الأزمة إلى فشل النظام السوري في احتواء الحراك السياسي والمجتمعي الذي إندلع تأثرًا بموجات الربيع العربي في تونس ثم مصر، فضلًا عن الأسباب الداخلية التي سبق وأن تعرضنا لها والتي كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت الأزمة، كما أسهم فشل النظام في إدارة الأزمة السورية إلى تحويلها لأزمة إقليمية ودولية نتيجة تدخل بعض القوى الإقليمية والدولية فيها دعمًا لمصالحها والتي سعت لمراجعة سياستها الخارجية وتحقيق مصالحها الاستراتيجية على حساب طرفي الأزمة من خلال دعم أطراف على حساب أخرى وتوظيف آلياتها لإدارة الصراع بما يحقق مصالحها، لتتحول سوريا لساحة مفتوحة للصراع وتسوية الحسابات.
وبإلقاء نظرة سريعة على الأوضاع في سوريا سنجد أن حالة الصراع في سوريا تتكون من معسكرين يتألف كل منهما من ثلاث مجموعات تتفاعل على ثلاث مستويات رئيسية: محلية وإقليمية ودولية، يشمل الأول وهو معسكر التغيير المعارضة المنتفضة على النظام، ويدعمها إقليميًا كل من تركيا ودول الخليج ومن ورائهم الدول الأوروبية والولايات المتحدة، أما المعسكر الآخر هو معسكر الحفاظ على الوضع القائم والذي يشمل النظام السوري الذي يدعمه إقليميًا كل من إيران وحلفائها وتقف ورائهم روسيا مع الإشارة لتفاوت المصالح وإعادة ترتيب الدول أوراقها حاليًا للتعامل مع الأمر الواقع وهو ما أدى لاختلال التوازنات بين قوى الصراع.
وبالحديث عن مسار التسوية في الأزمة السورية سنجد أنه لم يعد شأنًا داخليًا، بل إن الملف السوري بات متعلقًا بمصالح وأجندات القوى الخارجية الإقليمية والدولية، وأن أي تسوية مستقبلية ينبغي أن تراعي شواغل تلك الدول لأن وجود أي تقارب أو تباعد في وجهات النظر بين الأطراف الخارجية المعنية بالأزمة السورية ينعكس بشكل مباشر على حيثيات الصراع الداخلي، كما أثبتت السنوات الماضية من فشل الأداة العسكرية في حل الصراع، لذلك علينا أن نعي أنه لا سبيل لحل الأزمة السورية إلا بالتفاوض السلمي وليس بالعمل العسكري.
واستنادًا إلى ما سبق توصلت الدراسة لمجموعة من النتائج والتوصيات يمكن رصدها على النحو التالي:
- تتعدد الأطراف الإقليمية والدولية فضلًا عن الأطراف المحلية المشاركة في الأزمة السورية أسهم في تعقيد الأزمة زيادة حدة الصراع نتيجة تباين الأهداف وتعارض المصالح.
- كشفت الأزمة السورية عن حالة الهزل والضعف التي يُعاني منها النظام العربي والإقليمي بسبب عجزه عن حل الأزمة واحتوائها، الأمر الذي أسهم في تحويلها إلى أزمة دولية.
- أثبتت الأزمة السورية ضعف دور جامعة الدول العربية في إدارة الأزمة؛ نتيجة تفاعل بعض الدول العربية مع القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة رغبة منها في إسقاط نظام الأسد، بينما لجأت مؤخرًا بعض الدول العربية بالقبول بالأمر الواقع واعادة التفاعل والتعامل مع باعتباره النظام السياسي الذي يمثل الدولة السورية.
- أدى فشل المعارضة في توحيد وتنظيم جهودها وإيجاد برنامج مشترك وتعددها وتشتت قواها وحصولها على الدعم الخارجي إلى تعقد الأزمة وإطالة أمدها لصالح القوى والأطراف الخارجية المستفيدة من الأزمة.
- لعب العامل الطائفي دوره في إدارة الأزمة السورية، الأمر الذي دفع بعض القوى الخارجية لدعم النظام في حين عملت قوى أخرى على دعم المعارضة.
- أحدثت الأزمة السورية اختلالًا في توازن القوى الدولية والإقليمية وكذلك تغير في أدوار الفاعلين على الساحة الدولية والإقليمية، فلم تعد الولايات المتحدة الأمريكية القوة الوحيدة على الصعيد الدولي فظهرت بعض القوى المنافسة حال روسيا، كما ظهرت قوى جديدة على الساحة الإقليمية التي استغلت الفراغ الأمني الذي خلفته الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة اتباعها سياسة الإنكفاء على الذات في بداية الأزمة للبحث عن دور ومكانة على المستوى الإقليمي حال تركيا وإيران.
_ أبرز التوصيات المقترحة لحل الأزمة السورية:
- يجب العمل على خلق مناخ سياسي عام يحافظ على استقرار البلاد وسيادة القانون مع تشجيع المبادرات السياسية القائمة على أساس الحل السلمي للأزمة.
- إيجاد فرص لحل الأزمة السورية بطريقة سلمية ومن خلال الحل السياسي ومن خلال عقد مؤتمر دولي يجمع كافة أطراف الصراع في سوريا لوضع خارطة طريق تسهم في تعزيز الحل السلمي من خلال مرحلة انتقالية بإشراك كافة مكونات المجتمع السوري.
- العمل على بلورة موقف عربي وإقليمي وتوخي المزيد من الحيادية في التعامل مع الأزمة السورية.
- يجب عدم النظر إلى الأزمة على أنها صراع طائفي بشكل أساسي، واعتماد موضوعية أكبر في التعامل مع الأزمة.
- وضع استراتيجية واضحة ومحددة حول كيفية ضمان نجاح المرحلة الانتقالية واعطاء دور أكبر للأمم المتحدة من مجرد القيام بمهمات إنسانية وتنسيقية بين الأطراف.
- تعزيز فكرة الدولة الحديثة في الفكر السياسي العربي وتجاوز القبلية والطائفية في بيئة العقل العربي.
أضف تعليق