إنشاء سجل Sign In

متاعب مواطن يدعى صحفي!

عندما تسأل الصحفي عن الصعوبات التي يواجهها أثناء عمله، سيتذكر فوراً المقولة الدّارجة “الصحافة مهنة المتاعب”، وكيف سيكون حال الصحافة في بلدنا التي قاست الويلات خلال هذه الحرب الظالمة، وتداعياتها إلى هذا اليوم وتأثيرها على الناس في كل الجوانب خاصة الجانب الاقتصادي والاجتماعي، ومازاد الطين بلة ركوب الفاسدين على موجات هذه الأحداث ضاربين بعرض الحائط كلّ القيم والمعايير والتضحيات الجسام لأبناء هذا البلد، بحيث باتوا كالأشباح من المستحيل حصرهم في أي زاوية هائمين في كل مكان، ولا يمكن أن تحصل على أي معلومة عنهم.

بالطبع لا يعني هذا أنّ الصعوبات التي يواجهها الصحفي لم تكن موجودة قبل الحرب، كشح المعلومات وقلة المصادر وعدم موثوقيتها أحياناً، الذي جعل عمل الصحفي في سوريا نحتاً في الصخر.

بين سندان سياسة المؤسسة ومطرقة الجمهور والقوانين

تفرض المؤسسة الصحفية بإدارتها ومموليها “خطوطاً حمراء” خاصة بها، تتناسب مع اتجاهاتها السياسية وأهدافها ومشاريعها المختلفة، وذلك يفرض على الصحفي سقفاً وحدوداً لاختيار القضية التي يريد تناولها ومتابعتها في عمله، الأمر الذي قد يطبق على أنفاسه ولا يترك له مجالاً للحديث بحرية وشفافية عن خطأ هنا أو سوء حال هناك، إذ لا يمكنه تناول الأسباب ولا الخوض في آثاره، حتى ولو “بتلميح خجول”.

وإن حاول الصحفي الاستناد إلى القوانين التي وضعت لتنظيم عمله وحمايته، سيجد أن نصوصها  تكاد تكون حبراً على ورق، أو أنها لا تعمل بشكل فاعل على أرض الواقع، فقانون موجود ولا يطبق أخطر وأكثر ظلماً من قانون غير موجود أساساً.

وأمّا الرسالة الصحفية وإن وصلت –رغم صعوبة ذلك– إلى الجمهور المستهدف، ستغدو محطّ سخرية من أناس فقدوا إيمانهم بجدوى صحافتهم ووسائل إعلامهم، أناس أتعبتهم الحرب حدّ الغضب، يبحثون عمّن يلقون اللوم عليه، ويلبسونه ذنب ماهم فيه كاملاً، علّ القصاص يجلب شيئاً من عزاء.

في الوقت الذي تحاول وسيلة الإعلام الوقوف كتفاً لكتف مع الجماهير، والتفاعل المباشر مع مطالبها، محاولة إيصال صوتها ربما تجد حلاً أوعلاجاً لمشاكلهم وقضاياهم، هناك من يقبع في الظل “يقطع الطريق” على كل من يضر بمصالحه، لكن اللوم كله سيقع على الصحفي.

وليس هذا أسوأ ما قد يتعرض له الصحفي حقيقة، إنها طبيعة عمله اليومية التي خبرها منذ قرر خوض غمار العمل الصحفي.

بين الحلم والواقع.. تتجلى القصة

يبدأ الصحفي مشواره المهني في المؤسسة واضعاً إمكانياته وطاقته تحت تصرفها، يعمل ويجتهد بمهام وتجارب يخوضها، حاملاً طموحاً وشغفاً كبيراً، عاقداً العزم على أن يكون صوت الحق، حالماً بالتغيير والتأثير في المجتمع… لكن ما الذي يحصل؟

يكتشف الصحفي ومنذ بداية الطريق، أن تعليمه الأكاديمي والذي حصده في الجامعة لم يحصنه بالقدر الكافي من المعرفة والخبرات، فهذه المهنة تحتاج المزيد من الوقت لصقلها، والطريق ما تزال في بدايتها، وعليه الجد والاستمرار بالعمل، والمزيد من التحمل والصبر كي يستطيع الوصول للمعلومات التي يبحث عنها، والأسئلة التي يحتاج إجابات عليها؛ لكن غالباً ما تكون الأبواب موصدة يصعب فتحها “إلاً لمن رحم ربّي”.

لن يجد اليأس طريقاً لقلبه، سيتحسس الطريق ويتابع  في ظلام التجربة، ستتوسع حدقتاه، ليكتشف عتمة المحيط، سيخطو في حقل ألغام، فإما أن يعتاد المشي بينها، أو يحسن الرقص بينها، أو تلقنه دروساً لن ينساها أبداً، وربما درساً واحداً يكفيه ليكون الأخير.

خاصة إن كان صحفياً مبتدئاً لا يمتلك من التجربة ما يكفيه ليخوض معركة لا تحكمها قوانين وإن وجدت فلا قوة لها في الواقع، ويبقى سلاحه الوحيد قلمه والكلمة فقط.

في التجارب الأولى

في بداية العمل سيختار الصحفي نوع الكتابة الصحيفة التي سيبدأ بها تجربته العملية وهذا بالفعل قرار محير، هل سيكتب التقرير أم المقال أم التحقيق الصحفي؟

لربما ستدفعه صدفة أو ظرف ما ليكون مراسلاً ميدانياً.. بكل الأحوال الأمر يحتاج لإرشاد ونصيحة وتدريب.

وإذا ما اختار الصحفي كتابة تحقيق عن فساد في مكان ما، عليه أن يكون ملمّاً بالقصة بكل تفاصيلها، حاصلاً على الوثائق والمعلومات المؤكدة، محصناً بالمعرفة القانونية وما يكفي من العلاقات الواسعة والحماية المؤسساتية.

أما إذا كان مراسلاً يعمل في تغطية النزاعات والحروب، فعلى الصحفي أن يحيط بأبسط التفاصيل، صاحب دراية وعلم بما يحصل حوله، مؤهلاً لاختيار الكلمات والصياغة المناسبة للمواقف العسكرية والقانونية، بالإضافة لحاجته للتدريب البدني والذهني، حتى يكون قادراً على حماية نفسه والتعامل مع ظروف المعركة التي يكلف بتغطيتها.

ولا يخفيكم سراً أنّ أجر السّبق الصحفي في ميدان المعركة والذي يمكن أن يكلف الصحفي حياته، لن يفوق كثيراً المصروف المدرسي الذي أعطاه لابنه صباحاً ولم ينل إعجابه!

فالأجر المادي الذي يتقاضاه لن يكفيه ليوم واحد، ولا حتى سيغطي تكاليف مهمة نقله لخبر ما، أو رحلة بحثه عن  بعض المعلومات.

وفي الكتابة لمقال الرأي، فالثقافة والاطلاع الواسع شرط ضروري لكاتب هذا النوع الصحفي الهام، المعرفة هنا تحتاج لدقة وعمق، وإبداء الرأي يحتاج لشجاعة ووضوح الرؤية، فالكتابة بعفوية المبتدئين وقاموس محدود الكلمات، ستكشف الصحفي وتوضح إمكانياته وعمق معارفه وثقافته، وربما تصل به لمتاعب جمة، منها المواجهة القضائية، وفي أفضل الأحوال القليل من الضغط الإداري لمنع نشر المقال، أو “عقوبة ع الماشي”.

وبعدها قد تولد “فكرة الاستسلام”، حيث يدرك الصحفي عدم كفاءته ونقص أدواته وضعف قدرته وقدرة مؤسسته على المواجهة في معارك محتملة، وهذا يقوده إلى اختيار الخوض في معارك ناعمة وغير مكلفة، تناسب ما لديه ولدى مؤسسته من شجاعة وإيمان.

مهارات ماذا لو فقدت؟!

أن يمتلك الصحفي الفطنة اللازمة، ويتعلم المرابطة خلف ساتر آمن، قبل أن يطلق الحقيقة بتصويب من رصاصته الأخيرة، ليعود ويبحث عن ساتر جديد يختبئ خلفه بانتظار لحظة آمنة قادمة، عليه أن يتعلم كيف يفتح كنانة الكلمات الواسعة، ينتقي منها ما يصيب قلب الحقيقة لتصل إلى الغاية المنشودة، ليثبت لمن يكافح في سبيلهم أنه “وإن لم يصب الهدف” موجود من أجلهم فهو لم يبع وهماً ولم يرتهن إلّا لنفسه ولقضية آمن بها.

وإن كان غير مهيأ لهذه الرحلة سيفقد إيمانه بنفسه، وسيبدأ بتغيير قواعد معركته، وقد يروق له ما خلف الساتر، فيبقى هناك وإذا أراد أن يفتح جعبة كلماته فلن يجد فيها إلّا ما يؤذيه أولاً.

الوقوع في الفخ

إن نقص الدعم وصعوبة ظروف العمل الصحفي، قد تدفع الصحفي للتخلي عن واجبه، والتغاضي عن قناعاته وأخلاقيات مهنته، وقد يمتهن الترويج للسطحية (تحت مسمى الترفيه)، يدفعه لذلك العديد من العوامل، بما يتناسب مع توجه تجاري لإدارة مؤسسة تجارية، أو خوفها من بطش فاسد نافذ، أو دخل مخجل يتقاضاه، فالصحفي الذي لا يجد في نفسه الاستعداد والكفاءة والمهارات اللازمة لمواجهة الفساد والتمسك بمسؤوليته المجتمعية، سيستسهل الطريق ويبحث عن طريق آخر، ولربما سيعمل ضمن  “ثقافة التريند” المنتشرة في الوقت الحالي.

وباختياره لهذا التوجه، سيتخلى عن دوره الإنساني والأخلاقي في مواجهة خصوم المجتمع، وسيرمي القضايا الكبرى خلف ظهره، أو يفرغها من مضامينها، وسينخرط في ثقافة التريند التي ستجعله يدفع ثمناً باهظاً من سمعته المهنية.

قد ينجر بوقت ما نحو خطاب الكراهية، ضارباً أخلاقيات المهنة بعرض الحائط، فأعداد المشاهدات والـ “لايكات”، والـ “شيرات”، دليل ومؤشر نجاح خياره الأخير في الوصول للتريند.

إنّ ما تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي من “بيانات الوصول”، هو معيار القيمة التي يقدمها في عمله ذو اللون الأصفر، وسيكون بعناوين جدلية ومحتوى يبرر عمله بقاعدة “الجمهور عاوز كده”، وفي مثل هذه الحالة سيختبئ خلف نظريات “سيكولوجيا الجماهير”، و “جمهور التفاهة”، ليبرر انخراطه في “الصحافة الصفراء”، التي لا قواعد لها ولا مبرر إلا حجم العائدات.

إنقاذ ما يمكن إنقاذه

إن سعي المؤسسات على تدريب وتأهيل كوادرها بكل ما تحتاج له على الصعيد المهني والتقني سيجعلهم أكفّاء، قادرين على مواجهة التحديات، التي تفرضها المهنة عليهم، وبالتالي حمايتهم من هدر وقتهم وطاقاتهم في تجارب قد يكونوا بغنى عنها.

حتى يتم تجاوز الأسوأ قانونياً، فإن المؤسسات والأفراد من الصحفيين بحاجة للشريك الاستشاري القانوني، أبوابه مفتوحة دائماً، فالصحفي الأكثر إزعاجاً للفاسد هو من خبر قوانين مهنته التي ستحميه من نار الفساد التي لا تحرق إلا القشّ،”والقش هنا” صحافي يغامر دون معرفة بالقانون.

كل ما يمكن وصفه بـ “صعوبات يواجهها الصحفي”، يعايشه العاملون في الصحافة السورية يومياً، لكن أسوأ ما يمكن أن يقع فيه الصحفي اليوم، هو أن يكون حيث لا يجب أن يكون، وبالتالي يخسر نفسه ويخسره مجتمعه، فنجد مكان الإله أيقونة، ومكان الحارس الأمين لصّاً كبيراً.

لقراءة المقال كاملاً:

المقالة السابقة
تدريب المناصرة في مؤسسة مَوج التنموية
المقالة التالية
برنامج Radar Sofia للتبادل الثقافي

أضف تعليق

Your email is safe with us.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X