عانت النساء في شمال شرق سوريا، أو ما يعرف بمنطقة الجزيرة السورية، من صور نمطية اختلفت طبيعتها بين الماضي، والحاضر، أو بين ما قبل الحرب، وما بعدها. فإذا عدنا بالزمن إلى ما قبل العام 2011، سنجد أنّ الصورة التي سادت عن النساء هناك أنهنّ «قاطفات للقطن، أو راعيات للأغنام، تهيمن عليهن السلطة الذكورية، ويسكنّ في خيم سود، ويرسمن كحلاً أسود بأسلوب بدوي، ويتحدثن بلهجة لا تمت للهجات المحكية في سوريا بصلة»، هذا في حال ألقي الضوء عليهن أساساً، إذ كان ثمة تهميش لهنّ في وسائل الإعلام المحلية، وحتى في المسلسلات، كحال كلّ شيء يتعلق بـ«الجزيرة».
يتشابه قول زميلتي ابنة الساحل السوري التي تسكن دمشق، مع ما ردّده كثرٌ قابلتهم في مدن سورية مختلفة، صورة تعاكس الصورة النمطية الغابرة ساهمت في بثّها النقلة الإعلامية الكبيرة التي شهدتها مناطق شمال شرق سوريا، ولكن المعاينة من قرب قد تُثبت أن الصورة المعاصرة نمطية بدورها!
«الشرف»… اللعين!
تعيش النساء، والفتيات، في شمال شرقي سوريا ضمن محيط متنوّع ديمغرافياً، سواء أكان دينياً، أو قومياً، أو عرقياً، وهو تنوّع لا بدّ أن يلاحظه زائر مدينة كالحسكة حيث يبعد الجامع شارعاً واحداً عن الكنيسة، ويبرز تمايز في اللباس، أو حتى في الملامح، وسط تنوّع اللغات كالعربية، والكردية، والأرمنية، والسريانية، وغيرها.
غير أنّ الشيء الوحيد الذي قد يتشاركنه هو همومهن في ظلّ مجتمع تهيمن عليه العشائر ذات القوميات المختلفة، وهي، وفق الشائع، أجسام مجتمعية تُشبّه بـ«الدويلات الصغيرة» في ظلّ فرض زعمائها، ورؤساء الأفخاذ فيها قوانين لا يُسمح لأحد بتجاوزها، وبخاصة النساء، والفتيات.
قد تُقتل فتاة لمجرّد أنّها أحبَّت رجلاً وخرجت برفقته إلى مكان عام، أو لأنّها ترفض زواجاً دبِّر بغير موافقتها، فيما تُقتل من تتهم بالزِّنا على يد أيّ شخص تربطها به صلة قرابة.
يروي محمد، السبعيني الذي تمرّد يوماً على مجتمعه العشائري حادثة من هذا القبيل: «قتل أخته لأنه شافها بالشارع عم تتمشى مع زلمة غريب، فوراً حكم عليها إنها راحت معاه ع بيته ونامت معاه، شحطها من شعرها ع البيت بعدما تهجم ع الزلمة اللي معاها، ولما وصل على بيتهم ذبحها بالسكين قدام أبوها وأمها والجيران».
يضيف: «كلهم سمعوا صوتها وهي عم تستنجد وتقول: والله بريئة!! للأسف ما حدا ساعدها، وطلع بعدها (القاتل) قدام الناس المجتمعين وقال عبارة: غسلت عاري! هيك يعني هو صار شريف!! قتل أخته بكل دم بارد، وللأسف لمن إجا الطبيب الشرعي والشرطة أثبتوا أنه البنت بتول»، ثم يقول مستدركاً: «لكن رغم هيك، ولأنه القانون السوري وقتها ما بينصف النساء، انسجن شهرين تلاتة وطلع بحجة إنها جريمة شرف».
يتابع السبعيني: «من وقتها أنا طلعت من العشيرة وتبرّيت من قوانين المجتمع والدولة كلها، صار عقلي وضميري هنن كل شي بالنسبة إلي، وعاملت بناتي وزوجتي على هاد الأساس».
وقعت تلك الجريمة قبل العام 2011، فيما تذكر أحدث إحصائية لـ”منظمة سارة لمناهضة العنف ضد المرأة” في شمال شرقي سوريا، أنّ جرائم القتل بذريعة الشرف المماثلة بلغت 27 جريمة في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي.
وانتشر خلال هذا العام فيديو لفتاة قتِلت بدم بارد على يد أولاد عمومتها في حيّ من أحياء الحسكة الجنوبية لمجرّد رفضها الزواج بأحدهم، ولا يزال القاتل حيّاً يرزق رغم وجود أنظمة وقوانين تفرضها الإدارة الذاتية المسيطرة على معظم أحياء منطقة الجزيرة، ومدنها، ورغم إلغاء دمشق للمادة 548 من قانون العقوبات السوري رقم 148 للعام 1949؟ / «المتعلقة بمنح العذر المخفف لجرائم الشرف»).
العنف على أساس النوع الاجتماعي
قد تعترض بعض القارئات بحجة أنّ وضع النساء في المرحلة الحالية «صار أفضل بكثير، ولا يجب حصره بعادات بالية لبعض العائلات»، كما أنّ الاعتراض قد يأتي من ذكوريين يرافعون عن موقفهم بتساؤلات على غرار «ألم تحصلن على ما أردتن الوصول إليه؟»، مضافاً إليها خلاصات من قبيل «لقد أصبحت النساء هنا أكثر تحرراً، وتمرداً، ولم يتساوين مع الرجل فحسب، بل تغلّبن عليه أيضاً!».
غير أنّ الوضع الذي «صار أفضل بكثير» يكاد يقتصر على حالات فردية قد يلعب فيها الانتماء القومي دوراً مهماً، فالفتاة العربية لم تبلغ ما بلغته الفتاة الكردية في المنطقة لأنّ أعراف العشائر العربية أشدّ صرامة من نظيراتها الكردية. رغم ذلك، فإنّ الغالبية منهن معرّضات للعنف القائم على أساس النوع الاجتماعي، أيّاً كانت قوميتهنّ، أو دينهنّ.
تعرّف وكالات الأمم المتحدة العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي بأنّه «مصطلح شامل لكل فعل مؤذ يرتكب ضد إرادة شخص ما، ويعتمد على الفروق المحددة اجتماعياً بين الذكور والإناث (النوع الاجتماعي)»، فيما أعلن أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في آذار/مارس الماضي خلال فعالية ركّزت على الدور الذي يتعيّن على الفتيان، والرجال، القيام به للمساعدة في القضاء على هذا النوع من العنف، أنّ العنف ضد النساء، والفتيات، قد يكون «أطول جائحة فتكاً في العالم».
وتقول الأمم المتحدة إنّ هذا النوع من العنف «يشمل الأفعال التي تلحق الأذى الجسدي، أو الجنسي، أو العقلي، أو أشكالاً أخرى من المعاناة، والإكراه، والقيود على الحريات الشخصية، ولها عواقب طويلة المدى على الصحة الجنسية، والجسدية، والنفسية للناجين/ات».
قد تُجبَر الفتاة في شمال شرقي سوريا على الزواج بابن عمها لأنّ والدها قطع عهداً لأخيه لا يجب الإخلال به، وإن كان ذلك على حساب ابنته، بل قد تُكره المرأة المعنّفة على أساس النوع الاجتماعي على أن تزوّج عنوةً بأخ زوجها الذي قضى بحجة الحفاظ على الأطفال، وحرصاً على بقائهم في العائلة نفسها.
أيضاً، قد تعنّف بعض الفتيات لعزوفهن عن الزواج، ما يضعهن في وجه مجتمع يحدد عمراً معيناً يبدأ من بعده لومهنّ، والضغط عليهن، ولعلّ العبارات الشائعة الآتية خير دليل: «هذول البنات كل النهار ياكلون، إيمتى نجوزهن ونخلص منهن؟»، أو: «إذا توصلين المريخ وما تزوجتي ما رح تكونين ناجحة!»، أو: «البنت عار ولازم نخلص منها (…) البنت ضيفة ببيت أهلها».
تقول هدى التي تجاوزت الثلاثين ولم تتزوج لأنّها قررت الارتباط بشخص ترتاح معه: «أبوي يضربني كل يوم ويبهدلني ويحرّض إخواتي الصغار إنهم يعَيروني لأني ما تزوجت، وممنوع أشتغل برا البيت لأني أوّل ما تخرجت من الجامعة تأخرت ساعة بعد دوامي لأن كان في شغل إضافي، ومن وقتها انحرمت من الشغل. صار شغلي الوحيد إخدمهم بالبيت وإتعنّف، هي غير كلام الناس ونظرة الشفقة من اللي حواليي».
وتضيف: «ياريت إقدر أخلص من البيت والعذاب اليومي، أحس حالي عبارة عن نكرة معنفة وبدون أي قيمة، صرت أخجل آكل كثير لأنو يزعجهم هالشي. ياريت يجي أي حدا يتزوجني وأخلص من هالعذاب».
يزداد هذا الضغط المجتمعي على العازبات في الجزيرة السورية في ظلّ الاضطرابات التي تعيشها المنطقة، ولكنّ وجود حالات مثل حالتي خديجة، وهدى، وغيرهن، لا يعني أبداً غياب العائلات التي تحترم قرار بناتها، أو تدرك أنّ تأخّر الزواج ليس بالضرورة بيد الفتاة.
تحرّش وابتزاز
لا يتوقف الأذى عند حدود العنف الجسدي، أو اللفظي، إذ قد تواجه الفتيات، والنساء، التحرّش، والابتزاز، بسبب هشاشة موقعهن الاجتماعي. وقد تعرّضت خلال العام الحالي مديرة واحدة من أكبر المؤسسات الإعلامية في شمال شرقي سوريا لابتزاز إلكتروني من قبل شخص مجهول أرسل لها عبر تطبيق «مسنجر» صوراً مركبة لامرأة عارية الصدر مهدّداً بنشرها، ولكنّها سبقته إلى نشر المحادثة كاملة، وأثبتت أنّ الوجه لصورة قديمة لها كانت قد استخدمتها صورةً لصفحتها الشخصية (بروفايل).
أن تنجح إحداهن في التغلّب على متحرّش، وأن تكون جريئة إلى هذا الحد، هو أمر حرج في غالبية الأحيان إلى درجة قد يصعب الحديث عنه بين أوساط الفتيات، كأنّ اعترافهن بما تعرضن له من تصرّفات غير أخلاقية كالتحرّش، أو الابتزاز، هو وصمة عار لهنّ.
تقول سيدرا، التي شاء القدر أن تبقى على قيد الحياة: «تعرفت إلى شاب عن طريق الانترنت وعشنا قصة حب جميلة كانت ستكلل بالزواج عند زيارته البلاد، لكن بعد ستة أشهر من تعارفنا قال إنّه يريد ممارسة الجنس معي قبل الزواج، وعندما رفضت هددني بنشر صوري دون حجاب على مواقع التواصل الاجتماعي».
تتابع: «عشتُ أسبوعاً في الظلام، والخيبة، والخوف من أن يفعلها فيقتلني أهلي، إلى أن أخبرت صديقة لي تعيش في ألمانيا ونصحتني بأن أهدده بأنني سأخبر الجهات الألمانية بأنه يزور سوريا، وبهذا سيُرحل من ألمانيا لأنه ليس في حاجة إلى لجوء، وهكذا تخلّصتُ منه».
قد يؤدي الابتزاز الإلكتروني، والتحرّش اليومي عبر منصات التواصل الاجتماعي، إلى الأذية المهنية المباشرة أيضاً، على غرار ما حصل مع، هبة التي حُرمت من العمل في أهم منظمات المجتمع المدني المحلية رغم إتقانها لغات أجنبية، ونجاحها في اختبار العمل، وصداقة مدير المنظمة مع العائلة. لكنّ ما حدث معها لم تتوقعه:«حرمني من الشغل مع أنه بيعرف أنه ما حدا يستاهل هالمكان غيري، قبل بيوم من المقابلة الشفهية حكى معي ع واتساب وبلّش يتحرش فيني. عملت حالي ما شفت الكلام، ورديت عليه بعدما حذف كلامه لأنه ندم عليه، أو خاف إني صوّر المحادثة».
تضيف: «تاني يوم خلّا قسم الموارد البشرية يتصلوا فيني ويقولولي إني غير مؤهلة للقائمة القصيرة، وأنه كان في غلط بالنتيجة!»، لتكون كغيرها ضحية الظلم المجتمعي المتنوّع الذي يلحق بالنساء، والفتيات، في الجزيرة السورية.
للقراءة الكاملة :
أضف تعليق